قصة - مغامرة الحوات الّذي لم يصبح قرصانا - أنموذجا
الحديث عن الشّعرية عند عمار بلحسن هو حديث عن جمالية عالم السرد وتحوّلاته عند هذا القاص المتميز. في سبعينيات القرن الماضي كان السرد الجزائري المكتوب بالعربية في غالبه سردا مبنيًا على طرح إيديولوجي يُغيب الشّعرية لحساب موضوع الخطاب، لكن من النادر أن تجد كاتبًا استطاع نقل السرد القصصي من مجرد تَوالي أحداث وحكايتها بعرى الطرح الإيديولوجي الّذي كانت تسانده المؤسسات الرسمية إلى نقل فني ينبني على المجاز، وعلى دراية كبيرة بقدرة اللّغة وتعددية دلالتها من سياق لآخر، وهذا ما تثيره عملية القص في مملكة السرد عند القاص عمار بلحسن، وإن قُلت مملكة السرد فأنا أقصد تحديدا الخصوصية التي أسس لها عمار بلحسن عبر ثلاثيته «حرائق البحر (1981) التي تعود نصوصها إلى مابين 75 إلى 1977، ثم مجموعته الثانية أصوات (1985) التي تعود نصوصها بين 1985 و1982، ومجموعته الأخيرة فوانيس (1991) وتعود نصوصها إلى 80 و1984».
عبد القادر ضيف الله
هذه المجاميع القصصية التي أطلقت عليها هذا اسم مملكة السرد عند عمار بلحسن هي ما شكل تجربته القصيرة التي امتدت زمنيًا قرابة عشر سنوات، ومكانيا بين شوارع مدينة وهران ومدينة مغنية وقريته مسيردة التي عشقها عشقا طفوليا حالما جعله ينأى به تجاه كلّ ما هو حلم وصوفي بعيدا عن الطرح الأيديولوجي الّذي هيمن على المرحلة التي كتب فيها عمار بلحسن قصصه من منتصف السبعينيات إلى منتصف الثمانينات باعتبار أنّ قصصه الأولى نُشرت على مستوى مجالات عربية مثل مجلة الأقلام العراقية في حدود منتصف السبعينات، فنجده مثلا في 1 سبتمبر سنة 1976 قد نشر قصة «مغامرة الحوات الّذي لم يصبح قرصانا» في مجلة أقلام عراقية، حيث رسم هذه القصة بطريقة مختلفة ومغايرة عن شعرية السرد المُتداول في تلك الفترة أو عمّا كان ينشره جيله من القصاصّين في الجزائر لهذا سوف نحاول مقاربة هذه القصة «مغامرة الحوات الّذي لم يصبح قرصانا» كأنمودج يمثل تقريبا الهاجس الشّعري الغالب على البنية الفنية في مملكة السرد عند عمار بلحسن وأعتقد أنّ هذه الميزة الجمالية هي التي بوأت عمار بلحسن كرائد للقصة الجزائرية ذات البعد الحداثي والجمالي والشّعري بلا منازع على المستوى الوطني وجعل الكثير من القصاصين الشباب يتأثرون به.
من خلال محاكاة هذه الشّعرية التي تمثل جمالية مختلفة في القص وأعتقد أنّها لازالت لحد اليوم تحتفظ بجوهرها الفني رغم مرور أكثر من أربعين سنة على نشر هذه القصة.
1ـ شعرية العتبة/العنوان
إذا كانت الشّعرية في أكثر تعريفاتها تحديدا «هي الطاقة المتفرجة في الكلام المتميز بقدرته على الانزياح والتفرد وخلق حالة من التوتر»(1)، هذا التوتر الّذي يخلق تلك الطاقة في الكلام التي نعتقد أنّها ستخلق توترا مُضافا حينما يتعلق الأمر بعملية السرد التي تتجاوز الصيغ الكلامية إلى مجال علائق البنية على مستوى الدلالة والحكي وهذا ما نحاول أن نترصده عبر شعرية السرد، أمّا العتبات (parataxe) هي من أهم عناصر المُتعاليات النصية إلى جانب التناص والتعالق النصي وغيرها، والعتبات النصية نوعان:
داخلية وخارجية ترتبط بالعنونة وبالغلاف الخارجي، وبالمناصات الداخلية من إهداء وتقديم إلى نوعية الخط... إلى غير ذلك مِمَا جاء به جيرار جينيت في كتابة خطاب الحكاية.
لهذا سوف نحاول أن نُقارب عنوان القصة قصد استيعابه وتأويله والإحاطة به من جميع الجوانب باعتباره أول عتبة تصادف القارئ أو المُتلقي.
«مغامرة الحوات الّذي لم يصبح قرصانا»
يظهر من الجملة الاسمية الخبرية التي تكون العنوان أنّها تنبني على مفارقة تبدأ بالمغامرة التي تعني لغة: المُخاطرة أو مفاجأة مثيرة، وحدث خارق مليء بالمخاطر حسب قاموس المعاني الجامع. أمّا الحوات وهو بائع الحوت أو البحار البسيط الّذي يركب البحر كلّ صباح ليصطاد السمك ولا يعود إلاّ مع نهاية المساء مُحملا بشباك مملوءة بالسمك في أحيان قليلة وأحيانا كثيرة لا يصطاد شيئا، الحوات دلالة على البؤس لهذا ينفي عليه الكاتب أن يصير قرصانا أي أن يصبح لص بحر حتى وإن أراد. ونحن نُقارب مثلما يفعل عمار الحوات كمرادف متضاد مع القرصان لهذا يمكن الاعتماد على الكلمات المرادفة سواء من حيث الدلالة أو الفئة التي تنتمي إليه.
الحوات يمكن جعله مرادفا للبحار باعتبار أنّها كلمة تعني الذين يركبون للبحر لأجل الوصول إلى قوتهم بطريقة شرعية هم الصيادون وعكسهم القراصنة لصوص البحر الذين يحولون السُفن عن مسارها ويقومون بسرقتها وهم في الغالب يتمتعون بالغنى بسبب ما يحصلون عليه من ذهب وجواهر وممتلكات غالية الثمن، بمعنى آخر يمثلون فئة البرجوازية التي يرى الكاتب أنّها فئة تكونت بسبب لصوصية معينة يعني سرقت عرق البؤساء وهذا ما تشير إليه دلالة النفي «لم يصر».
كما لو أنّ عمار بلحسن يضعنا أمام مجازفة ومغامرة لهؤلاء البحارة الذين يعيشون حياتهم البائسة ويحلمون بتغييرها يوما وهذا ما يمثله هذا الحوات الّذي يحيل أيضا إلى بائع الحوت في الميناء الّذي يريد أن يغيّر من حياته ليصير برجوازيا منتميا إلى طبقة أخرى.
جملة العنوان تشير أيضا لدلالة أخرى هي الصراع الطبقي، وإن كُنا سنحاول قراءة هذه العتبة من خلال السياق التاريخي الذي كان في ذلك الوقت ينتصر للطبقات المسحوقة ويحارب البرجوازية ويعتبرها سبب البؤس والقهر المسلط على الشعب وعلى البؤساء لأنّها امتلكت لنفسها وسائل الإنتاج واستعبدت العمال وجعلتهم خُداما وعبيدا، فهو يشبهها بقراصنة البحر.
لكن عمار يضعنا أمام مغامرة حوات، أي أمام حلم يصطدم بجدار الواقع، نحن نعرف أنّه يحاول من خلاله هذا الحوات البسيط أن يتحوّل إلى قرصان أن يفوز بحورية البحر كما يقول «البحر لا أريد الهجرة من أسماكه. أريدهما معًا البحر والحورية» (2)
وهذا بالمعنى المجازي لأنّ الجملة في حد ذاتها جملة مبنية على شاعرية وعلى انزياح لغوي يذهب باللّغة إلى أقصى حد لها من أجل الحصول على المعنى المُناسب.
إذا سلمنا بالتحليل السابق أنّنا أمام صراع طبقي، فِلمَ يحاول الحوات البسيط أن يصير برجوازيا، وأن يرتقي ويتحوّل من طبقة العمال إلى طبقة الملاك.
الإجابة يمكن أن تحملها لفظة المغامرة كما يسميها عمار بلحسن، وهي تجربة. لكنّه ينفي أن تنجح هذه المغامرة ويقول بأنّ مآلها الفشل، وهذا الحوات سيبقى حواتا، ولن يصير قرصانا حتى وإن أراد وسيبقى ببؤسه لكنّه بطهره أيضا لأنّه لم يصر قرصانا أيّ لم يتحوّل إلى لص بحر.
هكذا تخبرنا عتبة العنوان وتجعلنا أمام أفق انتظار سيجيب عنه متن القصة.
2 ـ جمالية القص
في قصة «مغامرة الحوات الّذي لم يصبح قرصانا».
تنبني المواد الأولية لهذه القصة ولقصص عمار بلحسن عموما من الواقع المُعاش في فترة شهدت مدا إيديولوجيا واسعا شجعت عليه السلطة القائمة آنذاك، وأيضا من ذات الكاتب وطفولته كما سنرى من خلال تفاصيل السرد التي أثث بها متن القصة.
في محاولة تخييلية يرفع عمار بلحسن نصه من نص واقعي يرصد الصراع الطبقي في واقع كلّه فُروقات طبقية بين البرجوازية وأصحاب القبو كما يسميهم. إلى نص لغوي تلعب فيه درجة الانزياح الدور الأوّل بنية شعرية مُغايرة للسائد آنذاك في النص السردي الجزائري.
«مغامرة الحوات الّذي لم يصبح قرصانا» تبدأ بحالة حلم، يقوم به السارد، الّذي يُطوع اللّغة ويمزجها بأحلامه منذ الطفولة إلى أن بدأ يعي ما الفرق بين ساكنة تلك الفيلا الجميلة التي تعوم في أمواج الصمت المدهش في ضواحي البحر بعيدا عن ضوضاء المدينة وبين من ينتعل نعالا مطاطية ويدخل مدينة جميله يسميها المدينة السمراء. واصفا بجمالية جمالها مع أول سطر من بداية القصة كما أنّها هي الحورية التي فتـنته:
يقول السارد «الفيلا الجميلة تعوم في أمواج الصمت المدهش... خارج ضجيج العالم المتعب في ضواحي مدينة البحر السمراء.... مكان نموذجي للكتابة» (3).
يحلم عمار وينتهك الأماكن والحجرات بخياله ويعود لطفولته ويمزج بينها وبين الواقع الّذي يُعايشه في المدينة، وفي الميناء فيتحوّل تارة إلى بحار وتارة إلى كاتب عاشق يحلم بحورية البحر التي تنحدر من طبقة برجوازية، والدها يدخن سيجارة غالية الثمن ويسكن فيلا كبيرة.
عمار بلحسن السارد والبطل في الآن ذاته يعجن اللّغة ويتحدث بها كما يريد عن حياة البحارة في الميناء وفي الخمّارات وهم يحلمون بعشيقاتهم ويكرعون البيرة.
يقول عمار وهو يقارن لحظة الكتابة بلحظة الجنون: «لنجن هذه اللحظات... فنحن وحدنا العاقلون في الرحلات البحرية... أتعود أحلامك؟ كنا في الميناء والمرسى لا نملك إلاّ عطشنا... سرنا نحو الخمارة كانت رائحة الحوت المقلي تأتي نفاذة.... السردين والصارغو...» (4).
يحاول عمار أن يستعيد صورة البحارة البسطاء، أن يستعيد لحظة الجنون حينما كان يذهب للميناء ويفكر بتلك اللحظات التي يعيشها هؤلاء، فيتحوّل إلى بحار مثلهم ويفكر بلحظة الصراع مع موج البحر الّذي يجعل البحّار يغدو من نجمة الفجر إلى مغيب الشمس، قبل أن يعود لقبو تسكنه أمّه. يضعنا عمار في هذه القصة بين وعيين وبين مكانين، وعي البسطاء من البحارة الذين يكدحون في البحر ويعيشون حياتهم في شرب الجعة وانتظار ما يجود به البحر من سمك وآخرون يسكنون الفيلات الكبيرة ويدخنون السجائر الغالية الثمن ويجلسون على الأرائك الوثيرة. ووعي آخر مكاني يتعلق بالقبو، أو أصحاب القبو بمقابل أصحاب الفيلات أو الفيلا التي حلم عمار بأن يأخذ منها حوريته التي أراد خطبتها. في قصة «مغامرة الحوات الّذي لم يصبح قرصانا» يختلط النضال لأجل الحبّ بالنضال لأجل الفوز بلقمة العيش مثلما يفعل البحار تمامًا وهم في عرض البحر. لهذا لا يكف عمار عن المقارنة. يقول السارد في لحظة انتظاره لأب المرأة التي سماها بالحورية، حورية البحر التي أراد خطبتها من والدها البرجوازي الّذي سماه الملك في لحظة قهر.
«أبوها مُوظف في الولاية... كبير أو صغير!.. لا تعرف، يملكون فيلا في الضاحية ومحلا لبيع الأقمشة وقطعة أرض تذر ما تربحه أنت في سنوات» (5).
في مثل هذه اللحظة يضعنا عمار بين وعيين مختلفين، وهذه الثنائية تتكرر في قصص عمار بلحسن، الوعيان بينهما جدار سميك لهذا تنتهي القصة بالخيبة:
هذا النقل لواقع الصراع والفُروق الطبقية، عمار لا يكتفي برصدها كمتضادات تمثل عالما واقعيا ولا حتى عالما محكوما بالصراع الطبقي كما ترسمه الجدلية المادية الماركسية بل يتجاوز هذا الطرح ليؤسس عبر مجاز اللّغة طرحا فنيا ينتصر لشعرية القص، ينبني على نحت اللّغة واستغلال إمكانياتها المجازية لتقول اليومي والفني معا بطريقة عمار بلحسن حيث تتحوّل اللّغة إلى أداة سحرية طيعة تجعل من الواقع حُلمًا ومن الحُلم واقعا، وهذه ميّزة القص الشاعري الّذي تميزت به كتابات عمار بلحسن على جميع كتّاب القصة من جيله لهذا استحق أن يُسمى برائد القصة الجزائرية.
عمار بلحسن كقاص وكعالم اجتماع لا يحكي عن الواقع لا بلغة الأرقام ولا التحليل بل بلغة سحرية ترسم الواقع وتضيف إليه من الذات والطفولة والحلم مثلما ترسم لوحات الفنانين التشكيليين الذين يمزجون الألوان بالألوان ويصنعون مِمَا تبوح به ذواتهم حينما تصير الريشة لسان بوح جمالا يتجاوز الطبيعي والواقعي، كما يبث بين ثنايا اللّغة رؤاه التحليلية والعلمية دون أن تختل اللّغة الشّعرية أو الوظيفة الشّعرية كما يسميها جاكبسون في قناة التواصل بأي اختلال.
ففي ثنايا اللّغة الشّعرية، وبنظرة ثاقبة يعري عمار بلحسن الواقع مستندا على ما تمنحه الذات من تداعيات تؤثر على الخطاب وتحوّله من خطاب إيديولوجي إلى خطاب شعري ميزته الأولى ووظيفته هي الجمالية والمتعة قبل أن تكون الفكرة كأساس جوهري تنبني عليه القصة باعتبارها لحظة مكثفة ترصد حدثا اجتماعيا في المقام الأوّل.
يتراءى الواقع في قصص عمار بلحسن للمتلقي بصورة مغايرة، جمالية تنجلي في نهايتها الفكرة التي يريد إيصالها، لكن ليس بطريقة العالم السوسيولوجي، بل بطريقة الأديب الساحر الّذي تتحوّل اللغة بين يديّه إلى طقس سحري، لأنّ اللّغة والفكرة عند عمار بلحسن في حالة اندماج. يقول الفكرة باللّغة ويقول اللّغة بالفكرة لأنّهما في عالم الكتابة يمثلان طقسًا سحريًا وبوحا ذاتيا وموضوعيا في الآن ذاته كما قال عمار بنفسه حينما سُئل عن رأيه في الكتابة:
«عرفتُ الكتابة طقسًا سحريًا لتصفية النفس من القلق وإنزال الطمأنينة وطرد التعب من الرّوح والجسد.. الكتابة طقس للتطهر، وهي لعبة تدمير وتشكيل مُتخمة بالمعاناة والاحتراق والتفاعل مع ما تراكم من تجارب... والنص القصصي هو خطاب أو قول لغوي خصوصي، هو لغة معجونة بمواد الحياة والإيديولوجية، وهو لغة من ضمن أربع لغات على الأقل، لغة الحياة اليومية، اللّغة الفصيحة أو لغة الثقافة (الأدبية) واللغات (القصصية) (6)».
إذن عمار بلحسن ليس كاتبا عاديا حينما ينظر بغير النظرة التي نظر بها جيله للغة ولا حتى للكتابة التي كان يقوم بنحتها بشعرية كما لو أنّه فنان نحت، خُلق لينحت اللّغة بدل الحجر. إذا قرأت يومًا لعمار بلحسن قصة من قصص ثلاثيته فعليك أن تقرأه بكثير من المحبة وبكثير من الحذر لأنّه مثل الصوفي يقول المعنى ما بين السطور، وينتصر لما تبوح به اللّغة من تعدّد فهي تعانق السحري دون أن تغفل عما يبوح به خطاب القص القابض للحظة الزمنية، لأنّ عمار بلحسن كاتب مختلف عجن في حياته القصيرة بين الإبداع والمعرفة العلمية، بين القص والشّعر والسوسيولوجيا ليكون كاتبا متميزا بشهادة كتّاب جيله من القصاصّين الذين تحوّلوا بعده إلى روائيين كبار أمثال واسيني الأعرج، أمين الزاوي، والحبيب السائح... والقائمة تطول، ففي الوقت الّذي بدأت الجزائر فيه تحترق بنار الإرهاب كان عمار قد غدر به الموت وهو في مقتبل العطاء في 29 أوت من سنة 1993.
المصادر و المراجع
أيمن اللبدي، الشّعرية والشاعرية، دار الشروق عمان 2006، ط1،ص 22
ـ عمار بلحسن، قصة «مغامرة الحوات الّذي لم يصبح قرصانا» مجلة الأقلام العراقية، العدد2، سبتمبر 1976، ص 138
نفس المرجع عمار بلحسن، قصة «مغامرة الحوات الّذي لم يصبح قرصانا»، ص 135
نفس المرجع، ص 136
نفس المرجع، ص138
عمار بلحسن مجلة مواقف، عدد 51/52 لشهر يوليو من سنة 1984