لماذا يرفض الكاتب العربي تدخل المحرّر الأدبي في نصّه، و دور النشر من جهة أخرى لا تعير أهمية لوجوده. ألا يرى هذا الكاتب من أهميّة تذكر للدور الذي يمكن أن يلعبه المحرّر الأدبيّ؟. إذ كان المحرّر الأدبي في الغرب شريكا أساسيا في إخراج العمل الأدبي بأفضل صورة، بعد اشتغالات التقويم والعناية والتهذيب وحتى الصياغة أحيانا، فإنه في الوطن العربي يُنظر إليه بعين التوجس والريبة. لا الكاتب يستسيغه، ولا الناشر يعترف بوظيفته. وربما الكاتب أكثر لأنه يتوجس منه ولا يأتمنه على نصوصه، بل يرى دوره تعديا على خصوصية أدبه وعمله. المعروف أيضا، أنّ المحرر الأدبي غير موجود في العالم العربي، عكس بقية البلدان الغربية، حيث للمحرّر الأدبي دور في إبراز عمل الأديب. كما له أهميّة لا تقل عن أهميّة الكاتب وما يقوم به. لكن السؤال المحوري، الذي يمكن طرحه: في حال ما إذا وُجِد هذا المحرّر الأدبي حقيقة في الوطن العربي، فكيف ينظر له الكاتب، وهل يا ترى يرضى به/وعنه، ويسلمه عمله ليفعل به ما يراه مناسبا وضروريا للنّص، أو ليعيد الاشتغال عليه، أم أن الكاتب العربي لا ولن يرضى أبدا عن أي محرّر مهما كان؟. أيضا، هل يمكن أن يرى أن دور المحرّر مكمل للكاتب ولنصوصه، أم هو فائض عن حاجة الأديب والأدب؟. كُتاب وأدباء يتحدثون في ملف «كراس الثقافة» لهذا اليوم، عن «المحرّر الأدبي» و وظيفته، و دوره وعمله في متن النص، كما يتحدثون عن أسباب غيابه من خارطة الأدب العربي.
المحرر الأدبي، هي مهنة في الأدب يعرفها العالم الذي وصل بصناعة الكِتاب إلى درجة الاقتصاد وفهم جيدا قوانين سوق جديدة هي سوق الكِتاب الذي يدر على دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا وأنكلترا الملايير.
العالم العربي لا يعرف سوق الكِتاب، والكِتاب لا يزال عالة أو هامشا من الهوامش التي تشاغب على السياسة وعلى الأنظمة ولا تتدخل في سياق الدورة الاقتصادية. من هنا ظل عالم الكِتاب سوقا وأدبا خاضعا لما أسميه بالهواية بعيدا عن الاحترافية.
في دور النشر العربية لا يوجد مدقق لغوي فما بالك بمحرر أدبي. الناشر يعتقد بأن توظيف مصحح أو مدقق لغوي هو عبء مالي إضافي على الدار وبالتالي نلاحظ الكوارث في الكُتب التي تُنشر، من دور نشر عريقة وأخرى جديدة.
أعتقد أن مجامع اللغة العربية وأيضا الجامعات ومراكز البحوث في العالم العربي لم تدق الجرس، جرس الخطر، الذي يعيشه الكِتاب العربي تحريرا، لغة وسوقا حتى الآن.
وإذا كان الناشر الغارق في ثقافة النشر الهاوي لا يشغله بال المدقق اللغوي فما بالك المحرر الأدبي، كما أن الكاتب العربي نفسه يشعر بنوع من الاكتفاء الذاتي، والكمال الأدبي، فهو يعتقد بأن تدخل المحرر الأدبي في نص من نصوصه هو تحريف وهو في الوقت نفسه تصغير من قيمته الأدبية. وأعتقد أن هذه الفكرة، فكرة رفض المحرر الأدبي، في ذهنية الكاتب العربي أساسها ديني، فالكاتب العربي يعتقد بأنه يكتب شيئا يُوحى به إليه، على غرار الكُتب السماوية، ولا يزال الإبداع في العقلية العربية مرتبط بشكل كبير بالرؤية المثالية أكثر منها الرؤية التاريخية الاجتماعية الثقافية. إذا كانت دور النشر الغربية تهتم كثيرا بمسألة التحرير، التحرير الروائي والتحرير الفكري والتحرير الفلسفي والتحرير الإعلامي في ما تنشره، فإن الناشر العربي لا يهمه هذا الأمر بل يجهله من الأساس، غالبية الناشرين لا يعرفون ما معنى «المحرر الأدبي»، ولا يملكون علاقة مع الدورة الاقتصادية وسوق الكِتاب العالمي، لذلك فالكِتاب العربي غير معروف عالميا، وكثيرا من الكُتاب الذين يعتقدون بأنهم نجوم الأدب في العربية حينما يترجمون لا يهتم بهم أحد في العالم، وهذا يؤكد بأن مسألة التحرير في النص الأصلي مسألة أساسية. إن النخوة التي هي ثقافة مهيمنة على الذهنية العربية تمارس حضورها أيضا في الإبداع، فالكاتب يعتقد أنه أهم من المحرر الأدبي وبالتالي فهو ليس بحاجة إليه.
من قال أن المحرر الأدبي كارثة على كاتبٍ مهما كانت جدارته؟ لكن الإشكالية المطروحة هو ما الدور الذي يفترض أن يقوم به داخل النص الأدبي، وبالتالي السؤال عن الجهة التي يمكن أن تتعامل معه كدور النشر مثلا على اعتبار أن أغلب دور النشر الغربية والفرنسية خصوصا لديها محررها الأدبي.
غياب المحرر الأدبي في عالمنا العربي ليس نتاج عبقرية الكاتب واستقلاله وبالتالي تخليه عن الرأي الآخر إزاء ما يكتبه في نظري، بل لأن المحرر الأدبي يجب أن تتوفر فيه آليات مهمة لا يمكن الاستغناء عنها ليس أبسطها القراءة نفسها! ولا أعني القراءة بالمعنى العادي. في الغرب، لجنة القراءة تشكل محور دور النشر، وما يسمى في الولايات الأمريكية بـ»الأعلى مبيعا» يصدر عن دور نشر محكمة، تعتمد على لجنة قراءة متكونة من أساتذة متخصصين ومن قراء بعضهم يعمل سائق تاكسي، لكنهم قرّاء بأتم معنى الكلمة. هل يتوفر هذا في دور النشر عندنا في العالم العربي؟ على اعتبار أن المحرر الأدبي يفترض تواجده في دار النشر التي يتعامل معها الكاتب وليس على قارعة الطريق!.
دعيني أقول لكِ أن أغلب دور النشر تتحمل مستوى الرداءة المنتشرة بحيث حوّلت الكـِتاب إلى سلعة رخيصة في بعض الحالات كما جعلت الكاتب يسقط في فخ الاستسهال والنرجسية بحيث يصبح من الصعب استيعابه للمحرر الأدبي داخل هذا الاختلال الرهيب في الميزان الأدبي والثقافي عموما.
المسألة إذا ليست هل يقبل الكاتب بوجود المحرر الأدبي، بل في تصحيح البيت الأدبي العربي من دور النشر إلى النص إلى القارئ ليصبح للكِتاب قيمته وللنص جماليته الحقيقية كما فعلت في العشرين سنة الماضية دور النشر في أمريكا الجنوبية على أقل تقدير. المسألة كما ترين ليست سهلة والمحرر الأدبي في بلادنا العربية لن يكون غدا!.
من حيث المبدأ، لا يمكن للكاتب أن يهدر فرصة لتحسين نصه، لهذا يسعى كثير من الكُتاب إلى عرض أعمالهم على أصدقائهم قبل نشرها والاستماع إلى اقتراحات التعديل بكل جدية. أنا شخصيًا أفعل هذا، بل ولا أعرض عملي التالي على صديق قال لي إن ما كتبته كامل الأوصاف. وبالنسبة لدار النشر، أسعد إذا كان لديها مشورة. روايتي الأحدث «البحر خلف الستائر» كنت قد منحتها عنوان «الطارئ». وطلبت مني دار الآداب تغييره فوضعت قائمة من المقترحات، وعرضتها أولاً على صديقي الشاعر وليد خازندار فلم يعجبه منها شيء، واقترح «البحر خلف الستائر» فأعجبني.
لكنني أتفهم أسباب من يرفضون عمل المحرر الأدبي، والأمر يتطلب نقاشًا حول وجود المحرر الأدبي من الأساس وحدود معرفته وحدود تدخله في النص.
أعتقد أن العيب لا يكمن في نرجسية الكاتب بقدر ما يكمن في حرفة النشر العربية التي لم ترق بعد إلى أن تصبح صناعة ذات تقاليد مؤسسية وتخصصات وأدوار محددة للعاملين في هذا الحقل. ومن بين التقاليد الغائبة تقليد المحرر الأدبي، وهذا يعود جزئيًا إلى غياب التقاليد المؤسسية، فمعظم دور النشر مشروعات فردية، قد يغار صاحبها من وجود سلطة أخرى توازي سلطته، لكن السبب الأهم مادي، فمعظم دور النشر غير مستعدة لتحمل أعباء وظيفة كهذه، والنتيجة هي ما نراه، فإما أن الوظيفة غير موجودة بالمرة في الدار أو موجودة بأجر جزئي لا يكفي لانقطاع شخص لهذه المهمة بما يحولها إلى مهنة راسخة ويرسي التقاليد والخبرات التي يحتاجها المحرر الأدبي.
المحررـ في حال وجوده، يمارس هذا العمل إلى جوار وظائفه الأخرى، فقد يكون محررًا صحافيًا يشك الكاتب في خبراته أو تحالفاته في الوسط الأدبي، وقد يكون كاتبًا زميلاً وهذا أدعى لإثارة الحساسية والريبة بين الطرفين.
وفي كل الأحوال لا يخلو المحرر الأدبي العربي من طموح التأليف وبالتالي طموح المنافسة، بعكس المحرر الأدبي في الغرب، فهو ليس في وضع تنافسي مع الكاتب، ولا طموح لديه لرؤية اسمه على غلاف، هو قارئ متميز وخبير في سوق الكِتاب يؤدي وظيفته ضمن فريق فني وتسويقي لصالح المؤسسة التي يعمل لديها، وبالتالي لصالح خروج الكِتاب في أفضل صورة.
خبرات القراءة لدى المحرر الأدبي المنقطع لحرفته تجعله أقدر على استشعار مواضع الإسهاب الممل والإحساس بالنقص في مواضعه، وفي الوقت ذاته يعرف الموضوعات الرائجة في سوق القراءة، الأمر الذي قد يصل إلى حد اقتراح موضوعات محددة والبحث عن كاتب لها. مع ذلك يعرف المحرر الأدبي حدود دوره، فلا يسعى إلى احتلال مساحة الكاتب، لأن الذواقة الجيد ليس بالضرورة طاهيًا جيدًا، ولذا يمضي بين القدور ليطلب إضافة القليل من الملح في هذا أو البهارات إلى ذلك، دون أن يمد يده ليُصلح بنفسه ما أفسده الطاهي.
هذا الوعي بالأدوار يرسم تقاليد تدخل المحرر في النص، فلا يقوم بالتعديل من تلقاء نفسه، ويقتصر تدخله على تقديم المشورة التي يستطيع الدفاع عنها بمبررات فنية وتسويقية مقنعة، وفي الوقت نفسه يستطيع الكاتب تقديم دفاعاته عن خياراته، وطالما لا توجد ريبة بين الطرفين وطالما كانت مصلحة النص هي الحاكمة فإنهما يصلان بالضرورة إلى اتفاق.
لم أواجه مسألة «التحرير» الأدبي سوى مرة واحدة بمناسبة التحضير لصدور ترجمة روايتي «مطر حزيران» إلى الإنكليزية، لكننا تجاوزنا ملاحظات المحررة لسبب وجيه هو أن الرواية صدرت في خمس لغات مختلفة قبل ذلك وفي نصّها الأصلي العربي من دون أي تعديل. وفي بيروت لم أجد أثراً للمحرر الأدبي حيث تكتفي دور النشر بمصحح لغوي لا غير وربما بتبادل ملاحظات عامة بين الناشر والمؤلف، فلا عمل فعلي على النصّ.
أما الريبة من المحرر الأدبي فموقف يمكن تفهمه من الكاتب الذي تعب في إخراج نصّه إلى الضوء، لكن إذا نجح المحرر في البرهان على أن مداخلاته هي قيمة مضافة على هذا النص وأنه يصطاد التكرار والإسفاف والتناقض والتطويل وغيره من بعض شوائب الكتابة، فلا أعتقد أن الكاتب سيرفض تجميلاً من هذا القبيل. والأرجح أن يكون غياب المحرر الأدبي عن دور النشر العربية من باب التوفير المادي والحالة المتردية للمردود المالي عموماً.
يفترض بملاحظات المحرر الأدبي أن تكون مثيرة لاهتمام الكاتب، كما يهتم لملاحظات قارئ نبيه يبذل جهده في قراءة متأنية وأعتقد أن الروائي أكثر قابلية لهذه الممارسة من غير أنواع أدبية.
الكاتب منوط له البحث عن الحقيقة والخير والجمال والمعرفة لأنه متحوّل بذلك إلى مرآة عاكسة لافتة للانتباه على سبيل التقويم، فالكاتب بالنسبة للقارئ إيقونة معتمدة، مخوّل بنيابة السرد وعلى هذا الاعتبار فإن مسؤوليته تتعاظم مع المتلقي الذي لا يضع في حسبانه إن أسرع المؤلف فيما كتب أو أبطأ.
فدور النشر في الغرب تعتمد الاحترافية منطلقا لها لمسؤوليتها أمام القارئ الذي يربطه بها عقد مادي ومعنوي من جهة القانون ومن جهة الصناعة ومن جهة القارئ. فالمحرر الأدبي ضرورة لعلمه باللغة والنحو والنقد وما يملكه من معارف، إنه المدقق، المستقرأ، الرابط للأجزاء، المحافظ على الاتساق للمبنى العام للنص، المعتني بالفعل كما الزمن، الخشن مع النص، المضيف الحياة إلى المعنى في أحيان كثيرة والمنقص لأثقال لا فائدة يرجى منها. والمتتبع للتاريخ يرى أن شهرة الروائي الأمريكي جوزيف هِلَر ورائها المحرر الأمريكي بوب غوتليب كما أن الأمريكي ماكسويل بيركنز يعود إليه الفضل في شهرة أعمال ارنست همنغواي وإف سكوت فيتسجيرالد وتوماس وولف حتى أضحت من كلاسيكيات الأدب الحديث ولأن دور النشر الغربية تحترم قارئها فقد أوجدت علاقة ثلاثية من منطلق الجودة.
إن وظيفة المحرر، أوجدتها المعطيات الاقتصادية ومنطق الإعلام فتطور ليصير المتبني والمدافع عن الأعمال الجيدة التي يراها أصحاب دور النشر تافهة، وبذلك يصير المحرر المكتشف والكيميائي الذي يحدد قيمة العمل المهمل، وبكثير من الصبر والجهد إلى جانب الكاتب تتم عملية في اتجاه واحد تمهيدا للنجاح التجاري والنقدي، إنها ثنائية متلازمة متوافقة رغم تعامل المحرر برفق موضحا نقائص وهنات المؤلف حتى يقيم عليه الدليل والإقناع.
هل الكُتاب العرب يلجأون إلى المحرر؟ إن عدم التفريق بين وظيفة المحرر وبين الإبداع ليس مشكلة بقدر ما تبقى الثقة مفقودة، فدور النشر ليست في المستوى على اعتبارها كأي مؤسسةsarl تستثمر في الكِتاب وتعتبر العمل كأي مقاولة، بل وحتى مزرعة، وتتعامل مع الزبون على اعتباره غير واعي ودون المستوى ولا يملك آليات قانونية ولا ثقافية تمكنه من محاسبتها، والمؤلف مع كل هذا جاهلا بأن وظيفة المحرر تقاليد ثقافية.
المسؤولية تقع وحدها على لجان المراقبة والمعاينة والمتابعة التي تغفل الجانب الهام، ولأن فكرة الفرد العربي لا يقرأ، فكل ما يُكتب من أعلى إلى أدنى مستوى لا يُقرأ، بذلك ضاعت وظيفة المحرر من خلال حكم مرضي يحيل إلى رداءة متجذرة في مفاصل الثقافة والفكر المصابان بسكتة تخلف. الكاتب الحقيقي يضع عمله في يد أمينة نزيهة ناقدة ونافذة، مسددة، يد تمسح على اللؤلؤ لتزيده صفاء وبريقا، دافنة ما هو ميت، لعل زهورا تنبت فوقه.
هذه وظيفة المحرر التي نفتقدها، حالة نظر وفرض فرصة لانبعاث حياة جديدة، وظيفة المحرر أوجدتها الحاجة والنقص المنوط بالآخر، إنها عين المؤلف الثالثة الثاقبة، هذا كله الذي تقصيه دار النشر والمؤلف معا في أوطاننا.
هناك الكثير من الروايات تحتاج إلى محرّر أدبي، يراجعها ويطلب من الكاتب إجراء بعض التعديلات لتتوافق أحداثها وشخوصها في سياقات النص الكلّية. لكن هذا يحدث غالباً مع الكتّاب الذين مازالوا في بداية عمرهم الأدبي، أو أنّهم أقل حميمية في ارتباطهم بنصوصهم. حيث أن هناك بعض الروايات لا يمكن للمحرر الأدبي أن يتدخل فيها كتلك الروايات التجريبية التي قد يظن المحرّر أنها مليئة بالأخطاء الفنية، كرواية «الصخب والعنف» لفوكنر أو «عوليس» لجويس أو «خريف البطريرك» لماركيز. فهؤلاء الكتّاب يرتبطون بشكل حميمي مع كتبهم، وإن تلقوا أي ملاحظات من محرر دار النشر فقد تكون عادة طفيفة، وتمس بعض جوانب الشكل أو مفردات النص فقط.
بالنسبة لي، أظن أن أي كاتب هو الأكثر دراية وخبرة بنصّه، فهو إذا لم يعرف أهمية كل اسم ومفردة، ومكان كل جملة وسطر في سياق نصّه، وأكتشف له الآخرون وجود حشو أو بتر أو أي شيء زائد أو ناقص فعليه أولاً، كما يبدو لي، أن يذهب ليتعلم فن الرواية.
في جلسة ضمتني مع كاتبة عربية صديقة تكتب بلغة أجنبية، وكانت تتحدث عن روايتها الأخيرة، ذكرت أن في الرواية مشهدا عن عرس لإحدى قريبات الراوية موجود بتفاصيله كلها، من ساعة حضور المدعوين إلى لحظة تناول العشاء، إلى المغنين الذين شدوا في ذلك الليل ورقص الناس على إيقاع ألحانهم حتى الفجر.
قالت الكاتبة إنها حين أنهت روايتها واعتبرتها صالحة للنشر كتبت أن «الراوية ذهبت إلى عرس» فقط من دون تفاصيل، لكن المحررة -التي تشرف على تحرير مسوداتها في دار النشر- أعادت إليها المسودة، طالبة منها أن تكتب تفاصيل العرس كلها، لأن قارئا لا تعرفه قطعا يتلهف لمعرفة ماذا جرى في ذلك العرس، وقد يصاب بإحباط كبير إذا ما قرأ المشهد ولم يعثر على التفاصيل التي يريدها.
وبناء على رأي المحررة أعادت الكاتبة تلك الجزئية، وكانت من الجزئيات التي نجحت بالفعل، ودائما ما تُذكر في كل قراءة تتحدث عن الكِتاب.
وفي زيارة لي إلى إيطاليا التقيت كاتبا إيطاليا واسع الانتشار إلى حد ما، أخبرني أن كثيرا من المشاهد الدرامية الناجحة في أعماله جاءت كِتابتها بإيعاز من محرره الذي يعرف كثيرا من الأسرار، ويوحي إليه بأفكار ناجحة، ومنها مشاهد لم تكن تخطر بباله أثناء الكتابة.
إذن كانت الصديقة الكاتبة والكاتب الإيطالي لا يتحدثان عن وظيفة مترفة، أو وظيفة بلا ضرورة وهي وظيفة المحرر الأدبي، ولكنهما تحدثا عن واحدة من أهم الوظائف في صناعة النص الأدبي وانتشاره، فالأمر هنا ليس حكرا على الكاتب فقط، ولكن هناك من يشاركه ترتيب النص وتجميله، وتحسين مستواه حتى يخرج للقراء في أفضل حالاته.
صحيح أن الكاتب هو من يعثر على الفكرة، من يسعى لتطويرها ومن يبذل جهدا مضاعفا لكتابتها، لكن حتما تظل النظرة الأخرى -خاصة إن كانت نظرة ثاقبة ومحترفة- مطلوبة بشدة لتمنح النص رونقه الأخير كما ذكرت.
يتضح لنا إذن أن المحرر الأدبي يستطيع أن يشارك ولو بحرف واحد يمنح النص تميزا، وأيضا يمكنه ألا يقترح أي تعديل للنص بعد قراءة المسودة، ويكون هذا أيضا رأيا جيدا، يأخذ به الكاتب والناشر معا.
ولو نظرنا إلى تلك الروايات العظيمة التي تأتينا مترجمة من الغرب ونستمتع بأجوائها لما تخيلنا أن الكثير من أجوائها كانت بإيحاءات من محررين محترفين عملوا عليها، من دون أن يخفض ذلك من قدر الكُتاب الذين صاغوها.
لكن ما هي المؤهلات المطلوبة لدى الشخص حتى يشغل وظيفة المحرر الأدبي؟. الإجابة: لا مؤهلات كبرى حقيقة، ومثلما أن الكاتب نفسه غير مطالب بأن يكون من حملة المؤهلات الكبرى حتى يكتب قصة أو رواية، فالمحرر أيضا كذلك. هي موهبة يحملها البعض ولا يحملها البعض الآخر، وهي ذكاء وقدرة جينية للنظر عميقا في النصوص والإضافة إليها أو الحذف منها.
بعض أولئك المحررين قد يكونون هم أنفسهم كُتابا للروايات أو شعراء لم تنجح نصوصهم، أو قد يكونون يعرفون أدق خصائص الكتابة، لكنهم اكتفوا بالتحرير من دون أن يكتبوا حرفا واحدا. والشيء المدهش في وظيفة مثل أولئك المحررين أنهم ينحازون لما يرونه مناسبا بلا تذوق شخصي، بعكس الكاتب حين يعمل محررا، هنا سيفتقد الحياد المطلوب وسيتعامل مع النصوص بحسب طريقته في الكتابة، وليس معيار الجودة أو إضافة ما يميز تلك النصوص. أعتقد أننا وعلى الرغم من عدم وجود وظيفة المحرر الأدبي في العالم العربي-أي في ثياب وظيفة رسمية ملحقة بدور النشر- إلا أننا نملك هذه الوظيفة بالفعل بطريقة أخرى، فكثيرا ما نقرأ في حوار مع كاتب أنه يعطي النص إلى أحد أصدقائه ليعطي رأيه فيه قبل أن يرسله إلى الناشر، وهنا لا بد أن رأي الصديق هذا قد أضاف شيئا أو حذف شيئا أخر. أيضا، هناك من يردد أن زوجته هي قارئته الأولى، وهنا نستطيع كذلك أن نستشف ما يمكن للزوجة أن تفعله بنص أراد صاحبه رأيها فيه. ولن تكون الوظيفة رسمية عندنا كما أعتقد إلا لو اقتنع الكاتب بضرورتها القصوى.