بعض ما يُكتب باسم الرواية لا ينتمي إلى جنسها من الأساس
• الفئة المتزمتة تنتجُ أعمالاً لا يمكن أن تنسب لأي جنس في الأدب
في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد محمّد الأمين بحري، عن الرواية وزخم حضورها قراءةً وتتويجًا. كما يتناول بكثير من النقد والتحليل فكرة أن تكون قد أصبحت واجهة للثقافة العربية. بحري تحدث أيضا عن المسكوت عنه في الرواية الجزائرية، وكيف اِنكتب، وقال بهذا الخصوص أنّ الكثير من أدبائنا أفلحوا في تحويل موضوع المسكوت عنه من صورته الشائهة اجتماعياً وأخلاقيا في المجتمع إلى منجز فني مُتعالي الخطاب ومُتعدّد الأصوات والدلالات والتآويل. «.
حاورته/ نـوّارة لـحــرش
مع كلّ هذا الزخم للرواية: حضورا ومقروئية، وتتويجًا في محافل الجوائز العربية، إلاّ أنّ هناك الكثير من الأصوات التي تقول أنّ هذا لا يعني أنّها بخير ؟
محمّد الأمين بحري: لم يحدث أن انهارت الكتابة الإبداعية شِعرية أو نثرية في أي بلد كان، ولن يحدث ذلك إن كنا واعين بطبيعة الكتابة في كلّ جنس. لأنّ الإشاعات التي صارت رجراجة على كلّ لسان بأنّ الكتابة الروائية هَزلت وتميعت لما كثر كُتابها لا تدل على خلل في الرواية بل على خلل على مستوى الوعي بطبيعة الكتابة الأدبية في الحياة الثقافية. وبشيء من التفصيل نقول: إنّ عدم الوعي إشكال مزدوج وموزع بين بعض الفئات من الكتاب والقراء: فلدى بعض الكتاب هناك من ركب القطار الخطأ فوصل إلى الوجهة الخطأ، حين ما ظن بعض راكبي الموجة بأنّ تقليد الأسماء المكرسة إعلامياً سيوصلهم إلى ما وصل إليه هؤلاء من احتفاء وجوائز وامتيازات، وهذه الفئة الانتهازية جعلت من الكتابة وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، الشيء الّذي تولد عنه وهم آخر، حينما ساد الظن بأنّ السوق كاسدة، فاستخفوا بالكتابة وظنوها أمراً سهلاً في متناول كلّ من له القدرة على التعبير، وحسبوا أنّ الأمر مجرّد بوح شاعري بالعواطف والأشجان، ولعِب على شاعرية اللّغة واختلاق قصص عاطفية وشحنها بالمأساة، دون أن يمتلك هؤلاء آلة الكتابة، وفنون التجنيس، نتيجة غياب القراءة التي ستغيب بسببها ثقافة الكتابة والتخييل. ومع ذلك تراهم يُسارعون إلى النشر بكلّ استخفاف، دون التفكير أو احترام لقيمة ما يكتبون.
المحصلة هنا هو دخول جماهير غفيرة من الحكواتيين وجدوا أنفسهم غرباء في نوع أدبي لا يتقنون لغته، ثم أصبحوا يتصايحون بأنّ أعمالهم لم تُقرأ ولم تأخذ حظها من النقد، وهذا ما سميناه ركوب القطار الخطأ وبلوغ المحطة الخطأ. وهو أمر لا يسيء أبداً للرواية لأنّ ما يُكتب باسمها لا ينتمي إلى جنسها من الأساس حتى ولو كتب على صفحة غلافها مائة كلمة «رواية»، فإنّ النص سيكشف أصالة العمل من زوره.. تماماً كمن يفبرك عربة دفع يدوي (برويطة) ويحاول إقناع الناس بأنّها سيارة فارهة ويمكنها المنافسة في أكبر المعارض. فهل يسيء صاحب هذا الفعل لعالم السيارت أم لنفسه؟؟ الإجابة هنا لا تحتاج إلى تخمين من الأساس. والنوع الثاني من غياب الوعي خاص ببعض الفئات القارئة، التي تحسب كلّ حكاية هي رواية، وقد ساهمت فيه بعض المطابع التي تسحب شهرياً كناشات بحجم الكف بـ 60 و70 صفحة من القطع الصغير، وأخرى مجموعة خواطر يتم الترويج لها عبر دور نشر تبيعها بالحزمة، التي لا تكلفها ثمن رواية حقيقية، ثم تُعلن للقراء بأنّها الرواية الأكثر مبيعاً على الإطلاق. وتروجها في مواقع التواصل الاجتماعي، فتحسب الجماهير حديثة التجربة بالقراءة بأنّ ذلك صحيحاً، لكن سيسقط كلّ ذلك البهرج مع أوّل قارئ واعٍ بأصول الرواية مع وضع سطرين تحت كلمة قارئ. وما كان لهذا الوهم أن يروج لدى المثقفين وحتى لدى الأكاديميين لو كان كلّ من يكتب في جنس محترماً له ولنفسه، ولو كانت هناك سياسة نشر تفرض لجان رقابية متعدّدة الاختصاصات في كلّ دار نشر (لجان قراءة متخصصة ومدققون لغويون). لو كان هذان العاملان متوفران، لاندثر نصف ما يروج اليوم في السوق التي كلما اتسعت، كلما راجت بها البضاعة المغشوشة. والحقيقة أنّ الفرق بين الأصيل والزائف جلي لدى القراء إلاّ في حالة غياب الوعي بأصول الكتابة الأدبية.
ما الّذي يجب فعله في هذه الحالة وأمام إشكالية الأصيل والزائف؟
محمّد الأمين بحري: هنا لا بدّ من توضيح أمر جوهري هو أنّ كلّ الحكايات ممتعة، حتى وإن لم تحسن اللّغة. لأنّ الحكواتي لا يلتزم بضوابط المعايير الصارمة للغة والتعبير، بل عليه فقط إبلاغ متعة الحكاية للسامع. وهذا ما عزز سوء الفهم. ففي العادة كلّ متلقِ سيعجب حتماً بجانب من جوانب الحكاية أو بالحكاية برمتها، لكن هل يسمح هذا الإعجاب بالحكاية أن نصنفها في جنس الرواية؟ هذا ما لا تسمح به حدود الجنس وآليات بنائه التي لولاها لما تميز عن سائر الأجناس.
يجدر توضيح نقطة مفصلية بين السرد والرواية، وهي أنّ السرد إطار عام يملكه الجميع متعلمون وأميون وعوام، باعتبار أنّ كلّ من نطق بحكاية فقد سردها، لكن الرواية هي تمفصل نوعي وخاص داخل فضاء السرد، أي هو نوع من التركيب الأجناسي المتعدّد الاستراتيجيات والبنى بحسب كلّ نوع روائي على حِده، فمثلاً السرد الواقعي لا يشترك في آلياته مع السرد العجائبي، ولا يقاسم السرد الذهني ولا التاريخي ولا الأسطوري.. وبالمقابل نجد لكلّ من تلك الروايات تقنياتها وحدودها داخل مجرة السرد التي يملكها كلّ حي ناطق مبين.
هل أصبحت الرواية اليوم واجهة الثقافة العربية، وهل هذا الحضور الكثيف للروايات التي تخرج يوميًا من المطابع يدل حقا على ازدهار هذا الفن؟
محمّد الأمين بحري: من منظور النصف المملوء من الكأس أعتبر التدفق الطباعي المهول للأعمال الروائية فرصة لإبراز المواهب أكثر منه تمييعاً للجنس الروائي. لأنّ الأمر يتعلق بولادة فكر إبداعي لا يختلف كثيراً –كما قال سقراط- عن ولادة البشر، فإن أخذنا بهذه النظرة سنجد كثيراً من الأعمال تولد ميتة، وأخرى تعيش لفترة معينة قبل أن تنتهي صلاحيتها ويذهب ريحها، بينما هناك أعمال تفرض وجودها على الساحة، وأخرى تتجاوز حدود موطنها، وأخرى تخلد مع أبطالها وأصحابها وهكذا.. والعامل الحاسم في مصائر ما يكتب من أعمال هو القارئ دون منازع سواء كان هاوٍ أو أكاديمي، أو ناقد، أو مبدع. أمّا من منظور النصف الفارغ من الكأس، فقد كان هذا الركام الطباعي لما يُكتب باسم الرواية نتاجاً لهوس صنعته عِدة ظواهر تغذت منه وغذته في آن معاً، وسنستوقف هنا ثلاث منها: أولاً: ظاهرة الجوائز الأدبية المحلية والدولية، (سواء أكانت سياستها منصفة، فاختارت الأجدر، أم كانت مجحفة فاختارت الأقل قيمة)، ويُتوخى في الجوائز حيث المبدأ أن تمحص الغث من السمين في هذا الركام. وتصنف الأحق بالتتويج في قوائمها الطويلة والقصيرة، من خلال شروطها ومعاييرها الترشيحية. فضلاً عن مكسب التكريس في الأوساط الأدبية، الصيت الإعلامي الّذي يزكي العمل الفائز وكاتبه وناشره، مما حفز هوس النشر لدى المثقفين ودور النشر على السواء.
ثانياً: كساد سوق النشر: وتحول كثير من دور النشر إلى مقاولات تُعلي معيار الربحية على معيار النوعية، وجودة المنشورات ففجرت السوق بأكداس لا ترى سوى عائداتها وجردها، دون محتواها وقيمتها الفنية، في غياب لجان القراءة أو لجان المراجعة اللغوية، أو التقنية، وغياب أية سياسة ومبادئ نشر على أساسها ترفض وتصوب أو تقبل المادة المقدمة إليها. وإن وجدت هذه الدور المحترمة نجدها مهجورة الجانب، ومغيبة في سوق النشر التي رهنتها الذهنية الربحية المقاولاتية.
ثالثاً: انعكاس الظاهرتين السابقتين على جمهور المثقفين بتحول معظمهم إلى روائيين في وقت قياسي، (وقد كانوا في مجالات أخرى: الشِّعر المسرح الإعلام.. أو ميادين مجاورة كالتعليم، والإدارة.. دون نسيان فئة المثقفين البطالين)، وبروز ظاهرة: «أنا أنشر إذاً أنا روائي»، وهي ذهنية ناتجة مباشرة عن كساد سوق الكتابة والنشر وعدم وجود أي معيار أخلاقي أو احترافي يحكمها، وكان أوّل ضحايا هذا الوضع تلك الفئة التي تصر على النشر بغض النظر عن محتوى ومستوى ما يُنشر، بما أنّ الهم الأوّل والأخير هو حمل لقب «روائي». وسيناله طبعاً بمجرّد طبع حزمة أوراقه سواء تمت قراءتها أم لا. فاجتاحت الساحة جموع غفيرة لركوب الموجة، وطباعة أعمال معظمها لا يرقى فنياً ولا لغوياً ولا أدبياً لأن يُصنف ضمن أي جنس أدبي. ومع ذلك يحملون لقب روائي، وتحمل أعمالهم عنوان الرواية. ويُنشئون لها صفحات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتجد دوماً من يغرد لها افتراضياً، لكن.. مهلاً..
فذلك اللقب وتلك الطبعات والتغريدات وحتى الجوائز الممنوحة لن تشفع لأي كاتب مهما بلغ صيته، مادام الحكم الأخير بيد جمهور القراء، وهو من سيقرر إخراج هذا العمل من الميدان، واستمرارية ذاك الّذي يفرض نفسه على الأذواق، وكم من الأعمال أُطيح بها وبأصحابها حتى بعد النشر والإشهار ونيل الجوائز.. فقط لأنّ هناك من يقرأ ويكشف أصالة العمل من زيفه.. ولو بعد حين.. وعلينا ألا ننسى بأنّ للتاريخ الأدبي سجل ذهبي لا يدون إلاّ الأصيل مهما ندر وقل، وسلة مهملات تتسع لكلّ غث هزيل مهما تعاظم وكثر.
كيف ترى تناول تيمة المسكوت عنه في الرواية الجزائرية؟
محمّد الأمين بحري: لقد أفلح كثير من أدبائنا، في تحويل موضوع المسكوت عنه من صورته الشائهة اجتماعياً وأخلاقيا في المجتمع إلى منجز فني مُتعالي الخطاب ومتعدّد الأصوات والدلالات والتآويل. ودبجه بألوان من الفكر والتخييل، ما يجعل النص قطعة عالمية يمكن أن تنفذ إلى دخيلاء كلّ قارئ محتمل تعبيراً وتأثيراً وإمتاعاً، بما تقدمه من نماذج بشرية في قوالب فنية تخييلية تستوجب النقد الفني للجنس الأدبي لا الأخلاقي الخاص بالجنس البشري. ويمكن تقسيم كتابنا من خلال تناول هذه التيمة إلى ثلاث فئات:
أولا: فئة المحترفين :ويمثلها أصحاب الصنعة في تكييف النماذج السردية، ممن أبدعوا في التوظيف والتحويل الجمالي لتيمة المسكوت عنه، على نسق لوحات الأدب العالمي؛ نذكر من هم مثالا لا حصراً: أمين الزاوي، وواسيني الأعرج ومحمّد بن جبار. لحبيب السائح، ورشيد بوجدرة.
والفئة الثانية يمثلها كُتّاب الإكسسوار الذين يشتغلون على الأشكال الفضفاضة للغة التي تبدو ملفوظاتها ثائرة وجريئة، بينما استخدامها وظيفياً هو تكييف للتيمات مع النُظم والأخلاقيات. وهي فئة لا تستعمل المسكوت عنه (كما باقي التيمات لديها) إلاّ في ظاهر الملفوظات، بينما في المحتوى النصي تلفه بسدائم من القيم والأخلاقيات حتى يفقد وهجه الفني وشحنته الإحساسية، وتلبس صبغة الأخلاقي. وغالباً ما تتم مغالطة القراء في هذه الكتابة، بحيث يظنون أنّ الكاتب يخترق المسكوتات (في المظهر اللفظي) بينما هو يتوسلها لتكييفها الأخلاقي خارج فن الأدب، ما يشكل اختراقاً غير فني للتيمة. ويمثل هذه الفئة كلّ من أحلام مستغانمي وفضيلة الفاروق وكثير من الأقلام المحدثة التي تناسلت عن هذا النوع من الكتابة، التي سارت على نهج أخلقة الخطاب الإحساسي للجسد (l’éthique du charnel).
والفئة الثالثة: فئة متطرفة تكتب لذاتها، وتضع خطوطاً حمراء للأدب، تستحل منه ما تجيزه إيديولوجيتها، وتحرم منه ما حرم تيارها الفكري وانتماؤها العقدي، فبعضها تجد كتاباتها تتنكر لأي موضوع من موضوعات المسكوت عنه، بدواعي طائفية وإيديولوجية تحرم على منتسبيها طرق مواضيع محددة منها المسكوتات، حيث اختار أصحابها أن يكتبون لأنفسهم أو لطوائفهم الفكرية التي تقاسمهم النزوع الفكرية والإيديولوجي. وليس للقارئ المتعدّد أو الكوني.
وإلى أي نوع من الأدب يمكن أن تنتمي هذه الكتابات التي تكتبها الفئة المتطرفة أو المتزمتة؟
محمّد الأمين بحري:عادة ما تنتج هذه الفئة المتزمتة أعمالاً لا يمكن أن تنسب لأي جنس في الأدب. نظراً لانفصال أصحابها عن فهم آلية الكتابة وغائيتها وطرائق صنعتها ومساراتها، من جهة، ومن جهة أخرى انفصالهم عن المجتمع الذي يعيشون فيه ويقدمون مفضلين الكتابة للنفس والفئة المغلقة التي ينتمون إليها ما يجعل هذه الأعمال مطروحة على قارعة الأدب والفكر والمجتمع والواقع. وقد كثر ممثلو هذه الفئة في عصر الطائفية والتطرف المذهبي لمراكز فكرية معروفة. لا تتحدث إلاّ بلون وصوت وحيد. فمن المعربين نجد أمثال محمّد جربوعة في وعضياته النثرية التي يقدمها عائض القرني ويسميها روايات، وفي المفرنسين محمّد دواد وبوعلام صنصال وكثير ممن يكتبون بالوصاية لدى طوائف يمثلونها، ولا يخرجون عن مدار لونها وصوتها وفكرها المتوحد الدائر حول نفسه. دون أن يعني أدبها الإنسان الكوني. أو يتجه للقارئ المتعدّد والمختلف. ن/ل