ذاكرة 63 يوما من ثورة الموت !
"إنس الماضي".. هي إحدى المقولات الشهيرة للزعيم الثوري الراحل نيلسون مانديلا، الذي دعا شعوب العالم إلى تجاوز أوجاع الحروب و المآسي الإنسانية، لكن البولنديين يأبون نسيان ما تعرضوا له من انتهاكات على يد ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، و بالأخص إبان «انتفاضة وارسو” التي ثار فيها أهل المدينة ضد جنود هيتلر، فكانت النتيجة مقتل قرابة ربع مليون شخص، يخلدهم اليوم متحف «الانتفاضة» الذي يوثق لثورة دامت 63 يوما فقط لكنها شهدت دمارا هائلا، لم يكن عائقا أمام البولنديين في جمع و حفظ مئات المعروضات التي تستقطب سنويا مئات الآلاف من السياح و تحولت إلى أحد عوامل تشكيل الوعي الجماعي لدى الأجيال الجديدة بهذا البلد الأوروبي المتعافي من الحرب.
روبورتاج: ياسمين بوالجدري
لا يزال العالم يتذكر لليوم تبعات الحرب العالمية الثانية المصنفة كأكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية، و التي كان الشعب البولندي من أكبر ضحاياها في دول أوروبا الشرقية، خاصة خلال ما عرف بانتفاضة وارسو، التي انطلقت في الفاتح أوت من سنة 1944 من طرف 53 ألف بولندي ثاروا من أجل تحرير بلادهم من الاحتلال الألماني، و انتهت في الثاني أكتوبر من العام نفسه، و هي فترة تم خلالها تدمير 60 بالمائة من مباني المدينة على ضفتي نهر فيستولا، كما ارتكب النازيون جرائم و مجازر ضد الثوار والمدنيين الذين قتل 200 ألف منهم و تم ترحيل عشرات الآلاف منهم إلى معسكرات الاعتقال، فيما أحصي 16 ألف قتيل وسط المتمردين و 6 آلاف مفقود و 5 آلاف جريح. و ما زاد من حجم الخسائر البشرية، هو عدم تدخل السوفييت لمساعدة الثوار مثلما كان متوقعا، ليجدوا أنفسهم بمفردهم في مواجهة جنود هيتلر، إذ لم يتحرك الجيش الأحمر إلا بعد 63 يوما من المعارك العنيفة التي لم تُبق سوى على نحو ألف شخص من الذين شاركوا في الانتفاضة، هذه الأخيرة التي تُبعت بدخول السوفييت للعاصمة بعد ذلك بحوالي شهرين، و بالتحديد في الفاتح نوفمبر من سنة 1945.
34 بالمئة من زوار وارسو يقصدون المتحف
النصر كانت لها فرصة التجول في متحف الانتفاضة أو “آبرايزينغ ميوزيوم” كما يسمى باللغة الإنجليزية، و ذلك برفقة وفد علمي لجمعية الشعرى الجزائرية، فالمتحف الذي يستقطب 34 بالمئة من السياح القادمين للعاصمة البولندية وفق آخر الإحصائيات، عبارة عن بناية كبيرة ذات لون آجري، تميل في شكلها الخارجي إلى الطراز القديم من البنايات الأوروبية.
و الملاحظ أن هذا المرفق السياحي و التاريخي الذي تم افتتاحه سنة 2004، بمناسبة إحياء الذكرى الستين لتحرير وارسو من الألمان إبان الحرب العالمية الثانية، يتوسط مبان عصرية تمتلئ بها العاصمة، في حين تقابله ناطحة سحاب انعكست أشعة الشمس على واجهاتها الزجاجية، و هو ما أعطى مسحة جمالية فريدة للمكان.
قبل الدخول وجدنا حافلات كبيرة و هي تركن قرب بوابة المتحف، لينزل منها عشرات السياح، و هنا أيقنا أننا سننتظر كثيرا للحصول على تذكرة، خاصة أن زيارتنا كانت خلال العطلة الصيفية و تزامنت مع نهاية الأسبوع، و كما توقعنا، كان هناك طابوران طويلان للزوار، أحدهما قرب المكان المخصص لشراء التذاكر التي يتراوح سعرها بين 15 و 25 زلوتي للفرد، و الآخر أمام الباب الذي يحيل مباشرة إلى بهو المتحف.
«جئتُ من كوريا لأعرف أكثر عن معاناة شعب بولندا”
بعد الحصول على التذاكر، وقفنا في طابور امتد لعدة أمتار و قد تحدثنا أثناء ذلك مع سائحة من كوريا الجنوبية، أخبرتنا أنها باحثة جامعية مختصة في الأدب الكوري، و قد استغلت فرصة زيارتها العلمية إلى بولندا التي وصفت شعبها باللطيف، لاكتشاف المتحف، و معرفة المزيد عن تاريخ هذا البلد الذي قالت إنها سمعت عمّا عاناه خلال الحرب العالمية الثانية، و في تلك الأثناء كانت مجموعة من عناصر الكشافة البولندية الإناث، قد حلت بالمكان الذي يمثل رمزية تاريخية مهمة لها، خاصة أن الكشافة كان لها دور بارز إبان الانتفاضة، فقد ساعد شبابها على نقل قرابة 4 آلاف رسالة يوميا، فيما قتل العديد منهم.
و عقب أزيد من نصف ساعة من الانتظار، دخلنا المتحف، أين وجدنا أنفسنا في بهو ذي أرضية حجرية و سقف مرتفع فسيح حرص القائمون عليه، على جعل الإنارة به خافتة لإتاحة إمكانية رؤية الشاشات المنتشرة في كل مكان، من أجل عرض شهادات من عايشوا الحرب و مشاهد عن الدمار الذي لحق بولندا، و غيرها من الصور التي تؤرخ لتلك الحقبة الصعبة من تاريخ هذا البلد الواقع بأوروبا الشرقية.
مرشدون بـ 6 لغات و امتيازات لذوي الاحتياجات الخاصة
و بإمكان الزوار الحصول على خرائط باللغتين الانجليزية و البولندية، توضح بالتفصيل جميع أجزاء المتحف و ما تحتويه من معروضات، كما تبين التسهيلات الممنوحة لذوي الاحتياجات الخاصة و ضعاف السمع و المكفوفين، فبفضل تكنولوجيات العرض المتطورة يمكنهم الحصول على شروحات وافية. و قد خُصص للسياح الأجانب مرشدون ناطقون باللغات الانجليزية و الألمانية و الفرنسية و الإسبانية و الإيطالية و كذلك الروسية، أما الآباء و الأمهات فبإمكانهم ترك أطفالهم في حجرة يقومون داخلها بنشاطات خاصة، و ذلك خلال عطلة نهاية الأسبوع، فيما توجد فضاءات للراحة و شرب القهوة.
و يبين لوح كبير دُوّن باللغتين البولندية و الانجليزية، جميع المراحل التي مرت بها بولندا خلال الحرب، بدءا من تاريخ اجتياح الألمان للعاصمة إلى غاية انطلاق الانتفاضة في الفاتح أوت من سنة 1944 ثم انتهاء الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1945. و مع التوغل أكثر في المكان وجدنا طائرات حربية صغيرة و أخرى كبيرة الحجم تم تعليقها بإتقان عبر الأسقف المترفعة، فيما تظهر شاشات العرض و الصور الفوتوغرافية الكثيرة، الجنود و الشخصيات التي صنعت الانتفاضة مع سير ذاتية مفصلة عنهم.
و لم يهمل البولنديون أية تفاصيل من شأنها أن تساعد في إيصال حجم المعاناة و الاضطهاد الذي عايشوه إبان الحرب، فحتى الرسائل الحزينة التي تبادلها العشاق و الآباء و الأبناء حينها، تم عرضها بشكلها الأصلي و بعضها ممزق و شبه تالف، و ذلك من خلال نسخ علقت كقصاصات في الجدران، كما تم وضع ألبسة و ألعاب أطفال ماتوا إبان الانتفاضة و هو الجزء الذي لاحظنا أنه استقطب الزوار أكثر.
الكلب و صليب هتلر!
و من بين أجزاء المتحف التي استرعت اهتمامنا، هي حجرة كبيرة تم تخصيصها لإبراز الدور الذي يفتخر البولنديون بأن الأطفال لعبوه خلال الانتفاضة، حيث تظهر معطيات تم عرضها في مدخل الغرفة، أن العديد من الأطفال بقوا في وارسو مع بداية انتفاضة وارسو، حيث اختبأ الصغار منهم مع عائلاتهم في الأقبية، أما من تزيد أعمارهم عن 12 سنة، فقد «سُمِح لهم» بمساعدة الثوار عن طريق استعمالهم في نقل الرسائل المكتوبة و الأوامر الشفوية، كما استخدِموا كمرشدين و مستطلعين و شاركوا في إنجاز الحواجز و توزيع الجرائد التي كانت تصدرها المقاومة، ما جعل دورهم لا يقل أهمية عن دور البالغين، ليتعرض معظمهم إلى الإجلاء خارج المدينة فيما سُجن بعضهم في المعسكرات.
داخل الحجرة المخصصة لـ “انتفاضة الأطفال”، كانت هناك الكثير من الألعاب التي أحب الصغار اللعب بها في تلك الحقبة، و الملفت أن من بينها دمى متحركة استخدمت للترويح عن الصغار و حتى الثوار، و من بينها دمية تجسد كلبا رسم عليه رمز الصليب المعقوف الذي يمثل النازية، و يبدو أنها كانت تستعمل للرفع من معنويات الجنود و الأطفال، من خلال إظهار العدو في هيئة حيوان بلسان طويل متدلِّ و فرو متسخ.
وجدنا أيضا في هذه الحجرة، بعضا من الحقائب و الأفرشة و المقتنيات التي كان يستعملها “الأطفال الثوار” في تلك الفترة، كما وُضعت كتب و أختام خشبية أتيح للزوار تجريبها على طاولة صغيرة، و كذلك مجسمات مصغرة للجنود و الدبابات، بينما توسطت طاولة خشبية الغرفة و كانت تجلس بها سيدتان إحداهما متقدمة في السن و مهمتها تقديم شروحات للزوار للراغبين في الحصول عليها، بينما كانت الشاشة المثبتة في الأعلى تعرض أناشيد وطنية لأطفال يرتدون أزياء عسكرية.
قبور و أنقاض تُؤرخ للدمار
خلال تجولنا في المتحف، وجدنا غرفة تم تحويلها إلى مطبعة مصغرة تضم الآلات و الأجهزة القديمة التي كانت تستخدم في طبع المناشير و الجرائد السرية التابعة للمتمردين، في حين صُفت في الخارج أجزاء من الردوم التي لا تزال شاهدة على الدمار الذي لحق العاصمة وارسو، و تمثلت هذه الردوم حسب المعلومات المدونة على البطاقات التعريفية الخاصة بها، في أجزاء من البنايات الثقافية و العلمية و كذلك الدينية.
و قد استوقفنا إعادة تجسيد قبور الثوار و المدنيين البولنديين الذين قضوا خلال الحرب، حيث أنجزت تحت الأرضية و تم فصلها بزجاج سميك يظهر شكل القبر و بعض الأغراض الخاصة بالأشخاص المدفونين به و كذلك الزهور الموضوعة فوقه و الأنقاض التي ماتوا أسفلها، فيما أحيطت بالمكان صور الموتى، دون أن يغفل القائمون على المتحف إضافة المؤثرات الصوتية التي تجعل الزائر يشعر أنه في قلب المجزرة، حيث كانت أصوات الجنود و التفجيرات و صفارات الإنذار تصدر من كل اتجاه.
مناديل ملطخة بدماء الثوار!
و رغم الدمار الكبير الذي لحق وارسو، إلا أن المتحف لا يزال يحافظ إلى اليوم على العديد من المقتنيات التي تركها الثوار خلفهم، و التي تحولت اليوم إلى معروضات «ثمينة» تجذب آلاف الزوار سنويا رغم بساطتها، و ذلك بالنظر لقيمتها المعنوية الكبيرة لدى البولنديين، إذ نجد بينها بعض المناديل التي لا تزال ملطخة بدماء الجنود، و خواتيم و نظارات و قلائد و أوسمة و هواتف تقليدية، بالإضافة إلى الكثير من الأسلحة الحربية و البدلات العسكرية التي تخص مختلف الرتب و كذلك عربات قديمة، و الملفت أن حتى الحصون المصغرة وجدت مكانا لها.
و يستطيع الزائر التوغل أكثر في تاريخ انتفاضة وارسو، من خلال حضور فيلم وثائقي صغير بعنوان “مدينة الأطلال” يتم عرضه بشكل دوري في قاعة سينما صغيرة عبر تقنية ثلاثي الأبعاد، إذ يتكفل مرشد خاص بإدخال الزوار و إجلاسهم على الكراسي ليبدأ العرض الذي يُظهر عبر مشهد من الجو، حجم الدمار الهائل الذي لحق وارسو مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث سويت أغلب البنايات أرضا و تحولت إلى أطلاق بلا روح، بعدما قتل مئات المدنيين الذين كانوا يحتمون بها، فيما اضطر العديد منهم إلى الفرار.
آباء و أطفال يبكون ضحايا الحرب
توجهنا بعد ذلك إلى الطابق الأول، الذي وصلنا إليه عبر مصعد زجاجي بُثت فيه أغان وطنية بولندية، و في هذا الجزء من المتحف تم وضع مجسمات صغيرة للأبنية المدمرة كما تم تخصيص مكان لأداء الصلوات على روح ضحايا الحرب، فيما ظهرت علامات التأثر على الزوار الذين قدموا من مختلف أنحاء العالم، و خاصة على البولنديين الذين كانوا يأتون في شكل عائلات أو فرادى، و يتعلق الأمر بشباب و شيوخ و أطفال، كانوا يتفحّصون المقتنيات و يشاهدون باهتمام شديد الأشرطة و الأفلام المعروضة هنا و هناك، كما لاحظنا آباء و أمهات و هم يحضنون أبناءهم و يربتّون على أكتافهم بينما علامات الحزن و التأثر بادية عليهم.
و صادفنا خلال جولتنا بهذا المتحف المميز بجدرانه المغطاة بالرسومات و الصور، عددا من الراهبات و الكثير من الوفود السياحية التي كان المكان يعج بها، و لأن السوفييت و حكومة ستالين كان لهم دور غير مباشر في جرائم الإبادة التي تعرض لها البولنديون خلال الانتفاضة، فقد خصص جزء من المتحف للقسم الشيوعي، حيث يظهر الانتهاكات التي حصلت وقتها و بالأخص في حق الزعماء السياسيين.
خرجنا من متحف الانتفاضة و تركنا خلفنا زخما تاريخيا و ثقافيا استطاع البولنديون أن يحتفظوا بكل جزء منه، فحولوه إلى مصدر فخر للأجيال المتعاقبة و إلى نقطة جذب سياحي تحقق عائدات مالية كبيرة على بلاد أحسنت الاستثمار في ذاكرتها.
ي.ب