يمينة مشاكرة..سؤال المصير وفاجعة النهايات
مشاكرة التي عاشت غربتها في الوسط الأدبي الجزائري، ومكثت طويلا في هذه الغربة، ثم رحلت بغربتها هذه وأشجانها، رحلت وهي لا تحمل من الدنيا ومن حياتها ومسيرتها الحافلة بالمعاناة إلا جملة أثيرة خلدها بها الكبير كاتب ياسين: «إنّ امرأة تكتب في بلادنا تساوي وزنها بارودا»، بهذه العبارة الموحية قدّم ياسين رواية «المغارة المتفجّرة»، وفيما بعد تتحول العبارة نفسها إلى أيقونة، يستشهد بها كل من يكتب أو يذكر الكاتبة يمينة مشاكرة وكتاباتها، وتُستحضر في كل مناسبة أتيحت للحديث عنها. عبارة خلدتها وأنقذتها من نسيان جاحف ومن عزلة أكثر إجحافا، إذ بهذه العبارة الكريمة التفت النقد قليلا إلى روايتها الأولى «المغارة المتفجرة»، وروايتها الثانية «آريس»، لكن هذا النقد ظل شحيحا في حقها وحق كتاباتها، كما ظلت الدراسات الأكاديمية شحيحة وشبه منعدمة، ولحد اليوم لم يتم تناول أدب يمينة مشاكرة كما يجب. فقط الناقد والكاتب والمترجم محمد ساري تناولها وتناول كتاباتها وسيرتها في كتابه «كتابات جزائرية نسوية/ شظايا أصوات»، الذي صدر شهر جوان 2013، في إطار المهرجان الدولي السادس للأدب وكتاب الشباب.
مشاكرة، الأديبة والطبيبة، التي عاشت تفاصيل حياتها من معاناة إلى أخرى، وجدت نفسها في الأخير رهينة المصحة النّفسية التي عالجت فيها مرضاها لسنين، حيث انتهت وحيدة ومهملة من الجميع، في عزلة طويلة، وبأوقات وأيام محفوفة بالأسى والألم والسكوت والتهميش والحزن.
يمينة مشاكرة، ولدت سنة 1949، بمسكيانة. درست بقسنطينة حيث تخرجت طبيبة مختصة في الأمراض العقلية. ومارست عملها لفترة من الوقت بمدينة الشلف ثم بقرية قريبة من مسكيانة. وقد دخلت عالم الرواية بمباركة قوية من طرف الكاتب الجزائري كاتب ياسين الذي كتب مقدمة لروايتها الأولى «المغارة المتفجرة» التي صدرت عام1979. و»آريس» التي صدرت عام 2000. يذكر أن رواية «المغارة المتفجرة»، قد ترجمتها الكاتبة والمترجمة اللبنانية عايدة أديب بامية، وصدرت عن المؤسسة الوطنية للكتاب سنة 1989. كما اقتبسها وأخرجها مسرحيا الفنان أحمد بن عيسى.«كراس الثقافة» في عدد اليوم، يستحضر سيدة العزلة، بمناسبة ذكرى غيابها الثانية، من خلال هذا الملف، مع مجموعة من الكُتاب الذين تناولوها ببعض المقاربات والدراسات النقدية، والذين اقتربوا من أدبها وعوالمها، من خلال القراءة والترجمة.
الكاتبة التي وزنها من بارود/ يمينة مشاكرة، تلك التي ظلت في صمتها معتصمة حتى رحيلها النهائي لم تكن تحركها سوى عاصفة الشعر أو نهر السرد العميق. حين صدرت روايتها «المغارة المتفجرة» العام 1979 بتقديم من كاتب ياسين كانت فارقة في الكتابة الروائية الجزائرية باللغة الفرنسية. لا أحد عرف من أين نزلت هذه اليمينة، من أي سماء؟ ولا من أين نحتت هذه الرواية التي قالت فيها الثورة الجزائرية بطريقتها الخاصة، كتبت الحرب لا كحرب همنغواي ولا كحرب كاتب ياسين ولا كحرب محمد ديب أو مالك حداد أو آسيا جبار، كتبت حربها هي، كما شعرت بها طفلة بعينين محدقتين في الموت وفي التهجير. في رواية «المغارة المتفجرة» خلدت يمينة مشاكرة للثورة الجزائرية وصورت بشكل شعري مدهش الذات الفردية في مواجهتها القدرية للاستعمار والظلم والفقر والجنون.
«المغارة المتفجرة» رواية الفرد في مواجهة عارية للقمع والخوف والفقر والاستغلال، مواجهة لا تنتهي إلا بالموت أو بالجنون أو بالتحرر. هو اختيار فلسفي.
بالمغارة المتفجرة تحررت الرواية الجزائرية المكتوبة عن الثورة الجزائرية من البطل الخرافي الذي لا ينتمي إلى فصيلة البشر، لقد أعادت يمينة مشاكرة البطل الجزائري وهو في معركة التحرير في وسط حرب ضروس أعادته إلى إنسانيته بكل ما فيها من خوف وعشق وطموح وتردد وإقدام...
لقد أنقذت الروائية يمينة مشاكرة الرواية الجزائرية من مرض تكلس اللغة وأعادت لها شعريتها وانفتاحها على المستحيل. فكانت الكاتبة الصلبة بهشاشتها العالية.
عشرون سنة وهي في ظل العزلة تقاوم بصمت. ماذا كانت تقول يمينة مشاكرة للصمت في صمت عنا نحن الصامتون عنها، ماذا كانت تكتب عنا نحن الذين جميعا لم نكرمها سوى بمقدمة كتبها عنها كاتب ياسين منذ العام1979: عبرت الحياة وعبرت الكتابة وعبرت الجنون وعبرت الشفافية.
ورحلت، رحلت ولم تأخذ معها سوى جملة كاتب ياسين: «امرأة وزنها من بارود»، حين أكتب عن يمينة مشاكرة، حين أقرأها أو أعيد قراءتها، أتساءل هل هناك مسافة حقا بين الأدب والجنون؟.
كانت يمينة في سن الخامسة عند انطلاق الثورة ونشأت في وسط عائلي ميسور، وكانت جدتها تصحبها معها إلى قرية الجد المتشبث بأصوله والمولع بالمحافظة على الآثار الرومانية التي جعل منها بيتا له. وخلال هذه الجولات مع الجدة تصطدم الطفلة بالواقع، وتلقت هذه الطفلة - التي أصبحت طبيبة فيما بعد- أول درس في تشريح الجسد وهي في الخامسة، وتقول عن ذلك: «في ساحة المدينة وفي بداية الثورة جاء عسكريون فرنسيون في مدرعات وقاموا برمي جثث ممزقة للثوارـ كانت أكبادهم وأمعاءهم ورئاهم ظاهرة للعيان، كنت صغيرة وسألت أمي إن كنا مصنوعين كالماشية. مرت سنوات طويلة وأنا أرفض أكل اللحم».
وللتنفيس عما بداخلها من وطأة الصدمة، باشرت وهي في التاسعة كتابة يومياتها لتحتفظ من خلالها بذاكرتها والتي تصبح فيما بعد مصدرا مهمًا لرواياتها. كما كان لقاؤها بكاتب ياسين محفزا لها على الكتابة، وقد قال عنها في مقدمة روايتها الأولى التي تفيض شاعرية: «في بلادنا، امرأة تكتب تساوي وزنها بارود».
وخلال الأزمة الدامية التي عصفت بالجزائر مطلع التسعينيات هاجرت يمينة مشاكرا إلى فرنسا ثم إلى إيطاليا، وقد ضيعت الكثير من نصوصها خلال رحلاتها، وتمكنت عند عودتها إلى الجزائر عام 1997 من إعادة صياغة رواية «آريس» التي صدرت في عام 2000 واستندت في ذلك إلى دفتر مذكراتها الذي لم يكن يفارقها أبدا.
وتدور أحداث روايتها الأولى «المغارة المتفجرة» حول مسيرة فتاة لقيطة ويتيمة التحقت بالثوار وتعمل ممرضة في مغارة تستعمل كمستشفى يستقبل جرحى المعارك. وتروي البطلة قصصا سمعتها من الثوار الجرحى الذين تداويهم. وتولد قصة حب بينها وبين أحدهم /آريس/ في تلك المغارة ويتزوجان وينجبان طفلا. وتتعرض المغارة إلى قصف إثر غارة جوية ويفقد ابنهما رجليه وبصره. واللافت أن الرواية تلتقي بفكرة أساسية عند كاتب ياسين وهي أن الثورة التحررية كانت من صنع البسطاء غير المعروفين.
ولم تُصدر يمينة روايتها الثانية إلا بعد ربع قرن تقريبا من روايتها الأولى ولكنها مرتبطة بالأولى وعنوانها «آريس» وتصف القصة عذابات أم وابنها المفترقين، وكل منهما يتصور حياة الآخر وآلامه. وكلتا الروايتين مرتبطة بأسطورة الجد الأول /العراكي/ الذي يمثل الهوية المنشودة.
يمينة مشاكراة طبيبة أمراض عقلية وكاتبة مرهفة الإحساس عملت لسنوات طويلة مع أشخاص فقدوا صوابهم أو انتقلوا إلى ما وراء الوعي لأسباب شتى منها الشعور بالضيق أو العجز أو لصدمة خوف أو عاطفة. وهي حالات لم تكن الطبيبة الكاتبة والإنسانة بعيدة عنها في تسعينيات القرن الماضي بالجزائر. وكممرضة المغارة في روايتها لطالما عاشت الطبيبة خيبات وأهوال مرضاها لدرجة التماهي معهم والدخول في عالمهم. وقد يطول هذا التقمص اللاشعوري بالطبيبة كما حدث معها في سنواتها الأخيرة، حيث اجتازت الخط الفاصل ولم تعد إلى موقعها.
كلما أتذكـّر النهاية المأساوية التي انتهت إليها الكاتبة الجزائرية يمينة مشاكرة، وحيدة في مصحة الأمراض والاضطرابات العقلية، معزولة عن عالم، بدأت مشاهده تنهار أمامها، الواحد تلو الآخر، إلاّ وتذكرت صورا مماثلة لكاتبات جزائريات، آلت مصائرهن إلى الانتحار – صافية كتو–، أو الموت المجاني إثر الولادات المتعسرة كحال القاصة زوليخة السعودي، والشاعرة الأوراسية أنا غريكي، كما لو أن محنة الكتابة في الجزائر، منذورة للانطفاء والتلاشي، حالما يتاح لها مقدار من الاستواء والنضج والإدراك، في بلد ضاق بمبدعيه الحقيقيين، ولم يمنحهم غير الحسرة والشقاء في متاهات العزلة والصمت القاتل.
هو حال هذه الروائية المتميزة التي خصّها الروائي الجزائري الكبير «كاتب ياسين» بمقدمة فريدة من نوعها، لأول رواية لها «المغارة المتفجرة»، الصادرة في طبعتها الأولى عام 1979، حاثـًّا القراء للانتباه لهذا الصوت الخارج عن المألوف، ذلك أن صوت المرأة التي تكتب في الوقت الحاضر في بلدنا يقول كاتب ياسين «تساوي ثقلها بارودا».
ولطالما تساءلت بدهشة لِمَ منحها كاتب ياسين شرف هذا التصدير- دون سواها-، خاصة في ظل وجود كاتبات جزائريات متفردات، بدأت أصواتهن تظهر للوجود بقوة، سنوات قليلة بعد الاستقلال كآسيا جبار، عائشة لمسين، فضيلة مرابط وأخريات، ممن يكتبن باللغة الفرنسية باقتدار وبجرأة نادرة، تخصّ القضايا الحساسة الحميمية للمرأة، وضرورة الانفلات من أسر العادات والتقاليد القديمة الموروثة، نحو عالم أكثر تفتّحا، ووعيا وحرية. لذا لم أجد كثير عناء للوقوف على المغزى العميق لذلك التقديم، الذي اكتشف من خلاله كاتب ياسين، كتابة مغايرة ونظرة مختلفة، وصوتا مغردا خارج السرب طبع رواية «يمينة مشاكرة» الأولى.
ما هو محتوى هذه الرواية؟ وما هي رؤيتها الإستشرافية لموضوع الحرب التحريرية، التي أصابت الإنسان الجزائري بالكثير من الأعطاب، التي شوهته في الجسد ولكنها -بالمقابل- لم تزده إلا إصرارا في لحظة المواجهة القصوى أمام الغير. هذا ما تبرزه البطلة الممرضة عبر يومياتها، أو على نحو أدق لوحاتها الإسترجاعية، التي ربطتها بأحداث تاريخية متعلقة بالثورة، مقسّمة إياها إلى أربع وعشرين لوحة، مبتدئة بلوحة نوفمبر 1955، ومنتهية بــ05 جويلية 1962، مع ما يحمله هذا التاريخ الأخير من معنى كبير، يجسّد الحرية والإنعتاق.
إن حضور هذه اللوحات وفق هذا التتابع الزمني المشار إليه، تلتقطه عين الكاتبة، من خلال ما ترسّخ في وجدانها وظل عالقا بالذاكرة عبر استحضارها لتلك الوجوه، التي رافقت مسيرتها الشاقة نحو الشرق الجزائري، لإسعاف الجرحى وإغاثة المرضى والمعطوبين، ممّا خلفته الحرب المدمرة من ضحايا ومشوهين، في هذا السياق تسترجع لنا الكاتبة، مشاهد مرعبة تدمي إحساس المرء لأطفال أبرياء وقد بترت الحرب سيقانهم، وبدت وجوههم كالحة محروقة، لوّحتها الشمس، تقول يمينة مشاكرة في موقف صريح يدين الحرب -أيا كانت دوافعها-: «ما ذنب هؤلاء الأطفال الذين ولدوا ليعيشوا، ما هو الجرم الذي ارتكبه هؤلاء الذين لم يحظوا بفرصة للحب؟».
في سياق آخر يحضر الحب، بعنفوانه الشرس زمن الحرب وتتعلق البطلة بأريس، صورة أخرى لعاشق ثائر شهيد وجد نفسه مُنزجًا في أتون معارك طاحنة، غير متكافئة مع العدو فيحضر ويغيب كأسطورة من خلال تداعيات البطلة، وتصوراتها عنه، ويموت البطل زارعا في أحشائها بذرة الحياة، وعبر هذه المخاضات العسيرة يولد أريس الصغير ممثلا للجيل الجديد، واستمرارا لأنشودة الحرية والاستقلال، ثمة تقاطع يلحظه القارئ بين أريس البطل –الابن والمدينة- في توليفة جمالية رائعة، قلّ نظيرها في أدبنا الجزائري الحديث، يذكرنا بروائع الأديبة الفرنسية الكبيرة مارجريت دوراس التي اشتغلت بموضوع الحب والحرب في عمليها المهمين: «هيروشيما حبيبتي» ورواية «العشيق» الحائزة على جائزة الغونكور عام 1984، نستشف ذلك من خلال تلك اللغة الشاعرية التي تنثال هادئة طورا، ومتوترة طورا أخرى، من خلال التداعيات الحرة والانفعالات الهادرة لبطلة ثائرة، لم تمنعها سنوات الحرب الدامية من أن يظل قلبها متوهجا مشرعا على الحب والحرية.
بهذا المعنى تعدّ هذه الرواية انجازا مهما في تعاطيها لحرب التحرير الجزائرية من زاوية ذاتية مختلفة من حيث إدانتها للحروب وانتقاداها الحاد للمجازر والإبادات، ودعوة صريحة للحب والمستقبل والكرامة الإنسانية، ومن هنا نرى مدى مصداقية نبوءة كاتب ياسين في تحريضه الجميل لقراءة هذه الرواية، وحث الآخرين لإعادة قراءتها من جديد.
غادرت روح يمينة المعذّبة والمثقلة بأحد الأمراض الأكثر ألما، صورتَها الأوراسية الجميلة، جسدَها الذي نال هو أيضا حظّه من العناء والتمزق والمرض، غادرت روحها إلى عالمٍ يشبه نقاءها وشفافيتها، وعاد جسدها رمادا ينام على هذه الأرض الرحِم. هل ماتت يمينة؟، الموت كما تقول الكاتبة: «ليس إلاّ تواصلا لتعابير الجسد والروح، ولأنّ الموت بداية سرمديّة فإنّ الحياة تتكاثر وتستمرّ إلى الأبد...».
هل كانت تخشى الحياة؟، هي التي عبرت عن هذا في رواية لها: «... في يوم غنّى لي طبيبي المشعوذ أغاني أناس محتضرين يخشون الموت. وغنّى لي أغاني لأناس أحياء لكنّهم يخافون من الحياة. لم أكن أخشى الموت أو الحياة، كنتُ أتركهُ يغنّي لأنّ يده الموضوعة فوق رأسي كانت تخمد ذكرياتي، وتسكتُ ألمي، لأنّ يده فوق رأسي كانت تخفّف من تقززي من وحدتي، وحدتي أنا».
كانت يمينة مشاكرة تتألّم بصمت ولا تبكي: «حاولت البكاء ولم يصدر منها إلا زئير. حيوانات الغابة هي أيضا لا تبكي». كانت تتألم أيضا بكبرياء، يتجلى هذا في جملة وردت في روايتها: «مريضة أنا. كلّي مريضة. ذهبتُ إلى طبيب مشعوذ، قلتُ له أنّني وُلدتُ متعبة وأنّني أكلتُ ثورتي ساخنة، ساخنة جدا، وأنّها حرقت أمعائي».
تُوجعها ذاكرتها، أصوات القنابل، صور القصف وأبيها مصلوبا، نظرته الزرقاء. اختارت الطب ثمّ تخصّص الأمراض النفسيّة والعقلية لمداواة هذا الجرح، كانت تغمس فيه قلمها وتكتب، لذا كانت كتاباتها تشبه النزيف، حارّة، متدفّقة، كبقعة دم تقصدُ كلّ الجهات مرة واحدة، متشظيّة، مليئة بالأصوات كروحها، أصوات المعذّبين والمقهورين والمغتربين واليتامى، لم يكن الطب العقلي للأسف علاجا لها ولا كان الأدب، والتهمَ جرحُ الروح القلم وما تبقى من الجسد والروح، التهمَ عمرا كاملا من التفكير والتأمّل والكتابة كان من الممكنِ أنْ تدهشنا به يمينة في زمن رتيب ورديء وخال من المعنى كالذي نعيش.
تشظّت المغارة وبقينا عراة يا يمينة من الكثير من المعاني، من الجمل الحقيقيّة، لم يكن أريس اليتيم الوحيد، ولا الحزين الوحيد، فالشعر حزين والمعاني حزينة، منذ أن غادرتنا قبل عامين من الآن، بل منذ صمتت قبلها بسنوات...
أقلّبُ كتابيها «أرّيس» و»المغارة المتفجّرة» وبعض قصاصات الجرائد، وأفكّرُ أنّ يمينة مرّت سريعا كشهاب، لا انتماء إيديولوجي أو سياسي له، لا جنس له ولا جهة، لا تحمل إلا الحيرة والدهشة والاحتراق، وأنّها إحدى الكاتبات القليلات في الجزائر وفي العالم العربي اللواتي استطعن أن يتخلّصن من سطوة اللغة والهواجس التقليديّة للمرأة، فقد تماهت منذ روايتها الأولى «المغارة المتفجّرة» مع أسئلة إنسانيّة، أسئلة الذاكرة، الحياة والموت، الأرض، الجنون. لكنّ يمينة الكاتبة العميقة «التي تساوي ثقلها بارودا» بتعبير كاتب ياسين في مقدّمته لروايتها، قد عرفت مصير الكثير من المضيئين، فكما كان قدر كاتب ياسين، متعثّرا حتّى وهو ميّت، فقد تعطّلت سيّارة «الــ 404 باشي» التي كانت تحمل نعشه وهي في طريقها إلى مقبرة العالية، خرجت يمينة أيضا وهي في آخر مراحل المرض من مستشفى القبّة وهي تبحث عن مكان تقضي فيه آخر أيّامها دون جدوى، كانت قبلها قد رقدت لسنوات طويلة في مستشفى الشراقة دون أن يتذكّرها أحد أو يهتمّ بأدبها، كانت دون شكّ بحاجة للاهتمام والتقدير والأنس، هي التي أبصرت قلب المعاني، رفضنا نحن أن نراها واخترنا العمى مرّة أخرى لنملأ به تاريخنا، والخراب لنؤثث به فراغنا.
ستظلّين يا يمينة مشاكرة، كالذين ماتوا باكرا بطرق مفجعة كصادق هدايت وأنتونان آرتو وهنري غوديي برزيسكا وبختي بن عودة ولوركا وجميل البرغوثي، تُبعثين مع كلّ نص وكلّ حرف وكلّ صورة، وستظل كلماتنا في نعيك مستهلكة ومكرّرة، أمّا أنتِ فستبقين باحثة أبديّة عن كلمات مختلفة، وأنت تدركين معنى الكلمات المختلفة، لأنه وتماما كما جاء في روايتك: «قد استُهلكت الكلمات، يا حبيبي مثل القوانين التي تسيّرُ هذا العالم. لن نكتشف إلا ما قيل لنا. أنا اليوم جديدة فعليّ أن أبحث عن كلمات مختلفة يا حبيبي لأحادثك وأحادث نفسي».