* محمّد خطّاب
هل سألنا يومًا لماذا ورد تعريف الشِّعر عند الجاحظ في كِتاب الحيوان؟ بِغضّ النظر طبعًا عن تعريفاته المختلفة. أقصد في كِتاب الحيوان؟ ما الجامع بين موضوع الشّعر كماهية وبين الحيوان؟ لم نقل يومًا إنّ هذا يفتقد إلى منهج؟ حتى لو قيل ذلك ففي سياق الحمد لا في سياق النقد والمُساءلة. لكن الّذي يهمني هو كيف أنّ الجاحظ مولع بالتضاد حين أستعير اللفظة من عبد الفتاح كيليطو. التضاد الّذي يقف في الطرف المُقابل للاِنسجام. الاِنسجام كلمة يُحبها معظم الباحثين لأنّها تعكس تعطشهم للمنهج أو الخوف من المنهج. لأنّ الخوف يعني عكسيًّا التباهي الضمني بالتفوق في التمثل والاِستخدام.
كلمة منهج مُعقدة ومُربكة أيضا، ليس في سياق البحث العلمي، بل في سياقها العام. إنّها تعني الطريق والمسلك (البعض يصر على صفة المستقيم) وهذا نابع من خوف أيضا. لا بدّ من دراسة هذه القيمة في علاقتها بالنفس، وبالتركيبة التي نشأ عليها البحث العلمي وبخاصّة الأدبي في الثقافة العربية.
الخوف في البداية وفي الوسط وفي النهاية ولكي أوضح المعنى أجد رمزية الأستاذ بالجامعة، يلح كثيرا لا على الهاجس واللعب، بل على المنهج والمنطق في الطرح (حتى الكلمات المتعلقة بالمنهج صار معظمها هزليًّا) ففي البداية يبدأ تخوفه من اِستخدامات المنهج في موضوعه، فيحاول تمثل معناه بطرق سطحية وأحيانا من غير مصادرها بغضّ النظر عن التلبك الّذي يُصيبه حين يصطدم موضوعه مع زمنية منتهية (مناقشة البحث في جلسة علنية) ويشعر حين يبدأ البحث بأنّه فعلا خلص لجوهره فيصاب بالعجب والتضخم لأنّ النتائج كانت مرجوة حقا، ولكن بالداخل لا يزال الخوف مستوطنا ومقيمًا. لأنّه يعرف صدقا أنّه لم يقرأ في موضوعه أو قرأ بالخطأ ما يجعل موضوعه مرتبكا ومخلخلا. لا يهم هذا المعنى، ما يهمني هو الخوف من المواجهة: مواجهة الذات إذا تعلق الأمر بالبحث الخالص، هو يعرف أنّ البحث كتب على عجل (ندع مجال الاِحتيال والسرقة فمفهوم العصابة منتشر بالجامعة: عصابة الأفكار والمعرفة) الخوف من كون البحث في مطلقه كان قائمًا على أسباب غير علمية (ترقيات ونياشين ولافتات وجوائز).
الخوف في النهاية هو معرفة الحقيقة، وأنّ المنهج لم يعصمه من الاِرتباك والقلق والتوتر. فبدل أن يكون المنهج سببًا في فرحته ونشوته، يكون سببًا في همه وحزنه. أنا أتحدث عن العالم الداخلي، لا يهمني التلوين والطلاء الخارجي. أمر يتعلق بالداخل الّذي لا يريد الكلام ويحرص على التكتم والصمت. الخوف الّذي يعنيني هو الشعور الّذي يسيطر على الباحث ويدفعه إلى التقلب من موضوع إلى موضوع ومن حس إلى حس ومن ثقافة إلى ثقافة ومن نظرية إلى نظرية (هذا يؤكد عدم نشأة نظريات خالصة عندنا بالمعنى الحقيقي لكلمة نظرية). أوّل ما أطرح على طلبتي هذا السؤال حين يتعلق الأمر بمادة المنهجية: منذ متى والجامعة تدرس هذه المادة؟ طبعا الإجابة هي: منذ بداية تكونها، فلماذا البحث العلمي ضعيف إلى هذه الدرجة؟ إمّا أنّ المادة التي تدرسونها وندرسها مغلوطة، أو أنّ تمثلها وفهمها لا يزال ضعيفا. في الحالتين، الأمر يتعلق باللعب. وسأوضح وجهة النظر هذه عودة إلى الجاحظ الّذي اقترنت بكتابته قيمتان مهمتان هما: الجد والهزل. ما المعنى الّذي نعطيه للكلمتين؟ صعب الإجابة، إلاّ إذا تأملنا بنية التفكير التي ميّزت نصوصه، والأهم إذا درسنا منطقه الداخلي وتلونه وحسه الغريب وتجربته مع الكتابة وصدقه وتفاعله مع المعنى. اللعب ينشأ من حس غريب لدى الباحث يسميه بارت بالنزوة. لكلّ باحث نزوته، وليس معناه تلك التي تودي بصاحبها (أتذكر اِبتسامة دولوز وهو يفرق بين السكير وعاشق الخمرة، فالسكير يهوي سريعًا العاشق لا) هكذا اللعب أو النزوة لا تودي بصاحبها بل تهيئه لاِستقبال ما ينطق به حسه الداخلي وكيانه المضطرب. يمكن الاِستئناس ببارت وباختين وحتى دي سوسير، من سميتهم مضطربون ومنشغلون بداخلهم، وما كتبوه كتبوه بفعل حس اللعب مع الوعي ومع الثقافة. فلكي نواجه ضعفنا يكفي أن نكون أصدق مع نزواتنا التي لا تطيح بنا بل التي تمنحنا رؤية حقيقية للعالم الّذي لا يقبل الكذب واللصوصية والنفاق العلمي، وأكثر من ذلك على البحث أن يستعير منهجه من الحياة الخصبة، المنهج يؤدي إلى الاِنسداد ويفرق عنا النظر إلى بقية المباهج التي تتكرم بها المعرفة.اللعب في النهاية هو حس الجاحظ مع معناه، ودورانه عليه بالطرق التي لا يمكن فصلها عن جسده وكيانه ككل. هناك لعبة البحث التي يجيدها القلة والتي تستنجد من الداخل الحيوي وتسخر من كل القيم العلمية المبوبة والصارمة. لا نفهم من ذلك قلة الاحترام لهذه القيم التي كتب بها البعض، ولكن كيف رأوا إلى المنهج؟ تلك هي العقدة التي يجب أن تهيأ لها نار هادئة.