هكذا قضت التجارة على المقاهي و النوادي الثقافية بقسنطينة..
مارست قسنطينة طيلة سنوات، قطيعة شبه مطلقة مع المقاهي و النوادي الثقافية و الأدبية التي كانت جزء من الحياة العامة منذ بداية القرن المنصرم، قبل أن تدخل في ما يشبه السبات الثقافي الذي استيقظت منه لكن بكسل، بعد اختيارها عاصمة للثقافة العربية سنة 2015، حيث قدمت مكتبة ميديا بلوس جرعة أوكسجين لرئة الثقافة المنكمشة، و بدورها أسست المكتبة العمومية للمطالعة ناديها الخاص،و كذلك فعلت دار الثقافة مالك حداد ، بافتتاحها للمقهيين الأدبيين حليمة تواتي و المجاز، غير أن الحركية ظلت شحيحة، بعدما عجز مثقفو سيرتا، على إحياء روح النوادي و المقاهي القديمة.
هنا يتقاطع الدين مع الإنسانية و الثقافة
أوضح الباحث في التاريخ الدكتور عبد العزيز فيلالي، بأن «مدينة قسنطينة عرفت إنشاء النوادي الثقافية و العلمية و الفنية من قبل نخبتها ابتداء من نهاية القرن 19، لنشر العلم و الصنائع و الحرف و الثقافة بين أبناء المدينة، ومساعدة الفقراء و استقبال الحجاج و كانت النوادي تعقد فيها المسامرات و المحاضرات و الندوات الفكرية و السياسية و الأدبية و الفنية، و يؤمها المثقفون و الطلاب من المدينة و خارجها، كما كانت تستقبل محاضرين من تونس و المغرب، وكانت تشتمل أيضا على مكتبة تضم الكتب و المجلات و الجرائد لتشجيع المطالعة».
نادي صالح باي
يعتبر نادي صالح باي الأقدم بمدينة قسنطينة، حسب الأستاذ فيلالي، حيث أنشئ في 16 أفريل 1898، و مقره السابق بالسويقة، و تحديدا بنهج عبد الله باي رقم 10، وهو نفس النهج الذي ولد فيه الإمام عبد الحميد بن باديس، في البيت رقم 15.
ساعد في إنشاء المرفق، رئيس مجلس العمالة السيد « أريب» و ترأس الجمعية الخيرية الوالي العالم «جونارت « ، و من أهداف النادي، إحياء ما نسي من الصنائع و الحرف و إقامة الندوات و المحاضرات و تكريس المطالعة، وقد ذكر الباحث، بأن مقره تحول إلى معمل للملابس، لكننا زرنا المكان خلال انجازنا لهذا الروبورتاج، و اتضح لنا، بأنه لم يعد موجودا ، و قد يكون انهار بانهيار البنايات القديمة، أو تحول إلى محل تجاري غير معروف.
نادي السعادة تحول إلى مخبزة للحلويات و المرطبات
يقع نادي السعادة في نهج حملاوي حاليا « لا ري كاورو سابقا»، في نهاية النهج القريب من رحبة الجمال، زرناه أيضا، خلال استطلاعنا الميداني، فاكتشفنا أنه تحول إلى مخبزة صغيرة لبيع الحلويات و المرطبات.
أسس النادي، في 17 أوت 1925، و كان يترأسه طبيب الأسنان الدكتور محمد زرقين، و ألقى فيه العلامة عبد الحميد بن باديس محاضرات عديدة ، على غرار محاضرة بعنوان « تاريخ النوادي و تأثيرها على الأمم».
نادي الاتحاد ذاكرة التهمتها التجارة و أخرى تحفظها مطبعة الصخرة
قام بإنشاء نادي الاتحاد نخبة من أهل الفضل والأدب و الثقافة، كما قال الأستاذ عبد العزيز فيلالي، و مقره البناية المجاورة للبنك المركزي الجزائري، و يقع فوق المقهى التي كانت تعرف باسم « فوري»، ثم مقهى النجوم، وهو موقع مطل على ساحة أول نوفمبر « نمور «حاليا، أسس في 16 جويلية 1932 ، برئاسة الحكيم محمد الصالح بن جلول و محمد زرقين و بن شيكو عمر.
كان عبد الحميد بن باديس، يحاضر فيه كل أسبوع، و يجتمع فيه بالحجاج كذلك، و في أفريل 1933، حول مقر النادي إلى بناية أخرى توجد في آخر نهج العربي بن مهيدي، قبالة باب القنطرة بساحة ويلي الساسي، أين استغل جزء منه كفضاء لمطبعة « الصخرة»، قبل أن تلتهم التجارة بمحلاتها، ذاكرة المكان.
نادي عبد الحميد
بن باديس من مقر كشفي إلى محل للوازم الخياطة
جولتنا قادتنا أيضا، إلى مقر نادي عبد الحميد بن باديس، الذي يقع في درب رابلي بنهج العربي بن مهيدي، قبالة « الجامع الكبير»، بدأت فكرة تأسيسه مع الذكرى الخامسة لوفاة العلامة سنة 1945، وقد أطلقها نخبة من أهل المدينة و بعض أعضاء جمعية التربية و التعليم و شعبة جمعية العلماء بقسنطينة، وقد قام حزب أحباب البيان و الحرية بشراء المقر آنذاك، إلا أنه دشن في الذكرى السابعة لرحيل الإمام، في أفريل 1947، و ترأسه عبد الحميد درويش و كان الحاج حمروش كرماني نائبا له، سألنا عدد من سكان البناية عن مصير المقر، فقيل لنا أنه استغل خلال فترة معينة من قبل الكشافة الإسلامية الجزائرية، و دلونا على واجهة أصبحت اليوم مدخلا لمحلات تختص في بيع لوازم الطرز و الخياطة.
من فنادق المدينة القديمة إلى مقهى «رويال»
الدكتور عبد الله حمادي، أوضح من جهته ، بأن فنادق المدينة القديمة، كانت تعتبر ملتقى للفنانين و الشعراء بقسنطينة، مشيرا إلى أن تلك المراقد التي وجدت سابقا بين أزقة المدينة العتيقة، تعتبر اللبنة الأولى لمفهوم النوادي و المقاهي، أو على الأقل كانت تمثل الشكل التقليدي الذي تطور لاحقا، ليقدم لنا بصفة عصرية يجسدها على سبيل الحصر «نادي السعادة» أو «مقهى ريش».
ويقول المتحدث، بأن النوادي انتشرت إبان الاستعمار الفرنسي، و تطورت بتطور دور هذه المرافق، التي اعتبرت دائما ملتقى للمثقفين و المفكرين و المناضلين، فقد ساهمت في نشر الوعي المجتمعي من خلال إشراك الشعب في المحاضرات و بسطت مفهومي الثقافة و الأدب و قربتهما أكثر للناس، كما كانت أيضا ملتقى لأعضاء الحركة الوطنية السرية، مؤكدا بأن هذا النوع من النوادي ظهر خلال مرحلة المقاومة السياسية و الثقافية في الفترة بين الحربين العالميتين مع ظهور و انتشار الصحافة والأحزاب و الجمعيات.
إلى جانب النوادي، ذكر الباحث، بأن المقاهي الثقافية، لعبت دورا محوريا في تنشيط الحركة الأدبية و الثقافية و الفنية في قسنطينة، وكانت ملتقى للنخب على غرار مقهى «السعادة» الذي كان مقره نفس مقر نادي السعادة بنهج حملاوي، القريب من رحبة الجمال، إضافة إلى مقهى «الحفصي» و موقعه سابقا البناية الواقعة على يسار مدخل السويقة عند حدود جسر سيدي راشد، إضافة إلى مقهى « الهواة» الذي كان ملتقى للفنانين، و مقهى «الجزوة»، أين كانت تحضر القهوة على الجمر ، ناهيك عن «كولومبوس»، و كلها مقاه وجدت إبان الثورة و بعد الاستقلال. من بين المقاهي التي اكتسبت وزنا ثقافيا منذ الاستقلال، ذكر أيضا مقهى ريش «كافي ريش»، بحي القصبة، وهو واحد من محطات اللقاء الأدبي الهامة، كان يتردد عليه الكثير من المثقفين، و قد أغلق لسنوات وعاد ليفتح أبوابه مؤخرا، حيث اختارته جمعيات ثقافية محلية لتنظيم جلسات أدبية و مناقشة الكتب و لقاء الكتاب.
مقهى النجمة تاريخ طويل طمر بحجة الثقافة
يعتبر مقهى «القفلة» أو «النجمة»، الأشهر على الإطلاق بقسنطينة، ارتبط اسمه بالفن و الثقافة و النضال، فقد كان، حسب الباحث، مقرا للقاء أعضاء الحركة الوطنية السرية، و يعود تأسيسه إلى سنة 1928، على يد الحاج خوجة لعجابي المعروف باسم الحاج «قفلة»، و يقع هذا المحل الصغير بجوار «المدرسة « بشارع العربي بن مهيدي، و تحديدا بساحة الشهيد محمد الطاهر لعجابي، تردد عليه الشيخ عبد الحميد بن باديس كثيرا، وكان يقصده هواري بومدين و رابح بيطاط و إسماعيل حمداني و محمد بوضياف، لمراجعة دروسهم في الركن المعروف بـ « السدة». و يكمن سر شهرة «النجمة» في أنه قريب من الفنادق القديمة بحي الشط، وهي أماكن كان يجتمع فيها الفنانون للتدريب و الغناء، قبل أن يجتمعوا مجددا في المقهى للسمر و الدندنة ، من بينهم الشيخ زواوي الفرقاني ، محمد براشي و محمد بن جلول و غيرهم. اليوم تحول المقهى إلى ذكرى، بعدما طاله الإهمال و التخريب، فقد برمج للترميم خلال تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، لكن الأشغال توقفت و أغلق المكان بعد أن تم تهديم أجزاء منه.
مقهى ساحة سي الحواس
أضاف الدكتور حمادي بأن مقهى ساحة سي الحواس، أو « لا بلاسيت»، تعتبر من بين أهم المقاهي التي كانت ملتقى للمثقفين و الأساتذة، و عاد بذاكرته إلى جلساته بذات المقهى خلال سبعينات القرن الماضي، عندما كان شابا رفقة الشاعر أحمد الغوالمي، و الشيخ المولود مهري، الشقيق الأكبر لعبد الحميد مهري، و الشيخين بو الزرد و الرهيوي، و هما معلمان بمدارس جمعية العلماء المسلمين.
مقهى «روايال» وسقوط آخر القلاع
و تعتبر مقهى «روايال»، المتواجدة بالقرب من مقر مديرية التربية بوسط المدينة، آخر قلاع الثقافة، حسب المتحدث، إلا أنه أغلق مؤخرا، لأجل التهيئة أو ربما لتغيير نشاطه، كما قال، مشيرا إلى أن هذا العنوان كان إلى وقت قريب، ملتقى الكثير من المثقفين و الفنانين و التشكيليين و الأساتذة، وهو مرفق يرتبط بذكرى حياة الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي كانت صوره تزين جدران المكان بحكم مصاهرته لأحد ملاكه.
هدى طابي