تسليط الأضواء على كاتب بسبب جائزة ظاهرة غير صحيّة
يتحدث الكاتب والروائي المصري بهاء طاهر، في هذا الحوار، عن الجوائز التي يتم بفضلها تسليط الضوء على الكاتب المتوج بها، مؤكدا في ذات الوقت أنّ الضوء الّذي يُسلط على الكاتب بسبب جائزة ما هو ضوء طارئ وهو أيضا بشكل ما نوع من العجز عن متابعة الحياة الثقافية بشكل سليم. طاهر، تحدث أيضا عن الرواية وقال بأنّها هي مغامرة في حد ذاتها، وذهب إلى القول أنّه قد يكون هناك موت بسبب رواية، فالرواية مثلا أدت إلى طعن نجيب محفوظ في رقبته وكاد يموت، كما أدت إلى قتل بعض الكُتاب في الجزائر وأدت إلى نفي بعض الكُتاب في مصر، وهي بهذا مغامرة غير محمودة العواقب. كما تحدث صاحب «واحة الغروب» عن الرواية التاريخية والرواية الجزائرية. وعن مقولة موت الشّعر وانحساره لصالح الرّواية. وعن اشتغاله بالترجمة، وغيرها من الأمور الأخرى ذات صلة بالسياق العام للحوار.
حاورته/ نـوّارة لـحـرش
نلت العديد من الجوائز، منها جائزة إيطالية عن روايتك «حب في المنفى» المترجمة للإيطالية وقبلها نلت جائزة البوكر العربية في طبعتها الأولى واحتفيَّ بك وبكتبك بشكل كبير، لكن برأيك هل من الضروري أن ينال الكاتب جائزة أدبية ما حتى يُسلط عليه وعلى أعماله الضوء المكثف؟
بهاء طاهر: هذا سؤال بالغ الأهمية في الواقع وقد أجبت عنه في أكثر من مرّة. أنا أعتقد أنّ تسليط الأضواء على كاتب بسبب جائزة ما نوع من العجز عن متابعة الحياة الثقافية بشكل سليم لأنّ الكاتب الّذي حصل على جائزة معنى هذا أنّ له إنتاج كان جديرا بأن يلقى الاهتمام من النُقاد ومن المهتمين بالحياة الثقافية أمّا ألا يلتفتوا إلى هذا العمل إلاّ بعد حصوله على جائزة فهذه ليست شهادة من الحياة الثقافية بأنّها حياة ثقافية صحية وكم من أعمال لم تحصل على أي جوائز ولن تحصل على أي جوائز وهي جديرة بكلّ حفاوة وتكريم ولكن لا أحد يلتفت إليها.
هناك في بلدنا وفي غير بلدنا من أقطار الوطن العربي شبابٌ في العشرينات من عمرهم يكتبون كتابة بديعة وجديرة بأن يُسلط عليها الضوء وجديرة بأن تحتفي بها الحياة الثقافية والنقدية ولكن لا أحد يلتفت إليها. أتخيل لو حصل أحدهم على جائزة ما فكلّ الأضواء ستُسلط عليه ولكن هذا ليس دليلا على أنّنا نعيش حياة ثقافية سليمة.
أين يكمن الخلل برأيك؟
بهاء طاهر: والله أنا أرى أنّ الخلل متعدّد الجوانب، الخلل يشارك فيه الحياة الثقافية والإعلام (وخليني أكون أكثر تحديدا) وزارات الثقافة في الوطن العربي والصحافة والتلفزيون والإذاعة والأجهزة التعليمية، دعيني أضرب لك مِثالا طالما أحب أن أذكره، عندما كنتُ طالبا في المرحلة الثانوية كان وزير المعارف أو التربية والتعليم الآن هو الدكتور طه حسين وكان ينفذ الفلسفة التي نادى بها في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» ففي هذا الكتاب كان يدعو إلى أن تكون القراءة الحرة هي ثلث المنهج التعليمي فكان يرى أنّ القراءة الحرة التي ليست موضوعا لامتحان آخر العام وليست من الأشياء التي يُكلف التلاميذ بأداء واجبات عنها كان يرى أنّ هذه القراءة أفيد بكثير جدا من المناهج الرسمية في تكوين وعي الطالب وقدرته النقدية وطبقَ هذا عندما كان وزيرا للتربية والتعليم والتي كانت تُسمى في ذات الوقت كما قلت لكِ وزارة المعارف. وكنتُ أنا أيّامها تلميذا في المرحلة الثانوية فكانت تُوزع علينا مجانا كُتب كِبار الكتاب لمجرّد الإطلاع عليها لا لهدف آخر، لا لكي نمتحن، ولا لكي نسأل عنها كفروض وواجبات.. فمن هنا كان يبدأ الاهتمام بالثقافة من المرحلة التعليمية، الآن منذ عشرات السنين لا يوجد عملٌ إبداعي واحد يُقدم للتلاميذ في المراحل الابتدائية أو الثانوية، أظن أنّ العمل الوحيد الّذي قُدم هو بعد حصول الأستاذ نجيب محفوظ على جائزة نوبل هو رواية «كفاح طيبة» كنوع من سد الذرائع لا أكثر ولا أقل، وربّما أيضا كِتاب العقاد «عبقرية عمر» فقط لا غير ولا شيء آخر. كما قلتُ أيضا هناك أجهزة رسمية مسؤولة كوزارة المعارف والتربية والتعليم ووزارة الثقافة ووزارة الإعلام المسؤولة عن التلفزيون والمسؤولة عن المتابعة للصحافة وغيرها، أيضا الجمهور العام أو الرأي العام الّذي أصبح يفرض نوعا من التعتيم على الإبداع الثقافي لصالح الإبداع الديني، طبعا لا أقصد الإبداع الديني الحقيقي، فالإبداع الديني شيءٌ عظيم جدا، لكن لصالح الإبداع الّذي يهتم بالجوانب الشكلية في الدين كعذاب القبر وصور العذاب في الجحيم وما أشبه وأصبح كما لو كانت الكتابة الأدبية نوعٌ من العار الّذي يتنصل منه الشباب ولا يقرأ أعمالا أدبية كما لو كانت عارا أو شنارا.
يحزنني تراجع المد القومي
هناك عدة عوامل، عوامل حكومية عوامل من الجمهور العام عوامل من المثقفين أنفسهم، فتجدين أنّ المثقفين بدل من أن يتضامنوا في هذه الظروف تجدين النزاعات القُطرية تلعب دورا هائلا في تحركاتهم وفي دعواتهم، تجدين الشِلل الأدبية وما يُسمى بالتيارات، طبعا هذا شيءٌ صحي إذا كانت التيارات تتنافس في ما بينها لكي تعرض صورة لما تتخيله لصالح الأدب، فهذا جميل. ولكن تجدين من يُسمون بتيار ما بعد الحداثة في حالة عِداء مطلق مع من يسمون أنفسهم بالحداثيين وهؤلاء في حالة عداء مطلق مع من يسمون أنفسهم بالتقليديين، فالصورة في غاية الرداءة من جميع الجوانب، الجوانب الرسمية والشعبية والثقافية، صورة في غاية الرداءة، وقد كتبت كِتابا اسمه «في مديح الرواية»، قلتُ فيه بعد المقدمة التي شرحت فيها الوضع السيئ الّذي تعيشه الثقافة العربية: «إنّني في غاية الدهشة أنّه مازال هناك جمهورٌ قارئ أي حتى لو كان جمهورا ضئيل العدد ولكن أنا في غاية الدهشة أنّه مازال موجودا لأنّ كلّ الظروف مُعاكسة وكلّ الظروف تؤدي إلى عدم وجود تُراث في القراءة الصحية والايجابية».
ألا ترى أنّ الغربة للكاتب أحيانا ضرورية من أجل اشتغال ما، من أجل رواية ما، كي يستثمرها ويستثمر طقوسها وطقسها ويشتغل عليها؟
بهاء طاهر: أنا أعتقد أنّ كلّ كاتب في لحظة الكتابة ينفصل عن ما حوله لكي يضيء ما حوله لا لكي يبتعد عنه، فإذا كنتِ تقصدين هذا النوع من الابتعاد فأنا أعتقد أنّ كلّ كاتب يُمارس هذا النوع من الابتعاد سواء أكان في داخل وطنه أو في خارج وطنه. ولكن دعيني أيضا أضيف إلى ما سبق وأن تحدثت عنه من مشاكل وهموم الإبداع العربي همًا أساسيا وهو هم الشوفينية الثقافية. أنا تربيت في عصر الازدهار القومي عندما كُنا طلبة في المدارس الثانوية كُنا نخرج في مظاهرات ونتعرض للقمع من الشرطة لمجرّد أنّ هناك مثلا اعتداء من الفرنسيين في تونس على بنزرت أو غيرها وكنا نشعر أنّ كلّ ما يدور في الوطن العربي يخصنا بشكل شخصي، وعندما تخرجت من الجامعة عملت في الإذاعة وكنت أعمل في إذاعة صوت العرب وكان العمل أشبه بالرسالة وكنت أعمل تحديدا في ما يُسمى إذاعة المغرب العربي والجزائر لم تحصل على استقلالها في ذلك الوقت وكان زملائي في نفس المكتب يقدمون «هنا صوت الجمهورية الجزائرية» التي كانت تذاع من القاهرة ومن هذا المنبر قدمت أعمالا باسم «قصة عربية» لروايات محمد ديب ومولود فرعون وكاتب ياسين وغيرهم من كِبار الكُتاب الجزائريين في ذلك الحين وكُنا نشعر عندما نُقدم هذا العمل أنّنا نساهم بشكل ما مع أخوتنا في الجزائر في معركتهم من أجل الاستقلال. مثل هذه الرّوح التي كانت لا توجد الآن، ولا أشك لحظة أنّ مثل هذه الرّوح التي كانت تحذونا نحن الشباب في مصر ذلك الحين هي نفسها التي كانت تحذو الشباب في الجزائر وتونس وسوريا وفي كلّ أنحاء الوطن العربي. وفي الوقت الحالي هذه الرّوح غير موجودة.
هذا ما يحزنني أشد الحزن ويحزنني أكثر ما ذكرته عن تلك النزعة التي تكاد تتنصل وتدير ظهرها إلى هذا الماضي العظيم، ماضي ازدهار المد القومي. ولأنّ المد القومي هو الّذي كان يجعلني أهرع لكي أقرأ الأعمال التي يكتبها الكُتاب اللبنانيون والكُتاب السوريون والكُتاب الجزائريون وربّما الّذي كان يحذو الكُتاب السوريين لأن يقرؤوا كُتاب مصر وكُتاب الجزائر، مثل هذه الرّوح لم تعد موجودة.
لماذا برأيك؟
بهاء طاهر: تسألين في ذلك الساسة لا الأدباء والسياسة لا الأدب، ومع أشد أسفي يُسأل في ذلك أيضا المثقفون الذين يواكبون تقلبات السياسة والذين يتملقون الساسة والذين يمتدحونهم بالحق وبالباطل.
الروائي الكويتي طالب الرفاعي يقول: «الرواية مغامرة لا خطورة فيها» فما رأيك؟
بهاء طاهر: هي مغامرة في حد ذاتها سواء بخطورة أو بغير خطورة، لكن أن يكون هناك موت بسبب رواية فأعتقد أنّها أدت إلى طعن نجيب محفوظ في رقبته وكاد يموت، وأظن أنّها أدت إلى قتل بعض الكُتاب في الجزائر وأدت إلى نفي بعض الكُتاب في مصر، إذن فهي مغامرة غير محمودة العواقب.
لا أعتقد أن أحدا يعرفني في الجزائر!
وعلى المستوى الداخلي للرواية والمستوى الجمالي هي على قدر من المغامرة؟
بهاء طاهر: طبعا هي مغامرة باسمرار، مغامرة دوما.
ماذا عن الرواية التاريخية، هل أبدعت وتحققت على المستوى الجمالي أم لا؟
بهاء طاهر:على مستوى العالم قليل من الروايات التاريخية هي التي تعيش، وأعتقد على مستوى العالم كله، الآن الروايات التي تسعى إلى حذو التاريخ خطوة بخطوة سرعان ما تموت لا بدّ لمن يكتب رواية تاريخية أن يبدع شيئا ذا قيمة، قيمة إنسانية باقية. أعمال كاتب مثل ولتر سكوت مثلا لن تعيش ولم تعش أيضا هي أشبه بالتقارير وهي مثل أعمال جرجي زيدان أيضا، هي أعمال ليست باقية، فقط تُقرأ للتسلية أو تقرأ لمجرّد الإطلاع على روح هذا العصر، أو التاريخ الّذي يكتب عنه المؤلف وينتهي. يصدق هذا حتى على روايات كِبار الكُتاب التي تستند إلى التاريخ ما لم تكن متضمنة قيمة باقية تتجاوز العصر والزمن الّذي تكتب عنه.
ما هي أسئلة الرواية الآن، هل أسئلة الرواية هي نفسها، هل هي متفاوتة؟
بهاء طاهر: السؤال الأساسي لماذا أصبحنا على ما نحن عليه، أعتقد أنّ هذا السؤال هو الّذي تتفرع منه أسئلة أخرى وليس سؤال الرواية فقط، هو سؤال الشّعر وسؤال المسرح. يعني نفس السؤال في شِعر محمود درويش هو نفسه سؤال سعد الله ونوس والفرد فرج هو نفس السؤال: لماذا بدأنا بداية مُبشرة ثمّ تحولنا إلى واقع مرير؟ أنظري إلى ما يحدث في عالمنا العربي، لماذا؟ هذا في رأيي هو السؤال المحوري.
كيف تقرأ مستوى الرواية المصرية الآن؟
بهاء طاهر: في غاية الروعة، في رأيي طبعا، وليس الرواية المصرية فقط بل الرواية العربية عمومًا تعيش أزهى عصورها بالرغم من أنّ القراءة ليست في أزهى عصورها ولكن الرواية العربية من المغرب إلى المشرق تعيش أزهى عصورها. أنا قرأت كاتبة سعودية هي الأستاذة ليلى الجهني لها روايتان بديعتان وقرأت كُتابا مغاربة في غاية العظمة وهناك من مشرق الوطن العربي إلى مغربه مبدعون على مستوى الروعة ولكن ليس الحال على مستوى القراءة مثل هذا الشكل للأسباب التي ذكرتها لك. الآن قفي في أي مكان يوجد فيه كشك للكتب ستجدين الكُتب المسماة بالكُتب الدينية أهرامات، أهرامات والكُتب الأدبية جنبها لا تكاد تُـذكر، وفي شبابي لم يكن كذلك على الإطلاق، على الإطلاق.
الرواية الجزائرية كيف تراها، وهل وصلك بعض جديدها؟
بهاء طاهر: ذكرتُ لكِ أنّني أفخر بالدور الّذي قمتُ به في تقديم وقراءة الكثير من الأعمال الكلاسيكية الجزائرية لكاتب ياسين ومولود فرعون ومالك حداد والطاهر وطار وغيرهم.. وأقرأ من الكُتاب الجزائريين المعاصرين واسيني الأعرج وما يتيسر لي من أعمال الكُتاب الجُدد، وطبعا كما تعرفين نحن لا نجد الكُتب الأدبية من الأقطار العربية إلاّ في معرض الكتاب. لكن كاتب مثل واسيني الأعرج مُعروف جدا عندنا ومقروء جدا، لكن أنا مثلا لا أعتقد أنّ لي قراءً في الجزائر ولا أعتقد أنّ أحدا يعرفني في الجزائر، على الإطلاق، لا أحد يعرفني.
وأحب أن أشير إلى أنّ الكُتاب الجزائريين أيضا موجودين بكلّ فخر على الصحافة الثقافية، فمثلا القارئ لجريدة أخبار الأدب أو الملاحق الثقافية التي تصدر في مصر يعرف الطاهر وطار وواسيني الأعرج أكثر مما يعرف بهاء طاهر أو إبراهيم أصلان ويعرفون محمد برادة ومحمد شكري ومحمد بنيس والطاهر بن جلون وكلّ الكتاب والشعراء المغاربة أكثر مما يعرفون الكُتاب المصريين. من يقرأ أخبار الأدب يعرف عن الكتاب العرب أكثر مما يعرف عن كتاب مصر، أعمال الطاهر وطار تنشر مسلسلة في مجلة أخبار الأدب وكذلك أعمال غيره من الكتاب الجزائريين.
هناك ترجمات تشوه الأعمال الإبداعية و وعي القارئ و ذوقه بسبب رداءتها
ماذا عن مقولة موت الشّعر وانحساره لصالح الرّواية؟
بهاء طاهر: أنا كتبتُ ضد هذا الكلام مائة مرّة وقلت أنّ الفنون تصعد معًا أو تهبط معًا لو كان الشِّعر في مأزق فمعنى ذلك أنّ الرّواية في مأزق وهذا اتهام غير صحيح على الإطلاق. مازال الشّعر هو ديوان العرب الأوّل وأظن أنّ أكثر الأدباء رواجًا هم مثلا محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف وهم شعراء باستثناء نجيب محفوظ الّذي كان يُواكب هؤلاء في كثرة التوزيع والقراء، لا أظن أنّ أحدا من الروائيين يحتل مكانة هؤلاء الشعراء.
اشتغلت أيضا بالترجمة وترجمت بعض الروايات إلى العربية. كيف ترى الترجمة العربية الآن؟
بهاء طاهر: رديئة جدا ومُسيئة جدا. أذكر مرّة عندما كنت في ندوة اتحاد الكتُاب العرب والمصريين حول الترجمة وعندما اشتكى الأستاذ محمد سلماوي من أنّ عدد الروايات المترجمة إلى العربية يقل عن ما يترجم في بلد أوروبي متوسط قلت إنّني أتمنى لو كان العدد أقل أيضا من ذلك بشرط أن تكون الترجمة جيّدة. ولكنّي أرى أنّ هناك ترجمات تشوه الأعمال الإبداعية وتشوه وعي القارئ وذوقه بسبب رداءتها، أنا قرأت أعمالا مترجمة أتيح لي أن أقرأ أصولها الأجنبية فشعرت بحالة حزن شديدة.
ن/ل