الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

التنبـؤ بالمستقبــل.. الأدب والعلــم يصوغــان ملامـح الغــد


يبدو الأدب والشعر بالنسبة للبعض، مجرد أخدود عميق يجري فيه نزر قليل من ماء المعرفة والحضارة الإنسانية، سرعان ما يتبدد في البطاح والمناقع، بل ويتطرف آخرون في نظرتهم هذه، إذ يعتبرون أنهما كالزائدة الدودية في جسم الإنسان، لا يقدمان أي شيء للمعرفة والعلم و لا تأثير لهما على مستقبل الحياة البشرية.
زواغي عبدالعالي
 وبخلاف هذه النظرة، فإن الواقع والتاريخ يثبتان أن للأدب والشعر، بطريقة أو بأخرى، فضلا معتبرا على العلم والتكنولوجيا، رغم أن الكثير من الناس عندنا، درجوا على النظر إلى المثقفين من أهل العلوم الإنسانية والاجتماعية، من مفكرين وأدباء وشعراء، على أنهم مجرد سوفسطائيين لا يجيدون سوى الهرطقة وصناعة الكلام الأجوف الذي لا يغني ولا يسمن، وربما صدقوا في حكمهم هذا على اعتبار أن الرائج في الكثير من الإنتاجات الأدبية والفكرية لا يرقى إلى المستوى المرجو، إضافة إلى ضعف أداء النخبة إعلاميا ومجتمعيا وانحسار دورها في الفضاء العام
لكن، وبعيدا عن هذا الحكم القيمي، فقد برز الكثير من المثقفين الأدبيين الذين استطاعوا بفضل ملكاتهم الفكرية ورؤاهم المعرفية أن يغيروا أوضاع الإنسانية كلها، انطلاقا من أعمال و مؤلفات تستشرف وتخطط للمستقبل، كاشفة عن خباياه وأسراره و مذللة للصعاب والمشاكل التي تواجهها المجتمعات البشرية.
لا بد من إشراك النخب في وضع السياسات التعليمية والمستقبلية
 والحقيقة أن الكثير من المثقفين من هذه العجينة، يملكون قدرات فكرية رهيبة تجعل من إدراكاتهم واسعة إلى القدر الذي يمكنهم من أن يتنبأوا بالمستقبل ويستشرفوا أحداثه، وهذا طبعا ليس في نفس الرواق الذي يسلكه المنجمون والعرافون، الذين صارت لهم معاهد خاصة بهم في ألمانيا مثلا، وإنما في رواق فكري يمتاز باتساع الخيال والقدرة على الاستقراء العلمي للأشياء، وللتوضيح أكثر، فجهاز الكمبيوتر على سبيل المثال، وقبل أن يصبح على الشكل الذي نراه اليوم، انبثق من قصة لأحد أبرز كتاب الخيال العلمي في العالم، وهو القاص الأمريكي ‘’إسحاق أسيموف’’ ذو الأصول الروسية، وقد دارت تلك القصة التي كتبها حول تصور وجود علاقة بين العقل الآلي والإنسان، وذلك عن طريق مجموعة من التطبيقات التي باستطاعة الآلة أن توفرها، وحدث أنه بعد سنوات عديدة التقف العلماء هذه الفكرة الخلاقة واشتغلوا عليها، وجسدت أخيرا باختراع الكمبيوتر الذي يعد أيقونة وعصب العصر الذي نعيشه اليوم ، وهو الاختراع الذي غيّر وجه البشرية بشكل كبير جدا، في ظل اكتساحه لمختلف مناحي الحياة و انتشاره في كل بلدان العالم بدون استثناء، حتى صارت له صناعة ضخمة جدا تدر ملايير الدولارات، الأمر الذي دفع بصاحب الفكرة الأول – إسحاق أسيموف - للقول: ‘’يا للجنون، هذه أفكاري تربح منها الشركات الملايين، وأنا صاحب الحق فيها أرزح تحت فقر مدقع’’، ولا عجب أن قوله هذا يتوافق مع رأي الرياضي الفرنسي ‘’بلاز باسكال’’ مخترع الآلة الحاسبة الذي قال أيضا في هذا السياق: ‘’الناس يتقدمون وقوفا على أكتاف أسلافهم’’ في إشارة منه إلى أن النجاحات التي يحصدها البعض ما هي إلا عن طريق الاعتماد على جهود من سبقهم أو باستغلال أفكار الغير .
 ولا يمكن الحديث عن أدب الخيال العلمي وأثره في التنبؤ والتمهيد لمخترعات واكتشافات مستقبلية، دون ذكر الأديب الفرنسي “جون فيرن”، المولود سنة 1828، فهذا العبقري صاحب الخيال الخصب والفذ قد أعمالا أدبية رائعة كان لها الفضل في تحقيق فتوحات علمية كبيرة، وفي تحفيز العلماء والمكتشفين لمحاكاتها وتحويلها من مجرد شطحات خيال جامح إلى حقائق ومخترعات مجسدة على أرض الواقع، وأهمها رواية “من الأرض إلى القمر” التي قدم فيها العديد من النبوءات العلمية حول مخترعات وإنجازات علمية ضخمة ظهرت في القرن العشرين، ومنها صعود الإنسان إلى الفضاء ونزوله على سطح القمر بفضل اختراع المركبات الفضائية، إضافة إلى حيازته لقصب السبق في تخيل انعدام الجاذبية في الفضاء الخارجي، زيادة على روايته “رحلة إلى مركز الأرض” التي كان لها الفضل في اكتشاف القطب الشمالي قبل أن يكتشف فعليا بنصف قرن. إني أميل إلى الاعتقاد بأن المثقف،سواء كان أديبا أو شاعرا أو صحفيا، في الأصل أو على الأقل كما يجب أن يكون، ما هو إلا مخلوق منحه الله القدرة على الرؤية والكشف والتعبير من أجل خير مجتمعه ورقي الأجيال المتلاحقة من بعده، فهو ليس مجرد ظاهرة كلامية عبثية، وإنما هو طاقة حية لها السطو والسحر أحيانا (ليس السحر المتعارف عليه ) من خلال الفكرة المتسربلة بالجزل وحلو الكلام، ومن بين أصحاب هذه الصنعة يأتي “الشعراء المفكرون” على رأس القائمة، فهم أيضا بما يحوزونه من ملكات وقدرات يستطيعون استشراف المستقبل والتنبؤ به، فالشعر بخلاف ما يعتقد البعض من أنه مجرد لصق كلمات جميلة تتوشح برداء مرصع بعبارات التوجع والبكاء على الأطلال وفراق المحبوب، ليس كله بهذا التوصيف، وإنما الشعر أساسا، كما قال الفيلسوف اليوناني الشهير ‘’أرسطو’’: ‘’الشعر شكل من أشكال المعرفة، وهو لصيق بالفلسفة أكثر من التاريخ، وإذا كان التاريخ يروي أحداثا وقعت في الماضي، فإن الشعر يروي أحداثا يمكن وقوعها’’، وعلى هذا النحو، ذهب الشاعر ‘’أكتافيو باث’’ إلى المقارنة بين الفيلسوف والشاعر على اعتبار أنه إذا كان الفيلسوف هو المحلل الكيميائي بالمعنى الرياضي، فإن الشاعر هو محلل الأسرار الخفية بالمعنى الرياضي، فهو يكشف المجهول بدءا من المعلوم الذي يسمح له بنقل غير المحتمل وتطوير الشيء كما يجب أن يكون، أي أنه على الشعراء أن لا يتغنوا في أشعارهم بالوردة الحمراء مثلا، بل عليهم أن يجعلوها تتفتح. وقد برز على مر العصور، العديد من “الشعراء المفكرين” الذين اتجهت أشعارهم إلى التنبؤ بالأحداث واستشراف المستقبل، ومن بينهم الشاعر الفرنسي الشهير ‘’نوسترا داموس’’ الذي ألف سنة 1503 ديوانه الشعري الموسوم بعنوان ‘’القرون’’، وقد جمع فيه تنبؤاته ورؤاه المستقبلية فيما يتعلق بفرنسا وغيرها، ويقول الكثير من المتحمسين له أنه تنبأ بمولد “نابوليون بونابارت” و”هتلر” ومصرع الرئيس الأمريكي “روبرت كنيدي”، وإلقاء القنبلة النووية الأولى على هيروشيما، ولازالت إلى اليوم كتبه ودواوينه تحظى بالاهتمام من قبل المغرمين بالتنبؤ واللاهثين وراء معرفة المستقبل، وحتى المتخوفين من يوم نهاية العالم والمهوسين بآماراته، وكلهم يؤولون شعره وفق ما يريدون معرفته ويتوافق مع أهواء أنفسهم، ومما قاله على سبيل المثال وسياق الفكرة: سوف يظهر الشيطان في هيئة آدمية.. ويسيطر على مقادير البشر وسوف تنهار البابوية.. وتمحق من الوجود روما وباريس ونيويورك ويستخدم ملك الرعب قواه الجوية في إبادة أعدائه وتطير الأسلحة في الأجواء من قارة إلى قارة وتنفجر رؤوس النيران في المدن.. وتسقط أحجار ملتهبة من السماء ولعل كلمات نوسترا داموس هذه، نوع من التنبؤ المسبق بالمشاكل التي غرق فيها العالم في العصر الحديث، بدءا من الحربين العالميتين الأولى والثانية، وظهور أسلحة متطورة ذات قدرة تدميرية هائلة، بالشكل الذي نعرفها به اليوم، كأسلحة الدمار الشامل والقنابل المختلفة التي تلقيها الطائرات الحربية من السماء، ولعلها أيضا كانت “الفكرة النواة” التي بنى عليها مخترعو الأسلحة الحربية أسلحتهم، ودفعتهم إلى تحويلها إلى أكثر الوسائل فتكا وأعظمها قردة على إفناء الآخر.
ثمة نظرة تقّل من شأن العلوم الاجتماعية والأدب
 وبسبب القدرات والملكات الفكرية التي تأتي على رأسها قوة الإدراك، نزع الملوك والحكام والرؤساء على مرّ العصور إلى تقريب المثقفين من مراكز القيادة، وإشراكهم في تسيير دواليب الحكم - الأمر الغائب عندنا - فأمريكا مثلا تعتمد في كل سياساتها على هؤلاء، ولعل أبرز مثال على هذا القول، ما حدث سنة 1965 - وهو مكرس إلى اليوم - حيث تم تشكيل هيئة بحثية لتحديد المشكلات المستقبلية التي ستواجه المجتمع الأمريكي في السنوات الثلاثين القادمة، بعد سنة 1965، وقد شكلت هذه الهيئة البحثية من 38 خبيرا ومثقفا من مختلف الجامعات ومراكز البحث العلمي ومؤسسات الدولة تحت قيادة عالم المستقبليات ذائع الصيت ‘’دانييل بيل’’، وأطلق على برنامج عملها اسم ‘’مهمة إلى العام 2000 ‘’، والجدير بالذكر أن هذه الهيئة البحثية ضمت كوكبة من كبار العلماء والمثقفين من شتى التخصصات والخبرات، ومن أهمهم بالإضافة إلى ‘’دانييل بل’’، ‘’هارفي بروكس’’ من جامعة هارفرد، وهو رئيس المجلس القومي للعلوم في ذلك الوقت و’’هيدلي دونوفان’’ رئيس تحرير مجلة ‘’تايم’’•وغيرهم، وقد كتب ‘’دانييل بيل’’ يقول: ‘’المستقبل ليس قوسا سماويا يتخطى المسافات، وإنما هو جسر يبدأ بالحاضر، من القرارات التي نتخذها الآن، ومن الطريقة التي نصمم بها بيئتنا، ومن ثم نرسم عبرها خطوط المستقبل’’.
ولقد نجح هؤلاء الباحثون ذوو الثقافة والخبرة من وضع مجموعة من التنبؤات والرؤى المستقبلية، باتباع منهج بحث صارم جعل كل هذه التنبؤات تتحقق فيما بعد، ومنها على سبيل المثال، كما نشرتها إحدى الدوريات الأمريكية المتخصصة: ‘’إن الإنجازات التقنية الأعظم ستكون في مجالي الكمبيوتر والهندسة الطبية الحيوية، وسوف تتسع شبكة المتعاملين مع المعلومات عبر وصلات إلى البيوت والمكاتب، تزود مستخدميها بالمعلومات تبعا لمتطلباتهم، وعبر هذه الوصلات سيتمكن الناس من إنجاز مشترياتهم ودفع فواتير الحساب،أما العمل الطبي الحيوي في مجال نقل الأعضاء وتحسين المورثات والوقاية من الأمراض، فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة نسبة كبار السن بين السكان’’. ولعلك أيها القارئ الكريم تدرك تماما تطابق هذه النبوءات العلمية التي وضعت في الستينيات وتحققت في الألفية الثالثة بعد 40 عاما، وكلنا نرى رأي العين ما تنبأت به هذه الهيئة البحثية قد تحوّل إلى واقع ملموس في حياة الأمريكيين وغيرهم من شعوب العالم.
النخب غائبة عن الفضاء العام
أما بالنسبة إلينا، فالسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح كبير هو: أين مثقفونا وعلماؤنا ونخبة مجتمعاتنا من هذا كله؟ أين هؤلاء الذين بإمكانهم وضع خطط لتحسين عيشنا ومنافسة غيرنا من الأمم التي تحترم الثقافة وتوليها أهمية بالغة؟ الحل في اعتقادي وتماشيا مع ما يوفره لنا هذا العصر، لا يكون إلا بالرجوع إلى الثقافة النخبوية ومصادرها الأولى، فهي الوحيدة القادرة على بناء وتكوين مثقفين باستطاعتهم العمل الجاد للتنظير واستقراء مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة التي تأتي بعدنا، القادرين أيضا على رفع الذوق الأدبي والفكري لمجتمعاتنا التي استسلمت لثقافة الفضائيات بكل عهرها وبلادتها. الحقيقة أن أمة مثل أمتنا بكل تاريخها الزاخر، وتراثها الفكري والأدبي المتنوع، الأمة التي أنجبت الآلاف من أساطين الثقافة النخبوية والأدب الرفيع على مر العصور، أمة حري بها أن تولي الإهتمام المفرط بأمثال هؤلاء، وأن تعمل على إشراكهم في وضع السياسات التعليمية والثقافية الرشيدة والمخطط لها، لإنتاج مفكرين ومثقفين باستطاعتهم توجيه المجتمع نحو مستقبل أفضل، ونقل بلداننا إلى مصاف الدول المتقدمة، وهو أمر غير مستحيل بتاتا ما دمنا نملك الإمكانيات الكفيلة بتحقيق ذلك، وهي كثيرة بالقدر الذي لا نستطيع إحصاءها أوعدها. أخيرا، إذا كان الشاعر الإسباني الكبير’’ أنطونيو ماتشادو’’ يقول: ‘’أيها المسافر ليس هناك طريق، المشي يصنع الطرق’’، فإننا نقول أيضا :” أيها الوطن ليس هناك مستقبل، المستقبل يصنعه المثقفون بكل اختصاصاتهم››.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com