الحديث عن علاقة المثقف بالميديا، ومكانته في الفضاء الميدياوي، يطول ويتشعب. كما يحيلُ إلى التساؤل عن دور المثقف الورقي/التقليدي وهل الثورة المعلوماتية التي نجحت في جعل المعرفة في متناول الجميع أضعفت سلطته وأثرت على الدور الّذي كان يتمتع به وهو دور نيابة تمثيل الجماهير والتعبير عن أفكارهم بلسانه، وبالتالي فقد تلاشى دور الوكالة الّذي كان يقوم به، وصار الأفراد في هذه المواقع -حسب الدكتورة سمية أوشن- يُعبرون عن أفكارهم بأنفسهم وفقًا لأنموذج «التمثيل الذاتي». كلّ هذا يطرح أسئلة أخرى عن علاقة المثقف الجزائري بالميديا، وكيف تعامل/ ويتعامل معها، وهل يمكن وصفه بالمثقف الميدياوي؟، وهل الثقافة الميدياوية لها تأثيرها وسطوتها على/ وفي الحياة الثقافيّة عمومًا، أم أن دورها محدودٌ ومُربك؟، أيضا، ما موقع المثقف التقليدي والكلاسيكي في خارطة ثقافة الميديا، وفي أجواء وفضاء المثقف الميدياوي؟، وإلى أي حد المثقف الجزائري اِنخرط في ثقافة الميديا؟
إستطلاع/ نـوّارة لحـرش
هذه أسئلة «كراس الثقافة» في ملف عدد اليوم، وفيه نقرأ إجابات بعض الكُتاب والباحثين الأكاديميين، من خلال مقاربات وآراء مختلفة ومتفاوتة في التصورات ووجهات النظر
* سمية أوشن/ أستاذة وباحثة في العلوم السياسية –جامعة صالح بوبنيدر– قسنطينة 03
الميديا أضعفت سلطة المُثقف التقليدي وقلصت من دور الوكالة الّذي كان يقوم به
يعيش العالم اليوم الثورة الثالثة في تاريخ البشرية بعد الثورتين الصناعيّة والزراعيّة، ويُطلق عليها «الثورة المعرفيّة» وأساسها التكنولوجيا، التي أصبحت ذات أهميّة كبيرة بالنسبة للدولة سواء داخليًا أو خارجيًا، حيث تجاوزت كلّ الحدود الجغرافية بين الدول، وحطّمت الكثير من الحواجز التي كانت تحد من الحركة والاِتصال بين الناس في أي مكان وزمان.
لقد كشف تقرير صدر سنة 2018 عن موقعي We Are Social و Hootsuite أنّ عدد مستخدمي الإنترنيت عام 2018 بلغ حوالي 4.021 مليار بزيادة تبلغ 7 % سنويًا، وبلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاِجتماعي في نفس السنة 3.196 مليار، أي بزيادة 13 % سنويا. ويُضيف التقرير أنّ الوقت الّذي يقضيه المُستخدم على الشبكة هو الآخر في تزايد مُستمر، حيث بلغ متوسط هذا الاِستخدام حوالي 6 ساعات في كلّ يوم، أي ما يُقارب ثُلث فترة اِستيقاظهم. وفي إحصائيات لأعلى معدل لاِستخدام الانترنيت في العالم لسنة 2017 جاءت قطر في المركز الأوّل تليها الإمارات العربيّة ثمّ الكويت.وهكذا تُساهم الإنترنت في نشوء مُجتمعات جديدة وعلاقات اِجتماعية بطريقة إلكترونية. ويتوقع العديد من المختصين أنّ الكمبيوتر وحده سوف يُشكل سلاح المستقبل، إذ يقول الباحث نديم عبده أنّ الحروب دائمًا ترتدي شكلا مميزا في كلّ عصر، حيث تستعمل فيها أنواع جديدة من الأسلحة. ولهذا فقد حذر خبراء ومفكرون ومنهم بيار بورديو وجورج لاكوف، من تأثير الميديا تأثيرا خاصيته التعدّد والتسارع، ما جعل دور المُثقف اليوم يتغير، حيث صارت الاِتصالات تقوم على مبدأ تجزئة القوّة التقليدية لمصدر المعرفة وتفتيتها إلى أجزاء يسهل وصول الأفراد إليها وتحول دون اِحتكارها من طرف المصدر القوي، ما يعني تعميم المعرفة وتسهيل الوصول إليها، كما عرف توزيع المعرفة تحوّلا اِنتقل بمقتضاه من الهرميّة العموديّة إلى الخطيّة الأفقيّة أي الشبكية، فتحوّلت من قوّة كانت حِكرا على النُّخب الثقافيّة إلى الجمهور، ليصبح المُتلقي في غِنى عن المُثقف الّذي كان مزوده الرئيسي بالمعارف، وهكذا نجحت الثورة المعلوماتية في جعل المعرفة في متناول الجميع وأضعفت سلطة المُثقف التقليدي، وهذا من بين الأدوار التي غيرتها وسائل التواصل الشبكي، وهي نيابة المثقف الورقي عن تمثيل الجماهير والتعبير عن أفكارهم بلسانه، وبالتالي فقد تلاشى دور الوكالة الّذي كان يقوم به المُثقف، وصار الأفراد في هذه المواقع يُعبرون عن أفكارهم بأنفسهم وفقًا لأنموذج «التمثيل الذاتي»، لأنّ المُثقف الرقمي اليوم لم يَعد بحاجة إلى رضى الناشر أو إلى سمعة علميّة تُتيح له نشر ما يكتبه.
ولهذا ينتج لنا ميلاد ذهنية جديدة وأدوار جديدة للمثقف اليوم، أخطرها التقليص من دوره في الدفاع عن الهوية، التي أصبحت هوية «مركبة» تستمد مقوماتها من مصادر مختلفة منفتحة على عوالم متعدّدة، تتلون بألوان التطورات الحديثة التي حولتها إلى هوية مهجنة. إنّنا نشهد اليوم أزمة غياب وتراجع دور المثقف التي تتمثل في العزلة التي يعيشها بعيدا عن مجتمعه كما أنّ خطابه أصبح غير مُؤثر ولا يُشكل أي تغيير. غياب المثقف اليوم هو تصحر مُبرمج وينتج عنه ثقافات وهويات اِفتراضية وكذا مجتمعات تخيلية، لكنّنا لا نعيب التكنولوجيا وهذه التطورات والثورات الرقمية لأنّ الإشكال يكمن في الاستخدام السيئ لها أو عدم القدرة على التحكم فيها.
* عبد الحميد ختالة/ ناقد وباحث أكاديمي جامعة خنشلة
مواقع التواصل هي الفضاءات التي أثبتت عدم خضوعها للسائد
يرتبطُ مفهوم المُثقف اليوم بمدى فاعليته في مجتمعه، إذ يمتلكُ من المُؤهلات المعرفيّة والتراكم الكافي من التجربة من أجل أن تكون له رؤية مفيدة وتحليل دقيق لكثير من المعضلات، وهو في ذلك يحتاج إلى مجموعة من الوسائط لإيصال أفكاره إلى السلطات الوصية أو حتّى لعموم الناس، ولعلّ أهم تلك الوسائط وسائل الإعلام الثقيلة لأنّها ببساطة تُوفر سرعة اِنتشار المعلومة وكذا هي ضامنة لوصول الرسالة كاملة صوتًا وصورة، لكنّي أجد بأنّ العملية لا تتم على ما يُرام في الجزائر. كما لم يحمل المُثقف هموم الهامش عندما أُتيحت له الفرصة في الظهور على شاشات الإعلام المُتكئ على المركز.
وكان علينا أن ننتظر الاِنفتاح الإعلامي الجديد الّذي شهدته الجزائر في المرحلة الأخيرة، حيث توسم فيه المواطن خيرا ليكون منبرا جديدا منفتحًا على الطاقات المثقفة الصامتة في دهاليز الهامش، لكن الحقيقة أنّ خيبة الأمل كانت أكبر عندما حافظ الإعلام الخاص على النسق القديم في تعامله مع صوت المثقف، فكانت سلطة الإعلام أكبر من صوت المُثقف، وبقي هذا الأخير يُمارس دور المُنفعل لا دور الفاعل.
ولكن قبل الحديث عن المثقف الميدياوي في الجزائر وجب الاِلتفات أولا إلى منابر الميديا من أجل خلخلة رؤيتها النمطية لدورها الإعلامي، فالفضاء الإعلامي المرئي في الجزائر لم يقتنع بعد بأنّه يشكل السلطة الرابعة كما في كلّ دول العالم، فلا الإعلام تمكن من فعله الحقيقي ولا المثقف استطاع أن يضع لأفكاره مخططا سليما لبلورة ثقافة ميدياوية ذات تأثير وفعّاليّة في المجتمع.
فعلا، لقد تمكن الفضاء الإعلامي في الجزائر من صناعة السياسي النجم وكذلك رجل المال النجم لكنّه فشل في صناعة المُثقف الميدياوي فضلا على أن يكون نجمًا.
إنّ المعوّل عليه في المرحلة الراهنة هو الفضاء الإعلامي الثالث الّذي ظهر بشكلٍ جليّ من خلال وسائط التواصل الاِجتماعي على شبكات الأنترنت، وهي الفضاءات التي أثبتت عدم خضوعها للسائد وتمكنت من الخروج من جبة النمطية لتفتح المجال واسعًا للمثقف الحقيقي من أجل أن يكون فاعلا في دوائر صناعة الوعي الاِجتماعي، وما يزيد في إعطائها الشرعية الاِجتماعية هو اِنخراط المُثقف التقليدي فيها واكتسابها لعدد كبير من المتتبعين بوفاء لمنجزاتها وتفعيلها الميداني لأفكارها.
* محمّد داود/ ناقد وباحث أكاديمي -جامعة وهران1
المثقف اِنخرط وانغمس في «ثقافة التواصل الجديدة» ولا يمكنه الخروج منها
يتميز عالمنا المُعاصر باِنتشارٍ رهيب لوسائل الاِتصال والإعلام التكنولوجية من فرط «اِنفجار إعلامي» كبير شهدته تسعينيات القرن الماضي، فإلى جانب وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية (صحافة مكتوبة وإذاعات وقنوات تليفزيونية وفضائيات متنوعة)، أصبحت الوسائل التكنولوجية للإعلام والاِتصال تُشكل ظاهرة عالمية، حيثُ يُمكن لأي شخص أن يتعامل معها ويتفاعل بواسطتها مع غيره، بحكم ما تمنحه له من حرية كبيرة في التعبير وسرعة في الاِتصال ونسج علاقات اِجتماعية قد تضيق وتتسع وِفقَ السياق والاِهتمامات. وبسبب أنّ هذه الوسائل التكنولوجية (إعلام آلي وهواتف نقالة ولوحات اِلكترونية، وغيرها...)، فقد أصبحت تملك أهمية كبيرة في حياة الأفراد والجماعات والهيئات والمؤسسات بالنظر لِمَا تُوفره من مزايا من خلال الاِنخراط في الشبكات الاِجتماعية (فيسبوك، ميسنجر، تويتر، انستغرام، يوتوب، وغيرها)، إذ تُستغل وتُوظف لأغراض مُتعدّدة ومتنوعة من قِبل الكل، للتعريف بِمَا يتم إنتاجه من اِبتكارات وسلع وأفكار أو الإعلان عن حسن الأداء في مجالٍ ما.
نحن الآن في مواجهة «ثقافة جديدة» في التواصل، تلجأ إليها كلّ الفئات الاِجتماعية والمهنية، بِغض النظر عن المرتبة الاِجتماعية، السن، الجنس، أو المهنة. والمثقف اِنخرط وانغمس فيها ولا يمكنه الخروج عن هذه القاعدة، فينشر أفكاره وإبداعاته ومواقفه من القضايا التي تشغل الرأي العام، بغية الإسهام في النقاش الفكري، الثقافي والسياسي، وأيضا مشاركة القُراء بكلّ ما يشغل باله من هواجس وكلّ ما يعيشه من تجارب يوميّة، يُقاسمهم الحلو والمرّ. فهذه الفضاءات الجديدة تمنحه فرصة لتجاوز عقبات وإكراهات النشر في الجرائد والمجلات والكُتب، كما تمنحه التواصل المُباشر مع القُراء، وبخاصة مع تناقص الإقبال على المطبوعات الورقية والمنشورات من كتب وصحف ومجلات. وبإمكان المُثقف أن يُنشئ مدوّنة خاصة به وكذلك عِدة صفحات وبمختلف الشبكات الاِجتماعية، للأغراض المذكورة بسبب موقعه وصفته. فهو فاعلٌ اِجتماعي يُشارك في الحياة العامة وقد يبحث عن النجومية والشهرة لكي يُسوق لنشاطاته ويُعرِّف بها كما ينشر صوره بفضل ما يملكه من «هوية رقمية» تتأرجح بين الهوية الحقيقية والهوية الاِفتراضية. وبِغض النظر عن الاِستعمال السيء من قِبل بعض المثقفين المزيفين الذين يُسممون هذه الوسائط بمنشوراتهم الداعية إلى الكراهية والتطرف والعنف والعنصرية وتُوظف ذلك في السب والشتم والقذف والمس بالحياة الشخصيّة للآخرين ونشر الأخبار الكاذبة التي تستغل الضعف الثقافي لبعض الفئات من المجتمع والتي قد يُستهدف المُثقف كذلك مثل غيره من الفاعلين في الحياة العمومية. ولعلّ المسائل الخلافية بين المثقفين والخلافات الشخصية والحزازات بين الأدباء بخاصة قد تجد في هذه الفضاءات صدىً كبيرا، وذلك بمناسبة منح الجوائز الأدبية أو غيرها من الأحداث الثقافيّة والسياسيّة التي تستدعي التدخل والمشاركة في إبداء الرأي. ولعلّ ما يثيره بعض الأدباء حول بعض الجوائز وقوائمها الطويلة والقصيرة، وما يطرحه بعض الكتّاب من جدلات حول علاقة التدين بالحياة الاِجتماعية والثقافية في الجزائر، وغيرها من النقاشات والأفكار من نقاد وباحثين في الأنبروبولوجيا وحول قضايا مختلفة تمس المجتمع يوضح إلى حدٍ كبير مدى اِستغلال الأدباء والمثقفين والباحثين والإعلاميين لمِثل هذه الوسائل التواصلية الجذابة، ومدى اِنخراطهم فيها.
* محمّد بكاي/كاتب وباحث أكاديمي –جامعة أبو بكر بلقايد- تلمسان
الميديا رفعت الحجب المخملية عن الأمراض الجديدة لبعض الـمثقفين
إذا اِنطلقنا من السّؤال الأخير حول مدى اِنصهار المُثقف الجزائري في الثقافة الميديائية المعاصرة، علينا الأخذ بعين الاِعتبار طغيان المدّ الميديائي وتأثيره قسرا أو طوعًا على المشهد الثقافي الجزائري في السنوات الأخيرة، والّذي لم يكتسح مجال الثقافة فقط بل مختلف الحقول الاِجتماعيّة والسياسيّة، وهو ما أثّر طبعًا على المُثقف الجزائري؛ إذْ ساهم في رسم سُبله وتوسعة اِهتماماته وإيصال صوته وأفكاره وأحيانًا صناعة جمهرة ميديائية اِفتراضية عريضة. الجدير بالاِهتمام أنّ الميديا الجديدة جعلت الحركات الثقافيّة بمختلف ألوانها واتجاهاتها، تظهر بحرية، حيث كلّ شيء يطفو فوق الأثيرية الرقمية للميديائية.
إذا كانت الـميديا مرتعًا للاِختلاف فهي بؤرة للخِلاف أيضا؛ فقد رفعت الميديائية الحجب المخملية عن الأمراض الجديدة لبعض الـمثقفين، حطّمت أوثانهم وأسقطت أقنعتهم، كشفت عن بربرية خطاباتهم، وشيوع شيخوختهم الثقافية وترهّلهم الفكريّ، أظهرت الـميديا البُعد المكبوت داخل رواسب المُثقف الّذي لم يتصالح بعد مع نفسه، عرضت بكلّ شفافية حمّى من الفوضى والشر الراديكالي الّذي يفترس الكل؛ كلّ شيء يتدفق داخل ما لا يمكن حبسه أو إيقافه. في دائرية تكرارية لا تنتهي، فالميديا ستفضح بشكلٍ كوني عُقد المُثقف وضيق أفقه.
كما أنّ الـميديا كانت فرصة لتكريس التفاهة وتفريخ الخطابات الجوفاء المتملّقة التي تبحث عن شهرة أو ولاء، وأحيانًا أصبحت ملعبًا لاستعراض النرجسيات الـمجروحة للمُثقف (التفاخر، وجنون العظمة، ووهم اِمتلاك الحقيقة)، خِطابات تغيب عنها الحذاقة العقلية التي تُميز المُثقف ودوره النقدي المُهم، أمام نجومية الميديا أفل المعنى وغابت المقاصد العُليا للتفكير. بعبارةٍ أخرى، اِندمج المُثقف الجزائري في الميديائية بحكم الحفاظ على بقائه وإبراز إنتاجه أو إيصال أفكاره. كما ساهمت الوسائطية إيجابًا كوسيط يربط مختلف طبقات الـمثقفين الجزائريين وتعرّف بعضهم على البعض الآخر. يُمكننا وصف المُثقف اليوم بالميدياوي؛ لأنّه منغمس في مختلف المنصّات الرقمية (عبر الجرائد أو التلفزيون أو الفايسبوك والتويتر)، يبثُ اِحتجاجاته وتصوراته وقناعاته ويُظهر مواقفه، لترسم الميديا شبكات تفاعلية بينه وبين المتابعين.
هنا أركّز على أمر مُهم وهو أنّ الوسائطية الجديدة تملك دورا حساسًا في إطلاق شهرة المُثقفين والمساهمة بقوّة في تكريس أفكارهم وبثها في تسارع معلوماتي (اللايكات والمشاركات بين المنتديات والمجموعات)... السؤال الّذي يُطرح: هل بإمكان المُثقف الجزائري الآن التخلّي عن السلطة الناعمة للحضانة الإعلامية الجديدة؟ هل أصبحت تُمثل شرعيته الثقافيّة الجديدة لإثبات حضوره وصوته؟ هل الثقافة في شكلها الميديائي تُـجرّد المثقفين من قضاياهم الفكرية المهمة وتجعلها عبارة عن قوالب وصور وسيل معلوماتي رتيب ونمطي لا عُمق له. كما قال بودريار الكثير من المعلومات أمام القليل من المعنى. لا شكّ أنّ الـمثقّف الجزائري الآن أمام رهانٍ جديد هو الميديائية التي تختزل العُمق الثقافي والجوهر الفكري للإنساني أمام قبضتها الوحشية.
* بومدين بلكبير/ روائي وأكاديمي
الحديث عن مُثقف ميدياوي في بيئة جزائرية مجرّد كلام مُنفصل عن واقعه
الحديث عن مُثقف ميدياوي في بيئة جزائرية مجرّد كلام مُنفصل عن واقع وظروف هذا المثقف، فهذه الظاهرة تفشّت في المجتمعات الغربية مع ظهور نماذج جديدة من المثقفين غير الفعّالين في مجتمعاتهم، والبعيدين بشكلٍ كبير عن تطلعات وآمال الناس، وقد ساعد على بروزهم بشكلٍ لافت تطور الميديا وثقافة الماركيتينغ على حساب الجوهر؛ تجدهم يُثيرون كلّ القضايا ويتكلمون بكلّ المواضيع مهما اِختلفت التخصصات، ولا تهمهم الأفكار أو القضايا الكُبرى بقدر ما يهمهم التسويق لأنفسهم كأشخاص خارقين أو كآلهة جُدد.
علاقة المُثقف الجزائري بالميديا، علاقة غير مُتكافئة، ومشوّهة، ومُعتلّة بشكلٍ مُزمن، فلا نجده حاضرا بشكلٍ دائب في المنابر الإعلامية، ولا نسمع له تدخلات منتظمة في القضايا المُستجدة، لأنّ الميديا لا تحترم ولا تعترف بالمُثقف الجزائري، ولا تلتفت للمُثقف إلاّ نادرا (مُثقف السلطة، أو تلك الفئة من المثقفين الذين يتشدقون أمام الناس وعلى وسائل التواصل الاِجتماعي بآراء جريئة ويتظاهرون بالبطولات الدنكوشتية، في حين تجدهم أمام الميديا يُصرحون بمواقف تُناقضها تمامًا، ويتحولون بقدرة قادر إلى مجرّد كائنات منصاعة وخانعة).
كما أنّ الميديا أو القنوات الفضائية في بيئاتنا العربية والجزائرية لا تُوظف المُثقف إلا كبوق أو كخادم، ينصاع للأوامر والتوجيهات، ويقدم خدماته في صياغة أطروحات معينة ونشرها، فنجده في الفضاءات النادرة التي تتيحها له الميديا: يسهر على رعاية المعنى الجاهز كما تصدره المؤسسات الرسمية، كما نجده غير مُتحرّر من الولاء والتبعية.
* محمّد الأمين بن ربيع/ روائي وكاتب مسرحي
المثقف الميدياوي غائب لحداثتها في المجتمع الجزائري
منذ عشر سنوات مضت كان الكاتب يُعوّل على الملاحق الأسبوعية في الصُحف أو المجلات والدوريات للتعريف بكتاباته، في وقت كان الظهور في التلفزيون أو على أمواج الإذاعة يُعدّ حدثًا نادراً، ويخص نخبة من الكُتّاب البارزين، مضى ذلك اليوم وصارت تلك الوسائط التي عزّت على الكاتب في يومٍ ما تُجاهد لتُحافظ على حضورها لدى جمهور المتلقّين، وسط المنافسة العنيفة التي تُواجهها مع وسائط جديدة أكثر عصرنة وانفتاحًا على العالم. الميديا اليوم ظاهرةٌ بارزة لا يمكن تجاوز حضورها الطاغي في كلّ تفاصيل الحياة العادية، ناهيك عن الحياة الثقافيّة التي تتطلب وسائط مُتعدّدة للوصول إلى أكبر عدد مُمكن من شرائح المجتمع، هذا المجتمع الّذي صار لصيقًا بالميديا وما تُقدّمه، يتفاعل معها سلبًا وإيجابًا، تأثيرا وتأثرا، ولذا صار من الطبيعي أن نجد المثقف الجزائري وهو يسير وفق ناموس المجتمع المُعاصر، غير مُفكر في معاكسته ولا الوقوف في وجه تياره العاتي الّذي صار يُهمش كلّ من لا يُواكبه، فالمُثقف الّذي لا يمتلك حسابًا على الفيسبوك أو التويتر أو الأنستغرام، هو بالضرورة مُثقف بعيد عن الحركة الدؤوبة التي يشهدها الوسط الثقافي، إذ لا يمكن أن يصل المُثقف إلى كلّ المتابعين اليوم وهو لا يملك ولو حسابًا واحدا يجعله مُتاحًا لجمهور الثقافة، حتّى أنّ الكثير من المثقفين يُحاولون البقاء في الواجهة دومًا من خلال حضورهم عبر الميديا بالنشر المُتعلق بإنتاجاتهم أو حتّى بيومياتهم، فالميديا اليوم لا تُقدم المُثقف بوصفه كائنًا أثيريًا يَمرُ عبر أمواج الإذاعة لا يكاد المتابعون يتصورون شكله، بل صار مُتاحًا للمتابع أن يعرف خصوصيات هذا المُثقف بفضل الميديا، وهو الأمر الّذي جعل المثقف يقترب أكثر من ذي قِبل من المتابع والقارئ، وذلك الحاجز الّذي كان يحول بينه وبينهم قد زال بفضل وسائط الميديا، ولعل الوسط المثقف الجزائري لا يشذّ عمّا يحدث في العالم ككلّ، بل نرى من بين المثقفين الجزائريين بخاصة الكُتّاب وقد تحلوا بنشاطٍ فريد وهم يتفاعلون بالميديا ومن خلالها، حتّى أنّنا قد نجد بعضهم وقد جعل من صفحته على الفيسبوك أو حسابه على التويتر منصة لتقديم جديده، من خلال نشر مقتطفات مِمَا يُبدع ليجس من خلالها نبض المتابعين وتفاعلهم مع ما سيقدِّم. غير أنّ الّذي يُعاب على الميديا أنّها لا تقدم الحقيقة كاملة، فالتفاعل الكبير الّذي نراه في وسائطها، لا نجد له حضورا فعليًا على أرض الواقع، وهو ما يجعل بعض المثقفين لا يُؤمنون بالدور الّذي تُقدمه الميديا ويرونها مجرّد وسيلة اِفتراضية تُقارب الواقع لكنّها لا تشبهه، لذا قد يُعرضون عن اِستخدامها ويلوذون بالنمط الكلاسيكي في الاِنتشار من خلال تقديم الندوات والمداخلات ومواصلة النشر عبر الوسائط التقليدية كالصُحف والمجلات، ويرون أنّ لتلك الوسائط جمهورها الوفي الّذي بإمكانهم المراهنة عليه دون الخوف من خسارة الرهان، ولعل فيما يذهب إليه هؤلاء بعض الواقعية، إذ أنّ المُتلقي الجزائري لا يزال بعيدا عن الإيمان بدور الميديا في مجتمعه ويتعامل معها من منطلق الأداة المسلية لا الوسيلة المؤثرة إلاّ في النادر وفي حالات قليلة، وهو ما يجعلنا نقف على نقطة هامة وهي غياب المثقف الميدياوي في الجزائر، ليس لعجزه عن التحكم في الميديا أو اِستغلالها لصالحه، إنّما بسبب حداثة هذه الميديا في المجتمع الجزائري، مِمَّا يعني أنّنا قد ننتظر وقتًا آخر حتّى نرى المُثقف الميدياوي والجمهور الّذي يعترف به والأهم من ذلك أن يتأثر به، ويُساعده على الاِنتشار بشكل إيجابي يكون تأثيره قادرا على الوصول إلى قلب المجتمع.
* خليل بن الدين/ كاتب وإعلامي
لم يستطع المُثقف في الجزائر بناء جسر معرفي صلب وأكيد مع الميديا
هل للمُثقف الجزائري خصوصية ما في علاقته مع الميديا، هذه التي تحمل في المعنى الشامل للكلمة، مفهوم الاِنتشار، كغاية يرومها المثقف، أو يقصدها، في رحلته للبحث عن التأثير، أو عن التماس مع المتلقي، الّذي لم يعد هو القارئ فقط، في عصر اِنتشار وسائل التواصل ذات التدفق العالي، وغلبة الصورة والمؤثرات البصرية على الكلمة؟
لو عدنا قليلا إلى الوراء، لوجدنا أنّ علاقة المُثقف الجزائري منذ الاِستقلال، وإلى غاية 1990، كانت ترتبط اِرتباطا وثيقًا بوسائل الإعلام الرسميّة، كالإذاعة والتلفزيون، أو الجرائد، والتي كانت تُعد على أصابع اليد الواحدة. لقد كانت هذه العلاقة، تتلون بحسب صِلة المُثقف بالسلطة، أو بالمشروع السلطوي يومها، حيث كانت تلك العلاقة، تنعكس على المسرح والسينما، أو الأدب، لتهتم بها الميديا الرسميّة، بقياس مدى قربها من «النهج الاِشتراكي» يومها. أمّا المغردون خارج سرب مشروع السلطة، فلم تكن لهم حظوة في الحضور الإعلامي، إلاّ فيما ندر. إذ أدى ذلك الهجر «الميدياوي» إلى اِنكفاء الكثير من المثقفين، إمّا داخل أسوار الجامعة، كمدرسين، أو في يوميات الإدارة الكئيبة، بعيدا عن التحوّلات الاِجتماعية. لقد كان «المُثقف النجم» إن صح التعبير، مُنخرطاً في مشروع مجتمعي، صُنع في آلة السلطة، ولم يكن في إمكانه، إنجاب تيمات أخرى تشذ عن قاعدة «المُثقف الموظف».
تعدلت هذه النمطية بعد العام 1990، حينها وجد المُثقف الجزائري نفسه، في علاقة إكراه من نوعٍ آخر، فبعد فترة قليلة من البزوغ الإعلامي، لم تدم إلاّ عاما ونيف، اُضطُر المُثقف مرّة أخرى، إلى الاِنكفاء داخل أسوار التهديد، تهديد إيديولوجي، واصطفاف معرفي. طال أمد هذه المدة، وإن حاول بعض المثقفين، في التسعينيات من القرن 20، تحدي الاِصطفاف، الّذي كان يمثله التيار الإسلامي، وسطوّة السلطة. وحاول البعض، المناورة على هذا الحبل من التناقضات، ففشل الكثير منهم، وآثر بعضهم، الرحيل عن الجزائر، ومن بقي منهم، فرض على نفسه حصارا إعلاميًا مديدا، لم ينفك منه، إلاّ بعد جلاء التهديد الجسدي المُباشر.
لم يستطع المُثقف في الجزائر، في كلّ الحالات بناء جسر معرفي صلب وأكيد مع الميديا، وفي المنابر الإعلامية الخاصة، لم يُقابله اِهتمام بالمثقف، ولا بالثقافة. فأهل الصُحف، وأكثرهم من أصحاب المال، أو من جماعات الضغط، والقرب من مراكز القرار، لم يكن في وارد تفكيرهم، الاِهتمام بالرفع من مستوى الإعلام، الذي تدهورت أدواته، فما بالك بالاِهتمام بالمُثقف والثقافة. في هذه العتمة خلق بعض المثقفين لأنفسهم، جيوبًا من نور، في بعض الصُحف الخاصة القليلة، أو في الصحف العامة. ولعلّ في تجربة جريدتي «النصر» و»الجمهورية» على سبيل المثال، واللتين واظبتا لأعوام طويلة، ودون كلل، على إصدار ملحقات ثقافية وأدبية، اِستثناءً إيجابيًا.
تبقى وسائل التواصل الاِجتماعي فضاء آخر حاول بعض المثقفين، والشباب منهم خاصة، التحليق في أرجائه، وأعطى هذا الفضاء بالفعل، أجنحة لبعض الأسماء، كسرت بها حاجز الاِقتراب من الصحافة التقليدية، ومنحت لها، فرصة اللقاء الاِفتراضي مع الجمهور، والاِنتشار «الميدياوي» إن جاز أصلا تسمية التواصل الاِجتماعي، فضاءً إعلاميًا. ولكنّها تجربة تحتاج إلى تأطير منهجي. فسطوة التدفق العالي في «الميديا الشعبية»، أدى إلى زحام الغث بالسمين، تحولت معه عادة الاِستهلاك المفرطة، إلى حالة من صناعة الوعي العام، وتشكيل الحقيقة، بأشكالٍ هجينة ومائعة، لا تملك معها النُّخب الثقافيّة، إلاّ السعي الدؤوب، لإعادة تأصيل جديد، للفعل الثقافي والإعلامي، بعيدًا عن التمجيد الظاهري المُفرط، للأسماء ذات الأوعية الفارغة.