مسرح قسنطينة متحف مادي لذاكرة معنوية عمرها حوالي قرنين
يوجد على بعد أمتارٍ قليلة من المتحف الوطني العمومي سيرتا، متحفٌ ثانٍ، يضمُّ بين جدرانه و داخل مخزنه، تُحفاً ذات قيمة فنيّة عاليّة و إرثاً مادياً بديعاً، هو مسرح قسنطينة الجهوي، الذي يزيد عمر بعض مقتنياته من أثاث و إكسسوارات، و حتى لوحات و منحوتات عن قرن من الزّمن، بعضها فريدة من نوعها في الجزائر، وأخرى عبارة عن تراثٍ، قلّ نظيره في العالم، كما يؤكد الباحث في تاريخ المسرح الأستاذ محمد غرناوط.
روبورتـاج: هدى طابي
ذاكرة تتجاوز الأداء و الحوار
ذاكرة مسرح قسنطينة فضفاضة و لا تتّسع فقط لعناوين العروض، و أسماء الفنّانين الذين شاركوا فيها، بل تحتفظ بما هو أكثر من صدى الهتافِ و التصفيقِ لروعة أدائهم و قوّة الحوارات التي قدّموها، فهذه الذاكرة تعدّ أيضا، صندوقا يضمّ كنوزا فنيّة كثيرة، قيمتها تكمن في جماليتها الكبيرة و تفردها، على غرار الثريا النحاسية التي تزيّن قاعة العرض، و كذا البيانو الخشبي الموجود خلف ستار المسرح، و مخزن الأزياء و الإكسسوارات التي تحمل توقيع مصممين مشاهير، و غيرها من التّحف التي لا تقلّ أهميّتها عن أهميّة ما يوجد في المتاحف.
إنها مقتنيات ظلت مهملة لسنوات عديدة، ما تسبّب لبعضها في ضرر جزئي، ناهيك عن التخلّص من البعض الآخر خلال عمليات التحديث و العصرنة التي مست المسرح الجهوي في السنوات الأخيرة، وهو ما تسبّب في خسارة كبيرة لا يمكن تعويضها بأي شكل، كما حدث لآلية التحكّم في ستار الرّكح التي تمّ التخليّ عنها، و تعويضها بنظام ميكانيكي آلي حديث، رغم أن النّظام القديم ، يعتبر من بين القلائل في العالم، كما أنه جزء من خصوصيّة مسرح قسنطينة، كونه اعتمد منذ إنشاء هذا المرفق، وهو نظام تقليدي يتم من خلاله التحكم في رفع و تغيير الديكور، باستعمال نظام الرفع و الإنزال بواسطة مصاعد تقليدية «سانتر» و التي تكون ضمن الطوابق العلوية الثلاثة ، فوق الخشبة و الشبيهة بالسفينة ، لكثرة الحبال بها و معابرها الخشبية.
علما بأن عمال المسرح كانوا يطلقون عليها اسم «البابور»، لأنها تعمل بطريقة نظام الأثقال المضادة، فيقوم جهاز معين بتثبيت الحبال التي يمكن تعديلها بشكل فردي، لرفع أثقال قد يصل وزنها إلى 100كلغ.
الثريا النحاسية قطعة أصلية نادرة
لا يمكن أن تكون قد زرت ركح قسنطينة يوما، و لم يشد انتباهك، جمال تلك الثريا الفخمة التي تزين قبة قاعة العرض الرئيسية، فهي عبارة عن إرثٍ هامٍّ بقيمة تاريخية و فنيّة كبيرة، باعتبار الثريا قطعة أصليّة جد نادرة، فهي تتشكل من النّحاس و أحجار يرجح الأستاذ غرناوط، بأنها من الكريستال ، «رغم أن ذلك تحدده الخبرة التقنية وحدها»، كما أوضح، وقد تمّ تركيبها سنة 1883، أي خلال دخول المرفق ككلّ حيّز الخدمة.
خصوصيّة الثّريا تكمن في أنها كانت تشتغل عن طريق الغاز، قبل أن يتمّ تزويدها بنظام كهربائي حديث، بعد عمليّة الصيّانة التي مسّتها مؤخرا و تطلب العمل عليها 60 ساعة كاملة، لإعادة النّور إلى هذه التحفة التي ظلت متوقّفة لقرابة خمس سنوات.
و يوجد في بهو المسرح نموذجان فريدان لمصباحين « أباجورتين»، من المعدن المطلي بلون ذهبي، وهما نموذجان مهرّبان من صالونات القصور الأوروبية الفخمة ، يجسدان منحوتتين جميلتين، تعودان لذات الحقبة التاريخية التي تؤرخ لها الثريا، وقد كانا أيضا يعملان بالغاز، قبل صيانتهما هذه السنة.
البيانو الخشبي.. نموذج وحيد في الجزائر
البيانو الأسود الخشبي الذي يزين أحد أركان الركح الرئيسية، يضيف الكثير إلى قيمة المسرح، فهذه التّحفة الموسيقية تعتبر ذات جودةٍ عاليّةٍ، حسبما أكّده خبراء في الموسيقى و فنّانون كبار تعاقبوا على قسنطينة.
و أخبرنا محمد غرناوط، أن ماركة الآلة هي « ستاينواي أند سونس» و هي فخمة تعتمد على تقنيّة جدّ راقيّة و مميزة، وهو لا يزال يستخدم خلال المهرجانات الموسيقية التي يحتضنها المسرح أحيانا، كما أنّه في حالة جيّدة رغم بعض الخدوش التي تعرض لها أثناء نقله إلى قاعة العروض الكبرى أحمد باي، خلال حفل الفنانة ماجدة الرومي سنة 2015.
أما عن إحضار البيانو إلى المسرح، فقال لنا المتحدث بأنّه تم في سنة 1986، حيث يعتبر البيانو واحداً من ثلاثةِ نماذج، قام الممثّل و السينمائي الجزائري مصطفى كاتب، بتوزيعها على مسارح العاصمة و وهران و قسنطينة، خلال فعاليات المهرجان الثقافي الإفريقي، و لحسن الحظّ فإن آلة قسنطينة، هي الوحيدة التي صمدت إلى غاية اليوم، و لا تزال موجودة، بينما اختفت الآلتين الأخريين.
لوحة الإضاءة و مصابيح العشرينيات
تعدّ لوحة الإضاءة القديمة الخاصة بمصابيح الركح، من بين الأقدم و الأكثر ندرة في العالم ، حيث يعود استخدامها إلى بدايات عشرينيّات القرن الماضي، و هي عبارة عن جهاز بحجم بوّابة، مجهز بلوحة مفاتيح تعمل وفق نظام يدويّ، يتحكّم في مجموعة من المصابيح المثبّتة على لوحة أخرى تُعلّق عادةً فوق منصّة العرض.
وقد علمنا من مرافقنا في جولتنا داخل المسرح، الأستاذ غرناوط، بأن هذه اللوحة لا توجد لها سوى صورة قديمة في أحد أرشيفات المسرح في فرنسا.
ستار «أرلوكان» سمفونية فنية أوبرالية
قطعة أخرى لا تقلّ جمالية عن الثريا، تزيّن ركح قسنطينة، و لا تزال موجودة هناك، رغم أن مشاهدتها امتياز يقتصر على القليلين، وهي عبارة عن ستار المنصّة المعروف ب»ستار أرلوكان»، هذه الجوهرة الفنيّة الفريدة في الجزائر، لا تسدل إلا في المناسبات، نظرا لقدمها فقد ثبت الستار خلال عشرينيات القرن الماضي، وهو عبارة عن لوحة زيتية تصور ستارا مخمليا فاخرا، مثل الذي يستخدم في الأوبرا، تتناغم فيه الألوان و يغلب عليه العنابي و البنفسجي و الذهبي، كما يوجد في وسطه ثقب صغير، عبارة عن نافذة ضيقة، تمكن الفنان من مشاهدة الحضور داخل القاعة، قبل انطلاق العرض، كما جرت العادة في المسارح الكبرى.
الستار أهمل لقرابة 30 سنة، و تضرّر بشكل ملحوظ، قبل أن يشرف الأستاذ غرناوط على عملية ترميمه سنة 2018 ، كما قال لنا، حيث استخدم في ذلك صفحات من ورق الجرائد و تقنيات خاصة، موضّحاً للنصر، بأن ذات التقنية استخدمت في عمليات الترميم السابقة، سواء تلك التي قام بها فريد مرابط سنة 1990، أو العملية التي سبقتها و تعود إلى خمسينيات القرن الماضي.
مخزن الأزياء والأكسسوارات.. جولة في عالم عجيب
من أكثر الأشياء جمالية بين مقتنيات المسرح، مخزن حفظ الأزياء و الأكسسوارات المسرحية المستعملة في أشهر المسرحيات ك»البوغي»، «ماسينيسا»، «القبطان»، «ديوان العجب»..و غيرها من الأعمال التي أنتجها مسرح قسنطينة، بما في ذلك فستان الأميرة الصلعاء في مسرحيّة فوست، الذي صممته المصممة العالمية ليليان الهاشمي سنة 1987، وهو ثوب أوضح لنا مسؤول المصلحة التقنية بالمسرح، محمد عياد، بأنّه كان يعرض رفقة مجموعة من الأزياء أمام الجمهور، خلال المهرجانات المسرحيّة عبر الوطن، ليؤرخ لذاكرة مسرح قسنطينة، التي تتجسد أيضا من خلال صور حائطيّة التقطت لعروض قديمة، و أخرى عبارة عن أفيشات جميلة لمسرحيات شهدها ركح قسنطينة، بعضها أفيشات كاريكاتورية و ليست صورا مطبوعة.
لوحات و منحوتات عمرها 200 سنة
لا يمكن الحديث عن الموروث الماديّ للمسرح، دون التطرّق إلى اللّوحة الجدارية الزيتيّة التي تضفي السّحر و الفخامة على قبة الركح، و التي يقال بأنها أنجزت بريشة الرسام الفرنسي جورج لوفر، كما لا يمكن أيضا إغفال المنحوتات التي تزين الشرفات الخمس الأمامية الخاصة بالجمهور، و هي زخارف أبدع في نحتها الفنان الفرنسي غوستاف جيرمان، بالإضافة لنحاتين آخرين، على غرار بيار كورني و غولوك.
مرسم « دوبا»
قيمة هذا الصرح لا تكمن فقط في إرثه المادي، بل تشمل أيضا جوانب من الذاكرة المعنوية للمكان، كورشة الرسم التي تتواجد في الطابق الأخير من البناية، و التي تحولت اليوم إلى قاعة للأرشيف.
هذه القاعة الصغيرة تتميز بإضاءة طبيعية خاصة، تجعل من يراها يستنتج بأنها إضاءة مرسم متخصص، وقد علمنا من الأستاذ غرناوط، بأنها كانت بالفعل ورشة خاصة بالرسام الفرنسي الشهير « دوبا» الذي عرف بتخصّصه في مجال تزيين المسارح و دور الأوبرا، و هو أيضاً من أشرف على رسم بعض اللوحات التي تزين قاعة العرض.
و أضاف محدثنا بأن هذا المرسم كان عبارة عن ورشة تعليمية بديلة، نظرا لعدم توفر مدرسة للفنون الجميلة بقسنطينة، في سنة 1962، حيث أشرف الرسام دوبا، داخله على تكوين ثلة من الفنانين التشكيليين، المعروفين اليوم، على غرار أحمد بن يحيى، حسين بوبترة، و محمد بشير بوشريحة.
فنّ عالمي و عمارة إيطالية
بناية المسرح هي في حدّ ذاتها صندوق كنز حجري و تحفة عمرانيّة، تتناغم بشكل جميل مع باقي البنايات المجاورة لها، كمقر المجلس الشعبي البلدي و البنك الجزائري، و كلها بنايات ذات طابع كولونيالي، كان الهدف من إنشائها هو إضفاء صفة المدينة الأوروبية على قسنطينة، كما أكد المهندس المعماري ميلود بن زردة.
دشنت هذه البناية الفخمة سنة 1883 ، بعد 22 سنة كاملة من الأشغال، حيث تمتدّ على مساحة 1568مترا مربعا ، و تكمن خصوصيّة هذا الصّرح في أنّه نموذج عن دور الأوبرا الأوروبية، وقد بُنيّ مكان ثكنة للجيش الانكشاري العثماني، و أنجز وفق النمط الكلاسيكي الإيطالي، حيث تتزيّن واجهته بالتماثيل و الأقواس الواسعة و الأعمدة المزدوجة الضّخمة التي يصل عددها إلى ثمانيّة أعمدة مصنوعة من الرخام الأسود، كما استخدمت في بنائه الحجارة السّوداء و التي لا تزال تزيّن عددا من السلّالم الداخلية.
يقول المختصّون، إن الفضاء الداخلي لمسرح قسنطينة ، بما في ذلك قاعة العرض الرئيسية المهيأة لاستيعاب 450 شخصا، هو عبارة عن نسخة مصغرة عن الأوبرا الوطنية بباريس، حيث تتقاطع أوجه الشبه بين البنايتين، في أنماط المداخل الأماميّة التي بُنيت على شكل أقواسٍ و التي يصل عددها إلى خمسة، بالإضافة إلى الشرفات الخمس التي تزيّنها في الأعلى منحوتات في شكل وجوه، تحمل توقيعات أسماء كبيرة في مجال النحت.
خلافا لمسارح العاصمة و وهران التي تم تعديلها و إلغاء الطابع «الطّبقي» الذي كان يميّزها، بقرار من مصطفى كاتب، فإن مسرح قسنطينة يعدّ الصرح الوحيد الذي حافظ على نسخته الأصلية، و شكله الراقي، حيث لا تزال مقصورات ضيوف الشّرف على حالها، دون أية إضافات، وهي مقصورات تتراوح طاقة استيعابها من مقصورة إلى أخرى، فمنها ما يسع شخصين، و منها ما يمكنه استيعاب ثمانية أشخاص.
تجاوزات تقنية باسم الفن
يصنّف هذا الفضاء الساحر اليوم ضمن أقدم المسارح العتيقة ،بالنظر لخصوصيّته، و حفاظه على النمط التقليدي الأصيل لركح الفنّ الرّابع، كشكل القاعة الذي جاء على هيئة حذوة حصان لاعتبارات تقنية، أهمها تمكين كل الحضور داخل المسرح من سماع أصوات الممثلين و الفنانين على الخشبة، في غياب مكبرات صوت، حيث كان المتفرج، سواء بالمقصورات الأمامية أو الشرفات بالطابقين العلويين، الأول و الثاني و حتى الجالسين بالطابق الثالث، أو ما يعرف بالخم، باستطاعته سماع صوت أدق حركة على الخشبة، دون الحاجة إلى مكبّر صوت، لكن هذه الخصوصيّة استبيحت اليوم، بسبب استغلال المسرح لاحتضان مهرجانات و حفلات موسيقية لا تتماشى طبيعتها مع خصوصيته.
على سبيل المثال، فإن المسرح بات يحتضن في كل مرة مهرجانات فنية صاخبة، على غرار ديما جاز الذي اختتمت فعالياته مؤخرا، و المشكل أن هذا النوع من الفعاليات، يتطلّب الاستعانة بتجهيزات متخصّصة للصّوت، و هي تجهيزات ضخمة و ثقيلة ، لا تتماشى مع طبيعة منصّة العروض الخشبية، إذ يجمع المختصون على أنها تجهيزات تصلح أكثر في الملاعب أو في قاعة مهيأة، كقاعة العروض الكبرى أحمد باي.
بالمقابل يقترح الكثيرون إعادة تهيئة الفضاء الأوركسترالي الذي تتضمنه خشبة العرض، و الذي تم غلقه قبل سنوات، و استغلاله مجدّدا لبرمجة عروض موسيقية كلاسيكية، و لما لا استضافة الأوركسترا الوطنية.
لمسرح الطفل سلبيات أيضا
لا تقتصر المشاكل التي من شأنها الإضرار بهذا الصرح، على الحفلات الصاخبة، فمسرح الطفل أيضا بات يطرح إشكالا، رغم الحركية الكبيرة التي يضفيها على المكان.
إن استقبال أعداد كبيرة من الأطفال خلال العطل المدرسية، في إطار تظاهرة مسرح الطفل، أثر سلبا على القاعة التي لحقتها بعض الأضرار الملحوظة، إذ خربت بعض الديكورات الخاصة بالكراسي، كما تضرر البساط «الموكيت» الذي تم تركيبه مؤخرا، و يمكن لزائر المسرح أن يلاحظ البقع السوداء التي شوهت البساط الأحمر، بالإضافة إلى قطع العلك العالقة وسطه، رغم أن هذه التجهيزات كلفت مبالغ كبيرة خلال عملية التهيئة الأخيرة التي تمت سنة 2013، و هي ثاني عملية يستفيد منها مسرح قسنطينة بعد برنامج 1999/2000.
و يقترح البعض هيكلة نشاط مسرح الطفل ضمن إطار منظم، وفق برنامج مدرسي ثقافي أو جمعوي، لتسهيل عملية تأطير البراعم و التحكم في سلوكياتهم، و ذلك لأن غالبية الأولياء الذين يرافقون أبناءهم عادة إلى المسرح خلال العطل، لا يكلفون أنفسهم عناء كبح جموح هؤلاء الأطفال و منعهم من تخريب التجهيزات، و تسريب بعض المأكولات أحيانا.
هـ/ط