شِعرية التحرّر والانفلات
«إيقاع الشّعر في تلاويح ورقة صفراء من شجرة الخريف/ إيقاع الشّعر في صيحة طائر عند باكر الصباح/ إيقاع الشّعر انبثاق مويجة صغيرة عند شاطئ نهر في ظهيرة../ إيقاع الشّعر في النأمة الأولى قبل الكلام/ إيقاع الشّعر صوت النار الزرقاء عند البدو../ إيقاع الشّعر وصية المحتضر أمام الورثة../ إيقاع الشّعر رقصة المجانين../ إيقاع الشّعر أيضا له رائحة لبن الأمهات/ إيقاع الشّعر في رائحة الكتب القديمة وفي غبار البيوت المهجورة/ إيقاع الشّعر في كلّ هذا وأكثر».
محمّد بن زيان
أبياتٌ ضمن نصوص تبلور شِعرية مُفارقة للمطابقات ومُنزاحة عن قواعد الحد والضبط، عن قواعد مهووسة بالتعريف والدليل أو بعبارة منطقية بالتصور والتصديق. شعرية الانشقاق عن الوضع، عن الثنائية الحدية عدم/وجود.
في بداية ديوانه «تركت رأسي أعلى الشجرة» نشر الهامل بيانه ضد الشّعر، بيانا لا يجتر تقاليد البيانات النسقية والمدرسية، بيان ينتصر للمحو والانمحاء للتلاشي في فيض الوجود، للتلاشي في ما يتوارى خلف ذلك الفيض، في ما يكفر بالتسليم ويثور على الطمأنينة ويتحرّر من قيد التنظير ومن وهم التخييل المُعتل باسترجاع الأطياف والأصداء. خاطب الشعراء: «أيّها الشعراء استمسكوا بعروة الكآبة وتخففوا من أسمال المعنى... افعلوا مثلما فعل آرثر رامبو أو انتحروا في صباح مشرق معلقين بجذع شجرة، ليس لكم إلاّ هذا، أو لتخرس ألحان المُغني العذبة التي لم تعد تثير نأمة في القلب: الحفرة بلا قرار».
إنّها الشِّعرية المُضادة باستغراقها في التفاصيل واقتحامها لمتاهات تخلخل التجنيس، هي الكتابة التي تواجه المحو وتتمثله بما ينبثق تحولا لا يثبت ولا يستقر، فالشِّعر كما كتب صلاح بوسريف: «لم يكن مقابلا للنثر أبدا، أو لم يكن نقيضه، كما حاولت النظرية النقدية العربية إيهامنا بذلك.» وتدفع الكتابة كما يقول: «من يُمارسها إلى الوعي بمضايقها. فهي ليست كولاجا، أو تجميعا، فهي خطر، وهلاك. سيف ذو حدين، فإما أن تكون شعرا، وإمّا أن تظل ممارسة تبحث لنفسها عن مسلك داخل مسالك الكتابة. بمعناها الخطي، وليس داخل مضايق الخطر التي تنأى بالشّعر عن القصيدة كنمط وتجعله يعيد النظر في انتسابه لغير ما كان يعرف به من صفاء الجنس وواحديته. الشِّعر إذن، يغيّر مواقعه، لا يطمئن لشكل أو لمفهوم محدّد. فهو مراوغ. عات. وعاصف.. هذا هو وضعه».
والقراءة التي تتعاطى مع نص ما، لا تثمر إذا خضعت للتسليم بمسلمات أو ولجت عوالم المبدع بانضباط تقني ونظري، ويمكن أن نقول مع جورج طرابيشي «لا وجود في النقد الأدبي لمفتاح يفتح الأقفال جميعها». وذكر أنّ لكلّ رواية «إذا كانت رواية حقا، قفلها» وما ذكره عن الرّواية قد يصح اعتباره في التعاطي مع كلّ نص إبداعي بعيدا عن التجنيس والتنميط.
نصوص الهامل تخلخل النمط، تخلخل التلقي، تستفز قراءة مثلها لا تقف عند الرسم، قراءة تعيد تشكيل النص، والنص الإبداعي حياته في تعددية وفي تجدّد تشكله. النص ترحال بلا دليل وكما كتب: «بوصلتنا لم تعد تُشير» و»بوصلتنا الرّياح»... يسافر، في السفر يستعيد الذكريات، يجهش القلب، وتستيقظ حواس الحواس، يستغرق في التفاصيل ويحميه التيه من الغرق... ينغمس في الواقع، ويخترق العابر عابرا ومنفلتا عن سلطة العابر... مسكونا بعابر لا يعبر، عابر يتمادى في خلخلة المسلمات واليقينيات والدفع بمرايا تعيد صياغة المشاهد.
يقول الكاتب محمّد شكري: «إنّ الإبداع، الحقيقي، يتجاوز التجارب التسجيلية، أو إمكان حدوثها، في الخيال العلمي. ما يهمنا اليوم هو أن يعرف المبدع كيف يعبر عن جدوى تجربته الفكرية أو الوجدانية. ليس فقط من أجل إقناعنا بحقيقة حدوثها أو واقعيتها كما يريد البعض. إنّ التجارب الأدبية التي لا تجعل الناس يكتشفون من خلالها كينونتهم في أفضل حالات الانسجام معها ليست أدبًا وإن انتمت إلى الأدب. من حق الطفيليات أن تنمو في حقل الأدب، لكن لنا أيضا الحق في أن نجتثّها».
في شِعر الهامل الانمحاء، لا حد، يتداخل العدم بالوجود، يتلاقيان عند برزخ التخوم، تخوم تبقي السؤال، تبقي رغبة الوصول، مسكونة بمستحيل يطيح بوطأة سلطة الممكن. يمتلأ ويتجرّد، وبالامتلاء والتجرّد يترك التيار لكي يجرفه، مع إيقاعات عود علا في رمل يفصح مبهما ويبهم مفصحا فالشِّعر كما يقول الشاعر اللبناني بسام منصور: ««اللّغة هي عربة فارغة لا يمكنها أن تتحرك إلاّ إذا كانت محملة. لا يكفي أن تكتب حتى يحصل الشِّعر. بعدما نستنبط حجر اللّغة، علينا أن نهذبه لئلا يتحول إلى صخرة منسية من صخور الكلام. الشّعر عندي نوعٌ من أنواع اللعب. إيثاكا دائماً معي أينما رحلت، والعودة تبقى مستحيلة لأنّ الاغتراب الأصلي هو في القلب».ـ الأخبار اللبنانية 21/7/2018. ويقول: «أخاف الكتابة الإبداعية وأشعر أنّها تحدٍّ غير مجد. لكنّني أكتب حتى أمحو الكآبة كمن يسبح أو يركض أو يقوم بأعمال رياضية في الوقت الّذي يتحرك جسمه ينقى ذهنه. حين أكتب نصاً جديداً، لا أشعر أنّه انتهى بل هو بداية لمعركة القضاء على الزوائد في هذا النص».
الهامل يطيح بالمتعاليات الوهمية، متعاليات النص والشّعر، يرحل كرامبو معانقا المتاهات، مستحضرا ما يتجاوز الكلمات. يذكر آلان جوفروا محاورة رامبو لصديقه دلائيه، قطف رامبو لــ»وردة زنبقة من النوع الجميل والموجودة في كلّ مكان، ويعرضها على صديقه ويقول له إنّ أكثر الفنون حذقا لن يقدر على أن يُحقق شيئا بمثل هذا التناسق». ويوضح جوفروا: «هما إذن المساواة والخلق، كما نجد أنموذجهما في الطبيعة وليس على أيدي اختصاصيّي الفن، هؤلاء الذين كان يدعوهم رامبو، بالزّرازير. ذلك أنّ مفهوم الفن نفسه كان ينبغي في نظره توسعه، والشِّعر نفسه ليس ينتمي إلى الأدب. هكذا كان الكل يشكل لرامبو كلّل حقيقيا، وكان الكل ينخرط في رؤية شاملة للكون، جغرافية شِعرية هي في الأوان نفسه جغرافية سياسية هذا كلّه، الّذي هو بذرة فكر مغاير للفكر المهيمن في الغرب، حدّسه رامبو منذ البداية.» ص 15 و16 «آرثر رامبو الآثار الشِّعرية» ترجمها عن الفرنسية وهيّأ حواشيها ومهّد لها بدراسة كاظم جهاد/ الطبعة الأولى 2007 دار الجمل.
كتب نيكوس كازنتزاكس: «إنّ المبدع يتصارع مع مادة قاسية غير مرئية، مادة أسمى منه بكثير. وحتى أعظم المنتصرين يظهر مهزوما، ذلك لأنّ أعمق أسرارنا، السرّ الوحيد الّذي يستحق أن يعبر عنه، يظل دون إفصاح. ولا يخضع هذا السرّ للإطار المادي للفن. إنّنا نختنق داخل كلمة. وعند رؤية شجرة مزهرة أو بطل أو امرأة أو نجمة الصبح، نطلق: (آه). لا شيء غيرها يمكن أن يتلاءم مع غبطتنا. وعند تحليل هذه (الآه) نتمنى لو نعيدها إلى فكر وفن، لكي نمنحها للبشر وننقذها من فنائنا الشخصي. فكم ترخص عندها وتصبح كلمات صفيقة متبرجة مليئة بالهواء والخيال». ص 413 و144 «تقرير إلى غريكو» ترجمة ممدوح عدوان، الطبعة الأولى 2002ـ المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب.
ما عبّر عنه الناقد المبدع محمّد خطاب بخصوصية «اللاشِعرية» في شِعر الهامل، مُقترن بما أشار إليه جورج باتاي: «الشِّعر هو المألوف مُنحلا في الغريب». نصوص عبد الله الهامل تُـربك الّذي يقرأها وتفصله عن المعيار والحد والضبط.. نصوص تعرج بالمجسد وتنزل بالمجرّد... تفض بكارة العابر لتنحت عبارة عبور يبقى مستمرا بالمحو لثقف الأثر الّذي يبقى متحولا مكتوبا بنيرفانا تدركها حالة التحلل في الحلول والحلول بالتحلل في الطبيعي بالتحرّر من المصطنع.
مع الهامل يتدفق الشِّعر كلمات وإشارات وسلوكا ونبل روح، ودهشة طفولة، وتيهًا يصل حلقات الترابط لسلالة الذين اخترقوا بالعبور العابر وقوضوا المركز بالتغوّل في الهامش وبالغوص في فيوضات الوجود،،، سلالة امرؤ القيس والشنفرى وبشار بن رد وديك الجن والمعري وآبو نواس والمتنبي وعمر الخيام ورامبو ولوركا وطاغور. مع الهامل يحضر الحال الشِّعري،، تحضر حضرة متحرّرة من وطأة النسق ومن حمى التقنوية ومن سطوة الشكل ومن سلطة الطيف ومن هيمنة الصدى. الهامل يعيش الحالة،،، ينحت من تحولاتها العبارة ويعبر لثقف ما تقصيه الأقاصي.