هل يمكن الحديث عن أدب الاِعتراف في الجزائر. أم أنّ هذا غير وارد، لأنّه نادرا ما نجد عملا أدبيًا يتميز بمقومات الاِعتراف و لماذا لا تستسيغ الثقافة الجزائرية والعربيّة عمومًا هذا النوع من الأدب. وكأنّه من المحرمات والمحظورات والخطوط الحمراء التي لا يجب أن يتم تجاوزها من طرف الأدباء والكُتّاب. هل لأنّ عقل المتلقي/القارئ الجزائري أو العربي لا يتقبل مثل هذا النوع من الأدب ويُبادر إلى إصدار سلسلة أحكام ومحاكمات جاهزة اِنطلاقًا من موقعه الأبديّ "القارئ/ الرقيب الّذي يُجيد المُحاسبة والمُحاكمة". وهذا ما يجعل ربّما، النص الاِعترافي أو أدب الِاعتراف قريباً من فكرة الفضيحة.
استطلاع/ نــوّارة لـحـرش
حول هذا الموضوع "أدب الاِعتراف في الجزائر"، كان ملف "كراس الثقافة" لهذا العدد، مع مجموعة من الدكاترة الأكاديميين والنُقاد والأدباء.
* مخلوف عامر/ كاتب وناقد وأكاديمي
لا يستطيع الكاتب مهما كان صادقاً أنْ يعرض على الناس ما يخدش صورته
المُواطن الجزائري أو العربي كاتباً كان أو قارئاً اِستمرَّ عبر الزمن يُجرجر حُزَماً من العادات والتقاليد، وحُشي ذهنُه بترسانة من الأحكام الجاهزة ساهمت فيها تنشئة الأسرة ونظام التعليم والمحيط. وعندما يتعلَّق الأمر بالأدب، فإنَّ الناس عادة ما ينظرون إليه من زاوية دينيّة/أخلاقيّة كما يروْن في أستاذ الأدب المُؤهَّل الأوّل من بيْن كلِّ الأساتذة لتدريس التربية الإسلامية. فلا غرابة أنْ ترى بعض أساتذة الأدب يصبحون أئمَّة بمجرَّد تقاعُدِهم.
هذه العوامل تشكِّل على مرِّ الزمن حزمة من العُقَد تحول دون أنْ يتجرَّأ القارئ على البوْح بكلّ ما يعنُّ له عند قراءة نص أدبي، هذا إذا هو لم يُسارع إلى مهاجمة صاحبه اِنطلاقاً من الموْروث الّذي يقبع في اللاوعْي لديه.
فأمّا كاتب السيرة الذاتية وهي أقرب إلى أدب "الاِعتراف"، فإنّها محدودة في تاريخ الأدب العربي وقليلة جداً في الأدب الجزائري. فهل يمكن أنْ نتوقَّع ممَّن يكتب سيرته الذاتية أن يتحلَّى بكامل "الشجاعة والصراحة والقدرة على تعرية الذات والأمانة التامة في سرد الحقائق والوقائع دون تمويه أو مُراوغة"؟
يبدو أنَّ مُسمَّى "الاِعتراف" حين يُلصق بالسيرة الذاتية، فإنَّه لا يفتقر إلى الدقة وحسب، بل ينطوي على مُغالطة مفضوحة. إذ لا يستطيع الكاتب مهما كان صادقاً أنْ يعرض على الناس ما يخدش صورته بسوء. وهي الصورة التي عمل طيلة حياته على أن تكون ناصعة البياض سواء من خلال إبداعه أو فيما يُصرِّح به من حوارات. قد يحدث ذلك بفعل النسيان وهو أمرٌ وارد، لكن كِتابة السيرة في جوهرها عملية اِنتقائية مقصودة. فإذا هو لم يعمد إلى التمويه والمُراوغة، فإنَّه بالتأكيد لا يمتلك القدرة على تعرية الذات.
فأمَّا إذا كان من المُصابين بنرجسية مُفْرطة، فإنّه من المُحتمل جدّاً أن يختلق قصصاً وأحداثاً تزيد في تلميع صورته وتُسلِّح مريديه بما يغطِّي على عيوبه. وهذا سلوكٌ معهود لدى عديد من الكُتَّاب. والكاتب يستغلُّ تقدير الناس للمكتوب وما يخلِّفه حبراً على ورق قد يرقى لدى بعض القرَّاء إلى درجة المسلَّمات.
فالمُثقف العربي بصفةٍ عامة لم يتربَّ على النقد الذاتي ولم ينشأ على الاِعتراف بالخطأ، بل قد يتمادى فيه بخلاف كِبار الأدباء أمثال دوستويفسكي الّذي يقول: "لا يغيظني الوقوع في الخطأ فهو شيءٌ يمكن التسامح فيه، وهو شيءٌ رائع لأنّه يؤدي إلى الحقيقة، ما يغيظني هو الإصرار على إنكار الأخطاء!".
إنَّ ما يُعرف بالثالوث المحرَّم "السياسة والدين والجنس" لم يبْقَ على حاله كما في البدايات، بل خضع لتحوّلات عميقة. لكنَّه بالرغم من ذلك مازال يُمارس حضوره من خلال الرقابة الذاتية. قد يكون الحديث في السياسة وخاصة في الجزائر أمراً شبه مباح. ربّما لأنَّ أهل السياسة أصلاً لا يقرؤون، أو لأنَّهم يدركون أنّ الكتابة ليست سوى لوْن يُضاف إلى واجهة الديمقراطية الشكلية كما يكرِّسونها ولن يكون لها أيُّ مفعول. لكنّه من المُستبعد –فيما أرى- أن نتوقَّع من الكاتب أنْ يروي لنا قصة إلحاده مثلاً إن كان مُلحداً أو يصوِّر مغامراته الجنسية إن هي حصلت بالفعل. فهو أميّل إلى ممارسة الرقابة الذاتية إرضاءً للعقلية السائدة ولو كانت مشوَّهة. وإذا كانت كتابة السيرة نادرة في أدبنا، فلعلَّ ذلك يعود إلى أنّ وقتها لم يحن بعد في نظر الكاتب، وربّما –تواضعاً منه– يعدُّها من اِختصاص كبار الأدباء.
وفي كلّ الأحوال، فإنَّ كتابة السيرة أو أدب الاِعتراف كأيِّ حوار أو مُقدِّمة يضعها الكاتب لعمله، فهي قد تضيء جوانب معيَّنة من أعماله، لكن لا يُعوَّل عليها في القراءة. لأنّها في كثير من الأحيان لا تكون سنداً للقارئ في اِستجلاء الغامض والمُغَيَّب، بقدْر ما تكون مُضلِّلة تُحرف القراءة عن مسارها الصحيح.
* عبد الحميد بورايو/ كاتب وباحث أكاديمي مختص في التراث
في تاريخ الأدب العربيّ محاولات قليلة في كتابة السِيّر
أدب الاِعتراف يتعلق بنوع السيرة الذاتيّة، يتطلب هذا النوع الأدبي ميثاقا مُفْتَرَضًا بين الأديب والقارئ يتأسّس على مبدأ تعرّف القارئ على جميع تفاصيل حياة الأديب بدون اِستثناء وبسقف عال من الصراحة. يستند هذا المبدأ بدوره على رؤية فردية للوجود مُتَخَلِّصَة إلى قدر كبير من رؤية جمعية لهذا الوجود. ثقافتنا في المجتمعات الإسلاميّة وتنشئتنا الاِجتماعيّة والتعليميّة تُعِدُّنَا منذ الصغر على قبول هيمنة الرؤية الجمعيّة، التي تجعلنا نفرض على أنفسنا رقابة اِجتماعيّة تكبت الجانب الفرديّ، وتفرض على الموقف الفرديّ أن يَتَخَفَّى. كان هناك في تاريخ الأدب العربيّ عدد قليل من المحاولات في كتابة السِير الذاتيّة أو أدب الاِعتراف، مثل كِتاب "الأيّام" لطه حسين، غير أنّ الكاتب بذل جهدا كبيرا في تقديم جوانب من حياة طفولته عبر صور تعتمد على التورية وبلاغة الخطاب التي ترمي إلى التلميح وتتجنب التصريح، ولا شكّ أنّ ما لم يذكره من سيرته أكثر بكثير مِمَا تحدث عنه. يمثل طه حسين المثال البارز على العجز عن الاِعتراف بتفاصيل الحياة الخاصة، وهو الرجل المُثقف والعَلم البارز الّذي خاض معارك أدبية وثقافية ضدّ بعض الذهنيات النابعة من التصورات الجمعيّة، فما بالك بكاتب آخر يجرؤ على تقديم مثل هذه الاِعترافات.
يمثل الخضوع للرقابة الاِجتماعية علامة بارزة في الخطابات الأدبيّة المُختلفة التي سعت إلى كتابة السيرة، لهذا نلاحظ ضعفا كبيرا في هذا المجال. وقد لجأ الأدباء في كثير من الأحيان بسبب هذه الرقابة إلى التخفي وراء شخصيات القصص والروايات بغرض تمرير النوازع الفرديّة والتوجهات الفكرية، ونذكر هنا على سبيل المثال رواية "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، وروايات رشيد بوجدرة وغيرهما..
إنّ الشروط التي يعيشها الأديب في عالم تحكمه رؤية الجماعة المتسمة بالمحافظة وفرض المعتقد، وأحيانا حتى فرض مبدأ التأويل والقراءة، لا تسمح بظهور السيرة الذاتية بمعناها الحرفي في الكتابة الأدبية العربيّة، والأديب مهما تحرر وآمن بمبدأ الفردية سوف يجد نفسه يضع اِعتبارا للقارئ اِبن مجتمعه الّذي تحكمه قيود الجماعة، ومبادئ الحرام والحلال..
وقد اِزدادت الرقابة المفروضة على الكِتابة في العصر الّذي نعيشه بسبب اِنتعاش الحركات الدينية وتصدرها للمشهد السياسي في العالم العربيّ، وهي الحاملة لإيديولوجية اِستبدادية ترفض التصريح بالرأي المُخالف وتهدّد أصحابه في وجودهم الجسديّ، وقد أصبحت تتحكم بدورها في كثير من البلاد في المؤسسات الثقافية ودور النشر ومختلف الوسائط الجماهيرية، وأصبحت وسائل التواصل الاِجتماعي في كثير من الأحيان عائقا لحرية الفِكر، نظرا لكونها وسعت من دائرة الرقباء على الفكر والمواقف الفرديّة في العالم العربي.
بالنظر لكلّ ذلك سوف تظل عملية الاِعتراف الصريحة بما يختلج في النفس وفي الذهن من مواقف ووعي أمرا صعب المنال، ولابدّ للمجتمعات العربيّة من عملية تحرير حقيقية تطال ممارسات السياسة والفكر والفنّ والحياة.
* عبد القادر رابحي/ شاعر وناقد وأكاديمي
لا يمكن أن نتصوّر في عالمنا العربي والجزائر كتابةً تحمل حقا مواصفات أدب الاِعتراف
ربّما كان من اللائق الحديث عن "أدب الاِتهام" أولى من الحديث عن "أدب الاِعتراف" في العالم العربي عمومًا، وفي الجزائر كذلك، نظرا لِمَا يمكن أن تحمله صفة الاِتهام من اِعتراف مُبطّن بِمَا كان يجب أن تقوله الذات ولا تستطيع أن تقوله فيتولاه الآخر الّذي هو الوجه الآخر للذات، وهي تصف الآخر بِمَا فيه مِمّا لا يستطيع هو نفسه أن يُصرِح به في كتاباته الأدبيّة أو السِيَر الذاتية.
نحن إذاً أمام إشكالية في غاية التعقيد بالنظر إلى ما يمكن أن تحمله كلمة "أدب الاِعتراف" من مُضمرات ليس أقلّها الشكل الّذي يظهر به هذا الأدب إلى العلن. ذلك أنّ هذا الاِعتراف، ما دمنا قد أضفينا عليه صفة الأدب حتّى صار فرعًا منه، لا بدّ أن يتحقق في قوالب وأشكال أدبية تذهب من المقالة التي يتحدث فيها الأديب عن نفسه وعمّا خبأته عن الآخرين (القُراء) من أسرار كفيلة بتغير رؤية أو ترجيح تصور أو تغليب حقيقة كانت مخفية على أخرى مُنتشرة بين القُراء، وتنتهي عند السيرة الذاتية التي بإمكانها أن تحوي مجموع ما عايش الأديب أو جزءا من حياته بِمَا حملته من أسرار لم تكن معروفة عند القراء، مرورا بِمَا بالرواية التي يمكن أن يتحمل فيها الأديب مسؤوليته، فيكون هو الراوي الّذي يروي سيرة "بطل" الّذي هو الكاتب نفسه، أو البطل الّذي يتحدث بضمير الأنا عن حياته، أو البطل الّذي يحكي سيرة بطل آخر مقنّع داخل ما يمكن أن ينبني عليه العمل الروائي من متاهات سردية عادةً ما يتلاعب فيها الروائي بالأزمنة وبالشخصيات وبالأحداث وِفْقَ ما تمليه عليه حاجته إلى تثبيت حقيقة تاريخية مُتعلقة بمصيره وهو يكتب حياته على لسان الراوي، أو على لسان البطل، أو على لسانه هو بالذات بوصفه بطلا فاعلا في العمل الروائي.
ربّما كان الشِّعر أقرب الأجناس إلى البوح بِمَا يُعايشه الأديب فيذكره في أشعاره بِطُرق ملتوية عن طريق التضمين، أو عن طريق القناع، أو عن طريق الجهر بالحقيقة التي يريد أن يقولها الشاعر عن نفسه. وقد يذهب الشاعر إلى أبعد من غيره في الكشف عمّا لا يريد الكشف عنه مِمّا يتعلق بحياته الخاصة أو حياته المرتبطة بما عايشه من أحداث اِجتماعية أو تاريخية. غير أنّ السؤال الجوهري الّذي يفرض نفسه هو الاِعتراف بماذا؟ ولماذا الاِعتراف بالذات؟ ولماذا الأديب بالذات؟ قد يتعدى الاِعتراف حدود المُمارسة الأدبيّة بمختلف أجناسها التي ذكرت الآن، فيمس اِعترافات المُؤرخين والفلاسفة وعُلماء الاِجتماع والسياسيين وصانعي الأحداث عبر المراحل التاريخيّة المُهمّة التي تقطعها المُجتمعات، فيشارك فيها هؤلاء بوجهات نظرهم التي تؤدي بهم عادةً إلى الاِندراج في عُمق الحدث الاِجتماعي أو عُمق الحركة التاريخيّة. فلا يُفهم من الاِعتراف، في هذه الحالة، الكتابة التي تخصّ الأدباء، وإنّمَا يُفهم منه ما يكتبه ذوو الشأن العام أو الخاص مِمّن لهم أثرٌ ما كبير في المجتمعات التي يعيشون فيها مهما كانت اِختصاصاتهم.
لا يمكن لكتابةٍ من هذا النوع، وبُمختلف أشكالها الأدبية ومختلف الأشخاص الذين يكتبونها، إلاّ أن تكون تعبيرا عن جهرٍ بحقيقة مخفية لها أثر واضح على مسار عام يخص علاقة كاتبها بظرفه التاريخي، أو أثر واضح على مسار خاص يخص علاقة الكاتب بحياته الشخصية. لكن هل يوجد في مجتمعاتنا العربية، وفي الجزائر خاصة، هذا النوع من الكِتابة فِعلاً؟ وهل وصلنا حقيقةً إلى مرحلة يمكن الحديث فيها عن كِتابات يعترفُ فيها الكُتّاب، بمختلف اِختصاصاتهم وتوجهاتهم، بِمَا اِرتكبوه، أو بِمَا أخطئوا فيه، أو بِمَا زيّفوه من حقائق في مراحل سابقة من حياتهم؟ قد لا تكون الإجابة إلاّ بالنفي نظرا لِمَا يعتري هذا النوع من الكتابة من أسباب تواجد لا تتوفر إلاّ في المجتمعات التي بلغت شأوا عظيمًا من الوعي الحضاري الّذي يمكّنها من تجاوز أسطورة الإخفاء بوصفها تزييفًا للواقع وللتاريخ وتحويلاً لمجراه الطبيعي لدواعٍ سياسية أو اِقتصادية مرتبطة أصلا بمفهوم المعرفة من جهة، وبعلاقتها الجوهرية بالمصلحة من جهةٍ ثانية. ذلك أنّ الأمر يتعلق أساسًا بتوفير شرط تجاوز العوائق الفلسفية المُرابطة بالتصورات النظرية التي يحملها الاِعتراف في مجتمعات حققت قيم حياة ونُظم عدالة مفتوحين على الحقيقة، وأنتجت سلوكات ثقافية عاكسة للقيم الحضارية التي تسيّر حياة الأفراد في هذه المجتمعات. سيكون الاِعتراف، في هذه الحالة، عملاً ثوريًا يدفع بقيم العدالة إلى الوصول إلى الحقيقة. وفي المُقابل، تمكِّن القيم الثقافية من إعادة ترتيب سيرتها وإعادة صياغتها تاريخيًا بناءً على المُعطيات السياسيّة أو الثقافيّة أو التاريخيّة الجديدة.
ولعلّ هذا ما وصل إليه الوعي الغربي بإشكالية الكتابة في حد ذاتها، الأمر الّذي لم تبلغه المجتمعات العربية وهي أبعد ما تكون عنه. فالاِعتراف في هذه المجتمعات هو إعادة صياغة لمسار بُني بطريقة غير طبيعية أو غير صحيحة أصلا. لقد كان لعالم السرد -الرواية خاصة- دورٌ فاعل في الاِنتقال بأدب الاِعتراف من الإطار الأجناسي الّذي يمكنه من الجهر بالحقيقة من داخل عالم الرواية، أي بأصوات شخصيات الرواية، إلى إطار خارج أجناسي -أي سردي بصورة مُطلقة- يمكّن الكاتب من تحمّل مسؤولياته في ما يريد أن يعترف به من أسرار أو ما يضمنه في كتابه من حقائق لم تكن معروفة عنه من قبل.
لقد اِنتشر هذا النوع من الكتابة في الغرب خاصة نظرا لتوفر شرط الوعي بالمعطى الفلسفي الّذي أنتج فكرة تجاوز السرّ والنظر إليه بوصفه عائقا، ولكن كذلك نظرا لِمَا أصبحت تحقّقه هذه الكتابة من اِنتشار ونجاح واسعين لدى القُراء بسبب ما تحمله من حقائق هي أميلُ إلى الأدب الفضائحي في وجوهه المرعبة أو النفسية أو السير ذاتية.
ربّما أعاد الفكر الغربي في عصر ما بعد الحداثة إلى الواجهة ما كان التاريخ اليُوناني القديم يُحاول إخفاءه داخل الأسطورة الديونيسية أو الأوديبية بطريقة تؤكد على ما يحمله فكر ما بعد الحداثة من وعي بالذات بوصفها جسدا آيلا إلى زوال واِنمحاء. ولعلّ الفضائحية المُثيرة للشغف الوجودي الكامن في عُمق الإنسان عمومًا والإنسان الغربي المُعاصر خصوصًا، لا يمكن أن تُشبع من قضمها لتفاحة الوجود إلاّ بتعرية الوجود ذاته من شوائب السرّ بوصفه قيمة روحية طالما أنكرها الفكر ما بعد الحداثي نظرا لِمَا رأى فيها من عوائق دينية وأسطورية تقف أمام تحريره لبلوغ الخلاص النهائي والوصول إلى مرحلة إنسان بدون سرّ وبدون فضيحة وبدون تاريخ. فمثلما كان البُعد الإغوائي (البورنوغرافي) خاصية حداثية باِمتياز مهّدت لتعرية الإنسان من اللباس بوصفه طاقية إخفاء لحقيقة ما، وقد تجلى ذلك عند الفنانين التشكيليين الغربيين خاصة، فإنّ الفكر ما بعد الحداثي دفع بتعرية الفكرة في حد ذاتها بوصفها رؤية مُقدسة من خلال الإصرار على نزع هالة التستّر عنها لتصبح عارية من كلّ مكتوم ومسبق ومضمر. ربّما كان من الواجب النظر إلى أدب الاِعتراف من هذه الزاوية بوصفه أدبًا يرتكز على معرفة غير مُقيدة بوعي مُسبق ملفوف في ستائر التاريخ القديمة سواء كانت ستائر اِجتماعية أو ستائر ذاتية. ثمّة نوعٌ من الكتابة يُحدث ضجة كُبرى حاليًا في الغرب، وهو الرواية الفضائحية التي يَحكي فيها الأديب سيرته الذاتية وما تعرض له في طفولته من أحداث عادةً ما تحمل بُعدًا دراميًا مُتعلقًا بحياة الفرد الجنسية أو الدينية أو السياسيّة داخل الأسرة وخاصة أثناء مرحلة تكون الوعي بالوجود الّذي هو مرحلة الطفولة. وعادةً ما يكون هذا الثالوث –الجنس والدين والسياسة- حاضرا في هذه الكتابة بصورة قوية تعمل تقنيات السرد وفنياته على إعطائها أبعادا عميقة من المتعة والتشويق.
فهل يمكن أن نتصور في عالمنا العربي والجزائر كتابةً تحمل هذه المواصفات، وتتقدم في الاِعتراف بهذا النوع من الوعي بالذات وبالعالم من المنظور الغربي، وتجرؤ على وضع صورة هذه الذات عاريةً أمام مرآة المجتمع العربي الّذي تعيش فيه؟ سؤال لا يمكن الإجابة عنه باليقين نفسه الّذي نجيب به عن سؤال الكتابة في أدب الاِعتراف في المُجتمعات الغربية.
* محمّد الأمين بن ربيع/ روائي وكاتب مسرحي
الاِعتراف في العُرف العربيّ يـُخْرِج المادة من حقل الأدب إلى حقل الفضيحة
في العام 1969 صدرت رواية "التطليق"، كان رشيد بوجدرة قادمًا من عوالم الشِّعر، مُعوّلا على كسر النمطية السردية التي طبعت الأدب الجزائري إلى ذلك الوقت. في روايته "التطليق" قال بوجدرة كلّ شيء بإمكانه أن يصدم القارئ، قاله هكذا صريحًا وخاليًا من البهرجة التي ستطبع الأدب الجزائري لاحقًا، وتجعله مُثقلا بالتجميل والمُداراة. قال بوجدرة يومًا: "كنتُ في الرابعة حين أُصبتُ بحالة رعب إثر مُشاهدة جماع والدي مع أمّي. سمعتُ همهمتها العالية، فحسبتُ أنّها تحتضر. كان منظراً بشعاً. كان والدي عنيفاً. خفتُ على أمّي، شاهدتها تنزف. ومنذ ذلك الحين تشكّلت في ذهني صورة بشعة عن أبي". ثيمة كُره الأب والحقد عليه بقيت مُلازمة لكِتابات رشيد بوجدرة، فلا نكاد نقرأ له نصًا روائيًا إلاّ وتعرض فيه لتعنيف الأب، أو رسمه في صورة المريض السادي الّذي يستحق الموت. وهذا ما فعله في "التطليق" حين تحدّث عن شاب يتعرّض للقهر في مجتمع بطريركي، ويصف عبر بوحه مدى كرهه لوالده البرجوازي المُتسلط..
لم يكن رشيد في "التطليق" سوى رشيد بوجدرة في الحقيقة، وكانت تلك الرواية اِعترافًا من بوجدرة بكرهه لأبيه، وخيبته من نتائج الثورة، وتعرّضه للاِغتصاب من زوجة أبيه الشابة، لم تكن "التطليق" سيرة ذاتية بل كانت رواية اِعتراف. والحدّ الفاصل بين كتابة السيرة الذاتية وكتابة الاِعتراف حدٌّ واضح يجب أن يتبيّنه الكاتب والقارئ على حدّ السواء، إذ ليس اِعترافًا أن يُقدِم الكاتب على سرد سيرته الذاتية ويحاول من خلالها تسويق صورة مثالية عن شخصه، مُجتنِبًا في ذلك أي تصور سلبي عنه قد يُصدره القارئ بعد قراءة عمله الأدبي، وحتّى أولئك الكُتّاب الذين دونوا سِيَرهم الذاتية بالتفصيل، اِبتعدوا كثيرا عن قول الحقيقة، ووقفوا أمام أنفسهم بكامل نرجسيّتهم مختفين وراء تبرّج صارخ يخفي الكثير من الندوب التي حفرت عميقا في ذات المُبدع، وإذا سُئل المُبدع عن المثالية الواضحة في سيرته الذاتية سيتحجج برأي ميخائيل نُعيمة الّذي يرى أنّ الكاتب بتسجيل حياته يجعل نفسه كبيت مبنيّ من زجاج يراه الجميع من الخارج.
حتّى أولئك الذين تحدثوا عن اِنكساراتهم وخيباتهم وفقرهم وآلامهم في سِيَرهم الذاتية، كانوا يُسوّقون الصورة المُشرفة للإنسان المُكافح الّذي يُحقق هدفه رغم ما مرّ به، أو يستعرضون قدرتهم على تطويع جماليّة اللّغة العربيّة أكثر من اِستعراض مشاعرهم وعواطفهم ونقائصهم الشخصية، وخير مثال على ذلك الروائي واسيني الأعرج في "سيرة المنتهى عشتها كما اشتهتني"..
يبدو أنّه لا مكان لاِعترافات أدبية صارخة لدينا. وحتّى أولئك الكُتّاب الذين عُرفوا بجرأتهم في الطرح يعزفون عن الاِعتراف الحقيقي حين يتعلّق الأمر بالكتابة عن ذواتهم، ليس في الجزائر فقط بل في كلّ البلاد العربية كالكاتبة نوال السعداوي التي كتبت سيرة ولم تكتب اِعترافًا، لأنّ الاِعتراف في العُرف الأدبيّ العربيّ المُعاصر، يـُخْرِج المادة رغماً عنها من حقل الأدب إلى حقل الفضيحة. وهذا التصنيف صار مُلازمًا لكلّ من يجرؤ على قول حقيقته كاملة دون تحريف ولا تنميق، حين يقولها بأبجديتها الأولى وبشكلها الأوّل، لعلّنا نستنثني حالات إبداعية خاصةً كالكاتب المغربي محمّد شكري صاحب "الخبز الحافي" التي تُعدّ اِعترافًا وتُصنف في خانة أدب الاِعتراف، لأنّ صاحبها تمكّن من الحديث عن نفسه بشكلٍ صريحٍ وواضح، مُستبعدا ثِقل سلطة الرقيب الديني والاِجتماعي، التي كثيرا ما يُنصّبها الكاتب بنفسه على كِتاباته أثناء الشروع فيها، فيضطر للكتابة بنصف لسان، ومثله فعل مُواطنه عبد الله الطايع في "جيش السلام".
يجب أن ننظر إلى الروائي بوصفه إنسانًا بإمكانه أن يُخطئ ويُصيب ويتعثر ويقوم، ويجب أن نستقبل ما يعترف به اِستقبالا أدبيًا بعيدا عن الأحكام الجاهزة والتصنيفات القبلية التي تُجهض المشروع الإبداعي قبل ميلاده كاملا، ونسوّق هذا الإبداع بوصفه إبداعًا وفقط لا بوصفه فضيحة يتوخّى منها ناشرها تحطيم رقم قياسي في عدد المبيعات كما حدث مع مبيعات كِتاب رسائل غادة السمان وغسان كنفاني الّذي اُستقبِل بوصفه فضيحة من نوع ما وليس أدباً.
* بوزيد مومني/ ناقد وباحث أكاديمي
يعدُّ من المَمنوعات لغياب الحريات المجتمعية في الثقافة العربيّة التي لا تقبله
أكاد أجزم بأنّ الثقافة العربيّة لم تعرف أدب الاِعتراف على عكس أدب التراجم أو السِير كونه يعدُّ من المَمنوعات أو المُحرّمات لغياب الحريات المجتمعية عمومًا والتي نُجملها في عدم تقبل الثقافة العربيّة لمثل هذه الاِعترافات التي تكون ضد الثالوث المحرّم: الدين والجنس والسياسة.
الاِعتراف فنٌ راقٍ، لكن، ومهما كان إقراره هذا إبداعياً ومُقنعاً، لكنّه بالمقابل، عصيبٌ وباهظ، خاصة إذا كان في مجتمع عربي يبحث أفراده عن توثيق ذلك الضُعف لاِستغلاله ضد المُعترِف.
يسعى الأديب العربي –عمومًا- والجزائري –خصوصًا- إلى فكرة تجميل ذاته وتاريخه وسيرته، وهو الأمر الّذي يتنافى مع أدب الاِعتراف الّذي يستلزم تعرية الذات، فالبوح بالحقيقة يعدُّ صدمة للمجتمع العربي ولعاداته ومعتقداته، ومن ثمّ فلا يُــقـبِـل الأدباء على كتابة أدب الاِعتراف لأنّ ذلك يتسبَّب في كسر للحدود والتابوهات واِنتقاص من هيبة الأديب ومكانته وفقده اِحترام الآخرين. عكس ما نجده في النصوص الغربية رغم أنّ لحظة الاِعتراف واحدة؛ لحظة غامرة بالإنسانية، وبالضُعف، واللذة، وأحياناً بالتعبير عن اللاجدوى، لكن يبقى النص الاِعترافي العربي قريباً من فكرة الفضيحة، ومن كسر تابو المُقدّس والقوة.
فقد كان مصير هذا اللون على مستوى الأدب الجزائري مصيراً قاتماً يكتنف إطلالته التي جاءت من بعض المبدعين على اِستحياء. وعلى الرغم من أهميته في إتاحة الفرصة أمام بعض الكُتَّاب في ممارسة التطهر أو التخلص من أعباء شكلت تجربتهم الحياتية، إلاّ أنّ العديد من العقبات تلاحق هؤلاء وغيرهم، ما بين اِفتقاد الشجاعة على البوح أو الخوف من التصادم مع المجتمع والّذي يرفض هذا البوح ويعدّه مجوناً، كما هو موجود في عوالم نجوم السينما ونجوم الرياضة، حيث تقود اِعترافاتهم الجنسية، أو تهرّبهم الضريبي إلى اِهتمامات واسعة من قِبل الجمهور النرجسي، ومن قِبل الجهات الرقابية، أو حتّى من قِبل بعض الجهات الدينيّة.
ويبقى اِعتراف الأديب مُختلفاً عن أي اِعترافٍ آخر، لأنّه يحتاج إلى الكثير من الشجاعة والحرية ليعري دواخله، كما يحتاج طاقة عالية، ليصبح مُناضلاً ومُجاهداً، يُبرز في تلك اللحظات تجربته المُتناقضة، وإن كانت متفردة، أمام القارئ، فحياة الأديب مليئة بالتحوّلات والأسرار الأكثر إيلاماً، وبفتح ذاكرته السريّة، تصبح وكأنّها عدسة خاصة للفرجة، وهو يُفكك مقاطع من حياته المجروحة، ويكشف ما كان بها من اِقتراف. يا لها من ضريبة.