خالد ساحلي
كل فترة تاريخية يشوبها اضطراب ما، تنتج عنها أفكار ونظريات عقلية أو تجريبية لمعالجة معضلات المرحلة، كثير الأسئلة تطرح قد تجد الإجابة وقد لا تجد الشافي الكافي منها. لذا فإن الأفكار أو النظريات أو الآراء لا تنجح إلا إذا كانت معالجة لما هو في سياقها التاريخي والثقافي، الأسئلة التي تطرح لمباشرة البحث عن الحلول والمخارج إنما هي مطالب التحرر من القيود المشكلة للقلق والخوف وللعذاب، قيود مفروضة بلغة الإكراه الثقافي. إن المواقف المتزمتة اتجاه أي قضية هي التي تفرض الكثير من القيود، إن كان لأجل الفضيلة أو على العكس لأجل الرذيلة، باسم حقوق الأقليات أو الحرية الشخصية. إن الطابع الصارم القاسي المتشدد لأي فكرة، تقابلها تطلعات إلى كسر قيودها والتحرر منها، وبالذات إن تعلق الأمر بالاكراهات الكثيرة على الذات وما تصبو إلى تحقيقه من رغبات.
في هذه الحالات فالأفراد يلجأون إلى كل ما من شأنه تخليصهم عن عذاباتهم، وقيودهم، وغضبهم وقلقهم وخزيهم، بذلك فإنهم يعتنقون الأفكار أو النظريات التي تمنحهم شيئا من الإقناع، أو توهمهم بذلك، حتى ولو كانت أفكارا ونظريات بعيدة عن التجريب، ولا تخضع لكثير من الأدلة التي تثبت مفاهيمها وأبعاده. على النقيض فإن الكثير من الأفكار المتجاوزة لحد الحرية، بدل كونها مخرجا فإنها تفرض قيودا بذاتها على الأفكار التي تحررت منها، مكرّسة التزمت ذاته، قد تفرض على الأفراد أو المجتمع خطا معينا، تصير بموجبه التطلعات قيودا، وتتحول القيود إلى تطلعات الناس. إن الافتتان غير المؤسس على وسطية وتعقل وتدبر ودراسات ممنهجة، وتجارب حقيقية يصبح ضلالا لا منقذ له، فأي حركات فكرية وآراء أو اجتهادات تخص الواقع إن افتقرت إلى العلم والموضوعية وانساقت وراء ما يحرر غرائزها المكبوتة، صارت غاية في يد السياسة تلهو بها كما تشاء. لا تخلو أفكار ما من مشاعر؛ وكل البريق العلمي الذي يضفيه أصحاب المصالح والمطامع على أفكارهم ومشاريعهم ودعواهم سرعان ما يفقد لمعانه. وحدهم أصحاب النيات والإرادات النبيلة والخيرة من يحافظون على نقاوة وأصالة تطلعاتهم، وأفكارهم المستندة إلى المنطق والعقل.
من غير المنطق اعتبار المثقفين والكتاب والصحافيين الذين يموتون في العراق واليمن وفي بلدان عربية وأجنبية مجرد قضاء وقدر، ونهاية محسوبة بانقضاء الأجل. إن الرموز الثقافية التي تتلاشى والروابط والخصائص المشتركة التي تتفكك، وتفاعل البشر فيما بينهم الذي هو في تناقص، هي نهاية حتمية لثقافتهم. فلا يفهم الحديث عن رحيل مثقفين ـــــ نشترك معهم ثقافيا ـــــ ومعاناتهم والدفاع عنهم مجرد حماس زائد، كما يجب أن لا يفهم خطئا الشك في الديمقراطية الأمريكية، عن فوز صومالية وفلسطينية بمقعد في الكونغرس الأمريكي ديمقراطية تشاركية للثقافات المختلفة، دون ميز. كيف نعتبر إذا كثير من المثقفين في السجون الغربية والعربية التي لا تناصرهم الديمقراطية الغربية لسبب بسيط كونهم مناهضين للاستبداد الذي يحمي مصالح الغرب، ويرفضون خراب الأوطان للدعوات التي تأتيهم من كذا جهة دون الطرب لها.