هل يمكن الحديث عن نقد ثقافي يتكئ على ما أهمله النقد الأدبي النصوصي، وهل النقد الثقافي مثلما يقول الغذامي، جاء ليُبشر بموت النقد الأدبي النصوصي؟ وما الّذي يمكن أن يحفر فيه النقد الثقافي؟. ما أوجه التشابه أو الاختلاف بين كلا النقدين: النقد الأدبي النصوصي والنقد الثقافي؟ وهل وظيفة النقد الثقافي هي حقا، استنطاق النصوص المقموعة والمُهمشة. ولماذا مازال النص الإبداعي الجزائري بعيدا عن التناول النقدي من منظور النقد الثقافي..؟ أم أنّ النقد الثقافي لم يتشكل ولم يتأسس بما يكفي في مخيال الناقد الجزائري..؟، وأنّه لم يحن بعد الوقت للحديث عن نقد ثقافي في الجزائر.
إستطلاع/ نـــوّارة لـــحـــرش
هذه الأسئلة وغيرها يطرحها "كراس الثقافة" للنقاش، ضمن ملف هذا العدد "النقد الثقافي في الجزائر"، مع عدد من النقاد الجزائريين المختصين في حقل النقد وإشكالاته وطروحاته.
وحيد بن بوعزيز: باحث أكاديمي وأستاذ الأدب المقارن والدراسات الثقافية –جامعة الجزائر2 -
وظيفة النقد الثقافي هي استنطاق النصوص المطموسة و المقموعة والمهمشة
في البداية أشكركم على هذا الملف المُهم. في الحقيقة، عندما نـتتبع مسارات النقد الثقافي فإنّه من البديهي أن يكون براديغم هذا النقد مُختلفا عن النقد الأدبي السائد، خاصة النقد النسقي الّذي خدم كثيرا أيديولوجيات مُهيمنة سياسيًا واجتماعيًا.
راح النقد الثقافي يغترف من طروحات ما بعد الحداثة المُؤمنة بتهافت السرديات الكُبرى؛ لهذا غدا ينظر إلى الظاهرة الأدبية كنسق ثقافي يتجاوز البُعد الجمالي الّذي كان الموضوع الأساسي في النقد البنيوي و المحايث.
في النقد الثقافي أصبح النص هو الحياة، وانطلاقا من الخاصية التناصية لكلّ نص كان لابدّ من فتح ثناياه على نصوص أخرى مرتبطة بكلّ ما هو حي في المجتمع لغويًا. زحزح هذا الانفتاح كلّ مركزية نصوصية، في النقد الثقافي لا نتكئ على مركز بل على علاقات، لهذا يحتاج الناقد الثقافي إلى كفاءة كبيرة لكي يفعّل هذه العلاقات المتوارية خلف سجاف الحرفية بطريقة ممتنعة.
بخصوص الأستاذ الغذامي، لقد كان لهذا الناقد فضلٌ كبير في تكريس هذا النقد في الأوساط النقدية العربية، ولكن لابدّ أن نقول بأنّ النقد الثقافي ليس الغذامي وأنّ الغذامي ليس النقد الثقافي، لقد مثل الغذامي اتجاهًا واحدا فقط في هذا النقد، اعتقد، انطلاقا من خلفياته النظرية، بأنّ قوله موت الأدب على الأبواب يعني بالضرورة موت النقد الأدبي، ولكن هنالك اتجاهات أخرى في هذا النقد لم تضع ثنائية قارة بين الثقافة والجمال، بل راحت تؤكد البعد الثقافي فيما هو جمالي، وأضرب مثالا على ذلك مفاهيم تيري إيغلتون والتحدي الّذي قام به هايدن وايت حينما بحث في ما سماه محتوى الشكل.
أمّا عن أوجه الاختلاف بين النقد الأدبي والنقد الثقافي؟ فيكمن وجه الاختلاف بينهما في وجه الاختلاف بين النظريات الحقلية والنظريات التحاقلية، النقد الثقافي عبر اختصاصي، يحتاج من الناقد أن يقوم بعملية المد والجزر بين علوم وحقول واختصاصات متنوعة، لهذا، في النقد الثقافي تراجع مفهوم الاختصاص الّذي حول النقد الأدبي في كلّ الحقب إلى سكولائية مقيتة.
يمكن أن نكتشف من جهة أخرى بأنّ النقد الثقافي له منطلقات ايديولوجية نضالية بعيدة عن النظرة البرجية (برج بابل) التي نجدها في النقد الأدبي، إنّ وظيفة النقد الثقافي هي استنطاق النصوص المطموسة في المجتمع، النصوص المقموعة والمهمشة والمحتقرة باعتبارها لا تنتمي إلى المُعتمد الرسمي المدروس في النقد الأدبي من طرف جماعة اجتماعية من النخبة، تخدم مصلحة أو طبقة معينة.
أمّا الحديث عن النقد الثقافي في الجزائر؟ فعلا، مقارنة ببلدان عربية أخرى، تأخر كثيرا النقد الثقافي في الجزائر لأنّ هذا النقد ينتمي إلى الثقافة الأنغلوساكسونية غير الحاضرة بقوة في المجال الثقافي المغاربي بسبب الانفتاح على النقد الفرنسي.
ولكن، يُلاحظ الآن بأنّ الكثير من الدراسات والرسائل والمقالات تحمل مصطلحات مُستمدة من النقد الثقافي في بلادنا، وهذا شيء جميل، ولكن معظمها بعيد كثيرا عن روح هذا النقد، فنجد أنّ الكثير مثلا يستعمل مفهوم الأنساق المضمرة ولكن لا يلتزم بفحواه. إنّ مفهوم الأنساق المضمرة لا يعني فقط توصيف هذه الأنساق بل يطال الأمر تعليلها علميًا والبرهنة عليها باستقطاب كوكبة من المعارف والمفاهيم التي تخدم بناء هذه الأنساق، إنّ عالم الأنساق المضمرة هو العالم الرمزي للنصوص، أي العالم الّذي يقتضي طاقة تأويلية عليمة بحيثيات الأيديولوجيا والصراع المجتمعي في كنف الثقافة. للأسف يرتمي البعض في مجالات لا يفقهون بديهياتها، معتقدين بأنّ المواكبة العلمية والمعرفية من الطبيعة نفسها المتواجدة في عالم الموضة.
لونيس بن علي: كاتب وناقد أدبي وباحث أكاديمي وأستاذ النقد المعاصر-جامعة بجاية
وجود جهود فردية ليس كافيا للحديث عن شيء يُسمى نقدا ثقافيًا
هناك مُستويات لفهم النقد الثقافي: أوّلا النقد الثقافي بوصفه مُحاولة لتحرير النصوص من الانغلاق البنيوي الّذي فرضته عليها النظرية البنيوية. ثانيًا، لا يُمكن فهم هذا التحرّر إلاّ من زاوية أنّ النصوص هي شبكة من علاقات القوى التاريخية والسياسية، لهذا فإنّ النقد الثقافي هو بمثابة وضع النصوص أمام الإشكاليات التاريخية والسياسية أيضاً. نفهم بأنّ النقد الثقافي هو اقتراح شبكة جديدة للقراءة، تكون أكثر وعياً بعلاقات القوى التي تربط النصوص بواقعها من جهة، ومن جهة أخرى تعيد إنتاج منظومة القراءة خارج النسق البنيوي والجمالي الّذي يُشتمُّ منه رائحة المراكز، نحو الاهتمام بالثقافي والتاريخي والإيديولوجي والهامشي. وليس غريبا، أنّ النقد الثقافي قد ساهم في تطوير النقد ما بعد الكولونيالي، من زاوية أنّ هذا النقد أصبح ينتبه أولا للصوت المُغيب لأبناء المُستعمرات، وثانيًا أنّه يفضح سياسة الصمت النقدي الّذي كان سمة النقد الأوروبي إزاء الآداب غير الأوروبية (آداب المستعمرات).
أمّا بخصوص علاقة النقد الثقافي بالنقد الأدبي، فهي في اعتقادي محاولة لتجاوز المعضلة السياسية التي فرضها النقد البنيوي، هذا الأخير الّذي أصبح يُمثّل قوة سياسية رجعية انطلاقا من مبدأ المحايثة، وعزل النقد عن الانشغال بالأسئلة التي تشغل الرأي العام، وانكفائه على نفسه، إلى درجة أنّه أصبح بعزلته تلك يشبه بنية كهنوتية تُلقي المواعظ المقدسة على الحواريين وعلى المؤمنين المنعزلين تحت أقبية المعابد. إنّ النقد الثقافي، من هذه الزاوية، هو جُرأة الخروج من الأقبية الرطبة والمعتمة التي فرضتها النظرية البنيوية، لأجل إنقاذ النقد والأدب، على حد سواء، من موت وشيك. حيث لا ننسى أنّ ثورة 68 كانت أيضا ضدّ تبرجز النقد الأكاديمي والبنيوي الّذي لم يعد مُباليًا بأصوات الهامش.
إنّ أهمية النقد الثقافي هي في تحاقله المعرفي، أي في كسره للحواجز التي بين التخصصات المعرفية المختلفة؛ إذ أصبح بإمكان الناقد قراءة النصوص الأدبية باستثمار أدوات وآليات تحليلية يستقيها من حقول معرفية إنسانية مُختلفة، بعد أن كان تحليل النصوص مُقتصرا على إبراز آليات اشتغالها البنيوي. من هنا نفهم أنّ النقد الثقافي ليس نفيًا للنقد الأدبي بقدر ما هو توسيع لأفق القراءة النقدية لتتحرّر من أسيجة التخصص، وتتجاوز فرضيات الأطروحات الشِّعرية التي تغفل علاقة النصوص المتشابكة بالتاريخ وبالسياسة وبالوجود وبالمجتمع وبالإنسان. إنّ النقد الثقافي هو بتعبير آخر استعادة الإنساني داخل النصوص بعد أن قامت البنيوية بطرده أو بالإعلان عن موته (موت المؤلف). إنّ المُشترك بين النقد الأدبي والنقد الثقافي هو (النص/الخطاب) إلاّ أنّ الاختلاف بينهما يكمن في طبيعة الرؤية النقدية، ومرجعياتها، وأهدافها.
أمّا بخصوص تجاهل النقد الثقافي للمتن الأدبي الجزائري فهذا في اعتقادي يطرح مستويات مُتعدّدة للتأمّل النقدي؛ أوّلا، لم يحن بعد الوقت للحديث عن نقد ثقافي في الجزائر، فوجود جهود فردية من هنا وهناك، ليس كافيًا للحديث عن شيء يُسمى نقدا ثقافيًا. فإلى اليوم لم نُجِبْ عن أسئلتنا النقدية الكلاسيكية، بل إلى اليوم لا نفرّق بين المُدقق اللغوي (وهو زمرة من صيادي الأخطاء اللغوية في الأعمال الأدبية ويسمون ذلك الصيد بالنقد الأدبي) وبين الناقد الأدبي الّذي يُنتج نصوصًا معرفية تُبرز ما في النصوص من قيم جمالية ومعرفية وفكرية وإنسانية وثقافية. فما الحاجة إذا لهذه الوثبة التي تشبه حركة طائشة نحو مجهول ما؟ المستوى الثاني، عن أي نص أدبي نتحدّث؟ في هذا الوقت بالذات نشهد تزايد عدد الأدباء (روائيين وشعراء) وفي الوقت نفسه نشهد تقلّص عدد النصوص الأدبية، أو بالأحرى، وهنا المأساة عينها، نشهد ندرة النص الأدبي الّذي يوفّر مادة حقيقية للنقد الأدبي والثقافي على حد سواء؛ فقبل أن يسأل الأدباء عن غياب النقد فعليهم بالأساس أن يسألوا أنفسهم: أين هي تلك النصوص الأدبية التي تُحرّك مياه الكتابة النقدية؟ أين تلك الرواية التي تُحرّض النقاد على الكتابة النقدية عنها (أنا لا أتحدث عن كتابة الانطباعات العابرة، من مديح وذم)؟ فتطوّر حركة نقدية حقيقية مشروط جدا، ونحن نجهل، للأسف، أنّ النقد الحقيقي في حاجة إلى نصوص حقيقية، فضلا عن بيئة مُدرّبة على الحوار والنقاش وانفتاح الآراء على بعضها البعض، فأين كلّ هذا في واقع يزداد قتامة، يومًا بعد يوم؟
محمّد بن زيان: كاتب وناقد
جاء في وقته مُسعفا للنقد الأدبي ومُنقذا للأدب من الخطر
النقد الثقافي تبلور مع التراكم المعرفي وتشعبات ولدّت الحاجة إلى مقاربات وآليات مُضافة، هو نقد جاء لكي يخرج من التموضع المحصور أدبيًا، حصرا تغلبت معه نزعة تقنية جعلت تودروف يكتب "الأدب في خطر". منذ ستينيات القرن الماضي بدأ يتشكل ما يُعرف بالنقد الثقافي، وكان المجال التداولي الّذي انبثق منه هو المجال الأنجلوسكسوني، ففي سنة 1964 تأسس مركز بيرنجهام للدراسات الثقافية في بريطانيا الّذي بدأ في سنة1971 بنشر صحيفة أوراق في الدراسات الثقافية. هو نقد يتعلق بالأنساق الثقافية وبالمجال التداولي، بتعبير طه عبد الرحمن، وهو كما يقول آرثر إيزابرجر: "مهمة متداخلة، مترابطة، متجاوزة، متعدّدة، كما أنّ نُــقاد الثقافة يأتون من مجالات مختلفة ويستخدمون أفكارا ومفاهيم متنوعة وبمقدور النقد الثقافي أن يشمل نظرية الأدب والجمال والنقد، وأيضا التفكير الفلسفي وتحليل الوسائط والنقد الثقافي الشعبي، وبمقدوره أيضا أن يفسر (نظريات ومجالات عِلم العلامة، ونظرية التحليل النفسي والنظرية الماركسية والنظرية الاجتماعية والإنثربولوجية..الخ) ودراسات الاتصال، وبحث في وسائل الإعلام والوسائل الأخرى والتي تميز المجتمع والثقافة المعاصرة (وحتى غير المعاصرة)". ويقول ستيوارت هول: "ليست الدراسات الثقافية شيئا واحدا. ولم تكن في يوم شيئا واحدا" ويقول توبي ميلر: "الدراسات الثقافية هي نزعة عبر الميادين المعرفية، وليست هي ذاتها ميدانًا معرفيًا". وهذا ما يُمثل تمايّزا للنقد الثقافي عن النقد الأدبي، تمايّزا وليس تناقضا أو مواجهة ضدية، بل هناك تفاعلية وتبادلية أضافت للنقد الأدبي والثقافي وفي نصوص أعلام النقد الأدبي كبارت وتودروف حضورا لما يعتبر من صميم النقد الثقافي الأدبي مرتبطا بأدبية النص الثقافي يفكك شيفرات النص ويتفحص في الأنساق والسياقات. والنقد الثقافي إذا تحقيقٌ نوعا ما لما عبّر عنه باختين وجوليا كريستيفا بالحوارية، حوارية بين تخصصات مُتعدّدة. وكان بروز النقد الثقافي وامتداده مُقترنا مع مد ما بعد الحداثة بكلّ التشظيات وبيانات المابعديات والنهايات والموت، والموت الّذي قيل بشأن النقد متصل بتسلسل الموت منذ المطرقة النتشوية التي وسمتها عبارة موت الإله إلى الإعلان البنيوي عن موت الإنسان، فالقول بموت المؤلف ثمّ موت الناقد.. وفي الحقيقة لم يكن النقد الثقافي إطاحة بالأدبي، بل مد جسور تصل الأدبي بتخصصات مختلفة، وتفتح مجالات أوسع لتوليد ما يتوارى ويضمر وراء الدلالات ولكلّ دال ظله كما قال بارت. النقد الأدبي يبقى، ويبقى محوريًا في الدرس الأدبي. ولكن ربّما النقد الثقافي جاء في وقته مُسعفا للنقد الأدبي ومُنقذا للأدب من الخطر الّذي دق تودروف جرسه. النص هو الجامع بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، لكن مجال النقد الثقافي يشمل خطابات ورموز وعلامات ومُمارسات أوسع كتلك المُتصلة بدراسات ما بعد الكولونيالية والدراسات الجندرية والنسوية والميديا...الخ. بين الأدبي والثقافي ما يُحقق تبادلية مُثمرة لهما معًا، فالأدبي يمدّ الثقافي بمفاتيح، والثقافي يُعمق نظرة الأدبي ويُحرّره من طغيان تطبيق آليات إجرائية تفقد الأدبي أدبيته. منظومتنا النقدية افتقدت التواصل بالمنجز الأنجلوسكسوني الذي راكم مرجعيات النقد الثقافي في الولايات المتحدة وبريطانيا والهند.. إلخ، ولكن بدأ الانتباه في السنوات الأخيرة، وظهرت كتابات مُتميزة، من داخل الحقل الأدبي، وأيضا من داخل بعض المشتغلين بالدراسات الفلسفية. ولا يمكن الحديث عن وضع النقد الثقافي عندنا بمعزل عن وضع ثقافي ومعرفي عام، فهناك تصحر بغياب المنابر وببقاء أعمال أكاديمية لها أهميتها أسيرة الأرشيف الجامعي.
قلولي بن ساعد: كاتب وناقد
النقد الأدبي لم يمت والنقد الثقافي جاء لتجاوز "تيه النصية"
لا أعتقد أنّ هناك مثقفًا مُطلعًا على بعض سرديات النقد المعاصر السياقية منها أو النسقية المُنبثقة عن الإنفجارات المُتتالية على صعيد العلوم الإنسانية بالغرب مسقط رأس النظرية الغربية والفضاء الإبستيمي الناشئة عنه يمكن له أن يصدق فعلا أنّ النقد الثقافي هو هذا التيار المُبشر بموت النقد الأدبي. فالغذامي نفسه الّذي تُنسب إليه هذه القطيعة الدالة على (موت النقد الأدبي) وحتى لو قال ذلك عرضًا في كتابه المرجعي (النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية) الكتاب الّذي كشف فيه الغطاء عن ما يسميه بالأنساق الثقافية المهيمنة في التراث الشِّعري العربي وفي نصوص الحداثة الشِّعرية العربية، وهي حداثة شكلية، كما يرى لا أهمية لها في الفضاء الدنيوي كتجل لحياة النص وديمومته، والدليل على ذلك أنّ الغذامي لم ينكر أبدا أنّ النقد الثقافي جزء من النقد النصوصي. وفي كتابه الصادر سنة 2017 (الجنوسة النسقية: أسئلة في الثقافة والنظرية) لم يتردّد الغذامي في التأكيد على أنّ النقد الثقافي لن يكون إلغاءً منهجيًا للنقد الأدبي، بل إنّه سيعتمد اعتمادا جوهريًا على المُنجز المنهجي الإجرائي للنقد الأدبي، وكلّ ما في الأمر أنّ هناك ثغرات لم يكن بوسع النقد الأدبي النصوصي ترميمها، لأنّها ليست من صميم المنظومة النظرية التي يستقي منها النقد الأدبي أدواته المفهومية والتقنية والإجرائية، فانشغل بالبنية وأهمل النسق، والنص كما نعلم بنية ونسق، وليس بنية فقط، مِمَا لا يمكن استنفاد كلّ أسئلة القراءة المفتوحة أمام رياح العقل البشري في استنباط الدلالة الثقافية من باطن النصوص الإبداعية الجديرة بالتناول النقدي من منظور النقد الثقافي الّذي زال النص الإبداعي الجزائري والعربي عموما بعيدا عنه، بل وهناك من يتهيب مِمَا أبداه بعض النُقاد من الدعوة إلى تمكين النقد الثقافي و"تبيئة" بعض مفهوماته والأسئلة التي يحاول إثارتها بدعوى أنّه يساوي بين جميع النصوص من حيث كونه لا يقول لنا ما إذ كان هذا النص جميلا أم رديئا من الناحية البلاغية والجمالية طبعا، على اعتبار أنّ النقد الثقافي ليس من وظائفه أبدا التعرض للحيل الأسلوبية والبلاغية في النص، أو الكشف عنها، وهي دعوة باطلة، بل وتخفي وراءها توجسًا رهيبًا من النقد الثقافي الكفيل بتعرية الثقافة العربية، والنص الإبداعي كتجل لهذه الثقافة من الأنساق الثقافية المهيمنة تحت غطاء الجمالية والحيل الأسلوبية والزخارف اللفظية بما تُهيل عليه ما يُسميه محمّد عبد الله الغذامي بـــ"حكومة البلاغة"، بعض الهيمنة النسقية، هذا هو سؤال النسق الّذي قاد عددا من النقاد الثقافيين إلى الانفتاح على إنتاجية أسئلة ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة وغيرها من أشكال السيرورات المُتتالية التي جاءت بها الخطابات البعدية بوصفها الحاضنة المعرفية التي اتكأ عليها مؤسسو حقل الدراسات الثقافية، وهو مفهوم أشمل من النقد الثقافي في مركز برنغهام ببريطانيا للدراسات الثقافية التي تعتبر إحدى الخلايا التي ستنبثق عنها سلسلة أخرى من التوجهات المعرفية، وهي توجهات كلّها تصب في مصلحة المعقولية التي تحفظ للتعدّديّة الثقافية بأن تُدشن بعض أهدافها، بِمَا في ذلك ثقافة الهوامش والأطراف خاصة في العالم الثالث (النساء/السود/الأفارقة/الأسيويين)، والنصوص المُجاورة لها على غِرار السينما والمسرح والفنون التشكيلية كروافد ثقافية لم تكن محل عناية من طرف النقد الأدبي النصوصي الّذي ركز كلّ جهوده على النص الإبداعي المؤسساتي وعلى نصوص (الحداثة الرفيعة) بتعبير ماري تيريز عبد المسيح، بأثر مِمَا يضمن للقراءة النّصيّة امتثالها لفوقيّة المركزيّة الغربيّة، التي تلقى بعض مناهجها النُقاد العرب بنوع من الميكانيكية والشكلانية، حتى لا أقول التبعية المُذلة. وعليه ليس غريبًا أن يستيقظ في آخر المطاف ناقدا فرنسيًا من أصل بلغاري وهو "تودوروف" بعد مسار طويل من المُمارسة النقدية في أفقها الشكلاني على وقع ِمَا يسميه الناقد الهندي شاكرابارتي ديبيش، (صحوة التابع) فيقدم مراجعة لمساره النقدي في كتابه (الأدب في خطر)، واصفًا كلّ ما فعله هو وزملائه من (الأغيار) القادمين من بلغاريا، بالوقوع داخل غيتو هو (الغيتو الشكلاني).
يحدث كلّ هذا، باعتراف أحد أقطاب المدرسة الفرنسية بصنميتها التي نعرفها جميعا وهو رولان بارت، الّذي لم يتردّد في مكاشفة لعبد الكبير الخطيبي عندما قرأ كتابه (الاسم العربي الجريح) إلى أنّ الخطيبي يعلم بارت. ما لم يقف عليه مُعترفا بأنّ الخطيبي يخلخل معرفته ويأخذه بعيدا عن ذاته إلى أرضه، في حين، يحس بارت كأنّه في الطرف الأقصى من نفسه، قد تبدو العبارة التالية (الخطيبيي يُعلم بارت ما لم يقف عليه بارت) بالنسبة لقارئ لم يتعوّد على نوع من الحوار المتكافئ بين مثقفين أحدهما من الفضاء الثقافي الإمبراطوري وهو بارت والثاني من الضفة الأخرى الضفة التي جرى عليها فعل الطمس والاحتواء، ولكن بارت فعلها أمام الخطيبي ولم يتردّد أبدا في الاعتراف بقدرة الخطيبي على جره إلى أرضه، وكان يقول "هنا يمكن لمثقف غربي مثلي أن يتعلم شيئا من الخطيبي، ليس أساسنا اللغوي واحدا، ومع ذلك يمكن أن نأخذ عنه درسًا في الاستقلال، إنّنا واعون جدا بانغلاقنا الإيديولوجي".
وإذن، فنحن بإزاء تحوّل في أدوات المعالجة النقدية للنص الإبداعي العربي المشحون بتلك الظرفية التي تورط فيها العنف الإبستمولوجي الغربي المتواطئ مع عنف آخر هو العنف الإمبريالي لتجاوز حالات الانغلاق الأيديولوجي الّذي اعترف به بارت، بِمَا يعني اللجوء إلى ما تسميه الناقدة الهندية ما بعد الكولونيالية غياتريسبيفاك (التفاوض) مع النظرية الغربية للحد من مفعول الهيمنة الإبستيمية كما وردت إلينا من مراكز إنتاج المعرفة النظرية بالغرب المرتبطة بالسرديات أو علم السرد أو (الإرجاء) بمفهوم ديريدا كلحظة وعي نقدي لابدّ منها لتوطين الأدلة والمفاهيم أو (تبيئتها) بتعبير الجابري أو (أقلمة المفاهيم) بتعبير الباحث السوري الدكتور عمر كوش، الأقلمة التي خصص لها عمر كوش، كِتابًا سماه (أقلمة المفاهيم تحولات المفهوم في ارتحاله)، بهدف إنتاج المعنى والدلالة من النص، وهو هنا بالنسبة للقراءة الثقافية، المعنى الثقافي الّذي غيبته القراءات النّصيّة والبنيوية والسيميائية وغيرها من القراءات السابقة عليها أو المُتزامنة معها إلى حد الحلول في ما وصفه إدوارد سعيد (بتيه النّصيّة) لأسباب وسياقات تاريخية، لم يكن من الممكن الاعتراض عليها، أو مُساءلة الناقد النصوصي بشأنها، بالنظر لحداثة تجربة الكتابة النقدية بالجزائر وتعثر مشاريع الترجمة والبحث العلمي والتذبذب الحاصل على صعيد مشروعات النهضة العربيّة التي لم تهُب عليها رياح (الأنسنة) إلاّ قليلا.