خادم علي... أهازيجٌ ملوَّنةٌ وأزهارُ شرٍّ وشياطِين
شكَّل سؤال الفنّ بالنِّسبة لي، كرسّامٍ سابق، هاجساَ متعدِّد الأوجه، وما زلتُ رغم انحيازي إلى الفن الحديث، انحيازاً له شروطُه ومعاييرُه الخاصة طبعاً؛ أتساءل عن العلاقة بين المنجز الفني والمُتلقّي، كيف نقرأ هذا الشريط المتقطّع من تاريخ البشرية، تاريخ صنعه من أبدعوا في أزمنة سابقة في تشكيل ذاكرة الشعوب عبر أجيالٍ وأجيال، رسماً وكتابةً وموسيقى وغناء وكلّ أشكال التعبير الفنّي التي يجزم الكثيرون أنها تغيّرت ولم تعد مرآة واقعية لمعاناة الإنسان وكفاحه المستمر لإثبات وجوده.
* خالد بن صالح
بين الفنان والجمهور، تتراوح مسؤولية «عدم التّناغم» أو غياب «الهارموني» بين العمل والمتلقي، لأسبابٍ عديدة، سأكتفي منها بما يجعلني مندهشاً أمام أي عمل فنّي معاصر، على تعدُّد وسائط إنجازه. فالحديث عن الفن التشكيلي وتمثّلاته عبر العصور، لا يخلو من الحديث عن عناصر الحضارة حين تجتمع في لحظةٍ تاريخية وجغرافيا ما، أو تتلاشى في لحظةٍ أخرى.
هنا، أتحدث عن تجربة شخصية في مقاربة فنية لأحد أهم المعارض الفنية التي استوقفتني انطلاقاً من رؤية تتخطى الواقع فقط، لتعيد تشكيله بصدمة الإدهاش ونقل المشاعر الإنسانية المغيّبة.
***
في ربيع هذه السنة، أتاحت لي مؤسسة الشارقة للفنون بدولة الإمارات العربية المتحدة، فرصة أن أحضر افتتاح فعاليات معارض الربيع/ بينالي الشارقة 14، الّذي جاء بعنوان: «خارج السياق». والذي استمرَّ إلى غاية منتصف السنة وشهدَ تقديم أعمالٍ عبر برامج وتكليفات متنوّعة مأخوذة بهاجس البحث والتجريب، أنجزها فنّانون من مختلف بلدان العالم. بالإضافة إلى مقتنيات المؤسسة المتنامية، بهدف ترسيخ الدور الأساسي الّذي تلعبه الفنون في حياة المجتمع.
وخارج السياق، قدمت زوي بُت (Zoe Butt) معرض «رحلة تتخطى المسار»، وقد ضمّ مجموعة من الفانين الذين يتعاملون مع الممارسات التي سهّلت اِنتقال المعرفة عبر البرّ والبحر، في مقابل التأثير العميق الّذي انِتقل من جيلٍ إلى جيل، وما أحدثه الاِستعمار والاِستغلال الاِقتصادي والإيديولوجي للمنطقة. وهو ما يمنحنا اليوم منجزاً فنياً عميقاً ورؤى متباينة.
وفي السياق، جمعني لقاء مع الفنان الأفغاني الأصل خادم علي (ولد في عام 1978 في مدينة كويتا في باكستان، ليس بعيدًا عن الحدود مع أفغانستان. وهي كذلك مسقط رأس والديه، وشقيقيه. لقد عاشوا في المنفى في كويتا منذ أن فرَّ جدُّ علي من أفغانستان وهو طفل في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، في أعقاب مذابح الهزارة. يعيش خادم علي حالياً ويعمل بين سيدني وكابول). شابٌّ بشعرٍ رمادي، وتي شيرت رمادي أيضاً، لكنّ أعماله مليئة بالألوان التي تتفجّر من تربةٍ اِمتزجت في ذاكرته بأهازيج الأجداد وأغانيهم التراثية وذكريات الطفولة. يأتي الضوء من جهة العتمة، وتأتي الألوان من أمكنة خفيّة، وتمتزج الكلمات التي يريدُ خادم علي قولها لنا بواقعٍ مرير يمتدّ لسنوات بعيدة، وكيف تعوَّد الناس على العنف في أفغانستان وأمست القنابلُ درساً يومياً، تستعمله طالبان كمصنع للجنود وفق برامج تعليمية مغلقة. ومن خلال الصراع الّذي قام أولاً بين قوتين عسكريتين الاِتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية وانتهى باِحتلال الأخيرة للمنطقة بداية الألفية؛ كلُّ هذا يُشكِّل ما أسماه الفنان بـ»الاِعتياد على العنف»، وهو بذلك يستقصي الجماليات التي يمكن لها أن تُخرج الفرد من سياقات ما اِعتاد عليه وما كرّسه التطرف واستعمال الدعاية والإيهام الإعلامي من صور نمطية، يقع على عاتق الفنان تحطيمها بإعادة إنتاجها من جديد وفق رؤية فنية ناقدة وتأويلية متنوعة.
يعتمد خادم علي في عددِ كبير من أعماله على مجموعة من النّساء الحرفيات في كابول، ومدن أخرى كأصفهان وباميان، في إنجاز لوحاتٍ قماشية كبيرة الحجم باستعمال الحرير والألوان والحبر وورق الذهب، مستوحياً عناصر لوحاته من كتاب الملوك أو «شاهنامه» بالفارسية الذي كتبه أبو القاسم الفردوسي في نهاية القرن العاشر، إذ يعتبر ملحمة بلاد فارس وأحد كلاسيكيات الأدب العالمي. كما يستخلص مِنَ القصص المروية والقصائد المغناة؛ تاريخاً يمتدُّ في القدم ويرتبط بالأساطير والاعتقادات والأعراف، دون إغفال ما تعيشه البلاد من تمزّقات وصراعات حول السلطة ومناطق النفوذ ومتاجرة المخدرات والسلاح.
يقول خادم: «أتوجه بالشكر إلى المكافحات، ممّن يشاركن في رسم حياة آبائهن، بأملِ أن ينجو أبناؤهن من ذات المصير»، ويضيف «العمل يتمّ بشكل سرّي وبطرقٍ حذرة خوفاً على حياتهن، وحياتي». ويُعيدُ علي سبب حضور كلّ هذا الزخم التاريخي في أعماله، سواءً كان في لوحات جدارية، أو لوحات قماش أو أعمال نحاسية ومنحوتات، إلى الاِرتباط الوثيق بالأرض وبالجذور والميثولوجيا.
«أزهار الشرّ» هو العنوان الّذي اختاره الفنان العالمي خادم علي لمجمل أعماله، في محاكاة شعرية لبودلير وإن كان يقصد نبتة القنب الهندي، أو الماريخوانا، أو الحشيش. لكنَّ العنوان يذهب إلى أبعد من ذلك حين ينقلُ لنا تراجيديا الحرب وتلك المشاهد والحكايات البصرية والتراكيب الصادمة، عن معاناة شعب الهزارة المضطهد، بوصف الفنان ينتمي إلى هذا الشعب المشهور باِمتلاكه لألف نهرٍ وألف جبل كما تقول الأسطورة.
تعكس أعمال خادم علي الصراع الثقافي والتاريخي، وصور التطرف الديني، والاِختلاف بين الأجيال، وكيف يستغل المستعمر الثروات الطبيعية لهذه البلدان المستبدة والمستلبة، بالترويج لشعارات زائفة، وتحت مسميات كبرى كمكافحة الإرهاب والتحرر.رمزية نبتة القنب الهندي، والشرّ الّذي يحوم حولها، حيث تُبرز إحدى اللوحات معركة بين طالبان وجنود أمريكيين، بين الطرفين حقل من الخشخاش، في لعبةٍ بصرية تعكس أن الضحيةَ ضحيةُ طرفين تعتريهما دوخة، هي فقدان للعقل بجرّ الشعوب إلى حروبٍ دموية. تماماً كما تتدلّى تلك النّبتة في لوحة «وصول الشياطين» بحجمها الكبير (15×7 متر) تضمُّ شياطين زرق لهم أجنحة ملائكة.