لا يخلو أرشيف السينما العالمية من أفلام اتخذت من الأوبئة الفتاكة على غرار السل والكوليرا والطاعون ثيمة أساسية لها، وغالبا ما بنيت سيناريوهات هذه الأفلام عن طريق المزج بين مخيال الناظم السينمائي وبين أحداث حقيقية وقعت أزمنة انتشار الأوبئة، لكن الأمر اختلف تماما في فيلم الخيال العلمي عدوى Contagion الصادر عام 2011 حيث لم تقتبس قصته من وباء تفشى في فترة ماضية بل جاءت أحداثه استشرافية محاكية لما يعايشه العالم اليوم إثر انتشار فيروس كورونا كوفيد covid19.
أ - سارة وشفون
وبالرغم من أن عدوى Contagion يصنف ضمن أفلام البطولات الجماعية لكونه يضم أهم نجوم هوليود من أمثال مات ديمون، وجود لو،جونيث بالترو، كيث وينسلت.. إلا أنه حظي بإقبال عادي سنة عرضه، كما نال المرتبة الحادية والستين من حيث الأرباح المحققة في جميع أنحاء العالم، لكن بعد انتشار فيروس كورونا صار الأكثر مشاهدة على المنصات الرقمية وهذا بحسب تصريح شركة وارنر، مع تقدمه إلى المركز الثالث على موقع iTUNES في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن كان يحتل مراتب متأخرة، بالإضافة إلى ذلك قامت العديد من المنصات الرقمية العربية الشرعية وغير الشرعية بإضافته لقائمة الأفلام الأجنبية المفضلة.
وتدور حبكة الفيلم حول إيجاد لقاح لفيروس معدي يسبب أعراضا تشبه أعراض الرشح وينتقل عن طريق اللّمس ورذاذ اللّعاب ويتسبب في قتل ملايين البشر عبر العالم في غضون أشهرّ، ويتضح ذلك في اللقطة الافتتاحية للفيلم التي تبدأ بصوت سعال سيدة أعمال يعرف فيما بعد من السياق الدرامي أنها المريض رقم0 الذي انتشر من خلاله الفيروس بعد أن التقطته أثناء رحلة عمل لها في هونغ كونغ بالصين، يعقب الافتتاحية سرد بصري تتوالى فيه مجموعة من اللّقطات القريبة والمتوسطة التي تركز على الأسطح وأزرار المصاعد، ومقابض الأبواب وكل ما يمكن للإنسان لمسه دلالة على أن هذا الفيروس يعيش على الأسطح وينتقل عبر اللمس؛ وهي نفس طرق انتشار فيروس كورونا.
يتحرك سيناريو الفيلم بطريقة متوازية و وفق مسارات متزامنة وذلك من خلال رصد ردود أفعال مختلف الشخصيات الفاعلة فيه حول هذه الكارثة العالمية، ويتبيّن ذلك بإظهار التطورات الدرامية والانفعالية لأغلب الشخصيات كحالة الخوف و الارتباك التّي سيطرت على شخصية زوج المريضة رقم0 حين خسرها هي وطفلها، ثم سعيه لصلب طوله بغية حماية ابنته الوحيدة لأّنها كل ما تبقى له في الحياة، لقد عبر الممثل (مات ديمون) من خلال دوره هذا عن حال ملايين البشر المحتجزين في بيوتهم حاليا بسبب الحجر الصحي لكورونا و استماتتهم لحماية أحبائهم.
في مشاهد موازية يظهر الدكتور اليس شيفر (لورنس فيشبورن) والذي يمثل شخصية حساسة في مركز السيطرة على الأمراض، شخصيته هنا تسعى جاهدة لإظهار آلية تحكم الدوائر الحكومية الأمريكية للأزمة البيولوجية التي ألمت واعتبارها جزءا من حرب بيولوجية تستهدفها، وهذا الفرض هو نفسه الذي يتبناه الكثيرون اليوم حيث يرتاحون لفكرة أن ما يحصل هو نتيجة حرب بيولوجية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية؛ وما يدعم هذا الطرح هو اعتقاد بعض العلماء والمفكرين أن الصين تآمرت على العالم أجمع بعد أن ضخمت من أزمة انتشار المرض في مدينة ووهان –تعد اهم المدن الصناعية في العالم- وتأثيرها على اقتصادها الذي تراجعت مؤشراته بشكل كبير مع انخفاض الأسهم في البورصة بـ 400 مليون دولار في اليوم الواحد، مما دفع الكثير من المستثمرين الأجانب إلى بيع أسهمهم وبأسعار رخيصة جدا للحكومة الصينيةـ بالإضافة الى شرائها لسندات حكومية كانت قد باعتها سابقا لأجانب من خلال ضخ البنك المركزي الصيني حوالي 173 مليار دولار، وكأنها قامت بعملية تأميم لمؤسساتها الاقتصادية واستعادة ملكيتها لها، لتخرج فيما بعد أقوى مما كانت عليه معلنة سيطرتها على الوباء وعلى الاقتصاد معا.
وتبرز في الفيلم شخصية آلان كرومويد (جود لو) وهو عالم مؤامرة نشر مقطعا في مدونته يدعي فيه الإصابة بالفيروس ثم ينشر لاحقا مقطعا جديدا يدعي فيه الشفاء بعد تناوله لمكمل عشبي مشتق من نبات الفورسيثيا، مما يجعل الناس يتهافتون على الصيدليات لشراء هذا المكمل، ليتضح في النهاية انه اتفق مع مستثمري فورسيثيا لزيادة ارباحهم مقابل الحصول على أرباح شخصية تقدر بـ4 ملايين دولار، وهذه الشخصية الدرامية بالتحديد لها الكثير من شبيهاتها في العالم الحقيقي جراء انتشار وباء كورونا ففي كل بلد يخرج محتال أو عالم دجال يدعي امتلاك لقاح ضد الفيروس فيشتهر عبر الصحف والقنوات التلفزيونية والمنصات الاجتماعية مما يدفع الكثير من الناس الى التصديق والايمان بعلمه المزيف.
أفرد السيناريست (سكوت بورنز) مساحة كثيفة لشخصية الطبيبة ليونورا أورانتيس (ماريون كوتيارد) المختصة في علوم الأوبئة بمنظمة الصحة العالمية والتي سافرت إلى هونغ كونغ لتتبع مسار المرض والوصول الى المريض رقم0، لكن أثناء أدائها لمهمتها يتم رهنها من طرف فنغ وهو الطبيب الصيني الذي كان يساعدها في مهمتها، ويشترط الحصول على اللقاح لسكان قريته مقابل إطلاق سراحها، بعد أشهر يصل اللقاح ويطلق سراحها لكنها تكتشف من زميلها أنه تطعيم مغشوش فتعود إلى القرية محذرة الجميع من تناوله. إن تواجد هذه الشخصية في الفيلم يعكس ضرورة تكاثف أطباء العالم لمواجهة أي كارثة ببيولوجية، وهذا ما حصل بالفعل حين أرسلت الصين عددا من أطبائها لأكثر من بلد، و أرسلت كوبا فريقا مكونا من 52 طبيبا وممرضا لمساعدة الفريق الطبي الإيطالي بلومبارديا التي تعد الأكثر تضررا إلى ساعة كتابة هذه الأسطر، فالدور النبيل للأطباء يحتم عليهم إنقاذ أي مريض بعيدا عن عرقه أو دينه او إيديولوجيته، لأن الإنسانية هي الثابت الوحيد والباقي متغير.
ولأن مهنة الطب جوهرية في الفيلم جسدت الممثلة كيث وينسليت في دور ارين ميرز الصورة الملائكية للطبيب الذي يخسر حياته أثناء ممارسة مهنته، بعد اصابتها بالعدوى في إحدى المعسكرات لتدفن فيما بعد في مقبرة جماعية، وهذا نفسه ما يعيشه الأطباء اليوم خاصة إيطاليا التي خسرت 63 من جيشها الطبي.
تنفرج حبكة الفيلم بقدرة الطبيبة هيكستل من التوصل إلى لقاح ضد مرض MEV-1 واختبار فعاليته عن طريق حقن نفسها به وذلك كي تسرع من مراحل اختباره وبداية تطعيم الناس به، وفي هذا إشارة قوية إلى أن التطور العلمي هو السلاح الوحيد الذي سيمكن البشرية من خوض العديد من المعارك الشرسة مع الفيروسات التي تعتبر العدو الأقدم والأشرس في تاريخ البشرية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المكان في الفيلم ليس مجرد فضاء يحوى الحدث الدرامي وإنما هو عنصر فعّال له دلالته الكبيرة ويتضح ذلك من خلال جعل الصين مركزا لانتشار الوباء في العالم وهو ما وقع بالضبط مع انتشار فيروس كورونا، مما يثير الشك في مدى مطابقة سيناريو متخيل كتب قبل تسع سنوات مع جائحة عالمية فتكت بآلاف البشر في عصرنا هذا.
تضمن الفيلم كذلك عرض متتالية صورية لمساجد خاوية، ومراكز تجارية خالية الرفوف وصالات رياضية هجرها روادها، وهذا يعكس تماما واقعنا المعاش اليوم بسبب التزام ملايين البشر بالحجر الصحي داخل منازلهم. وفي ذات السياق المرتبط بالمكان يمكن القول إن حرية انتقال الأشخاص والسلع من مكان إلى آخر على اعتبار أن العولمة حولت العالم إلى قرية كونية سواء في الفيلم أو في الواقع، هي نفسها الحرية التي سمحت بانتقال المرض عبر القارات، وهي نفسها التي ستعلن نهاية العولمة بعد أن تقوقعت جل البلدان على نفسها وأغلقت حدودها في أوجه جيرانها، ولنا في دول الاتحاد الأوروبي خير مثال على ذلك.
بالرغم من أن نهاية الفيلم اعتمدت تقنية الفلاش باك لتؤكد أن الفيروس انتقل للمريضة رقم0 بعد مصافحتها لطباخ صيني طبخ لحم خنزير حامل للفيروس التهم قبل ذبحه بقايا طعام خفاش، وبالرغم من أنه في آخر عشر سنوات صدرت العديد من المقالات العلمية التي يتوقع فيها الخبراء أن حدوث جائحة انفلونزا فتاكة هو مسألة وقت فحسب، إلا أن شريحة واسعة من المتفرجين لهذا الفيلم جد مقتنعين بنظرية المؤامرة، لا عجزا منهم عن تفسير الواقع فحسب؛ ولكن بحثا عن دليل دامغ يؤكد أن البشرية اليوم ضحية حرب بيولوجية لا أخلاقية.
ولتعزيز هذا التأويل لديهم تمت دحرجة دائرة التلقي وفق نظرية كرة الثلج لتشمل أكبر عدد ممكن من المشاهدين المؤيدين لأفق توقعاتهم، وهذا ما يعرف بالتحيّز الإثباتي الذي يدحض كل ما ينفيه، فمواطن الشبه الموجودة بين الفيلم وما يعانيه الملايين من البشر اليوم بسبب الكورونا هو تأكيد على أن الجميع ضحية شبكة من المتآمرين الأشرار المسيطرين على النظام العالمي والقادرين على ارتكاب أفظع الجرائم، وهذا يتماشى مع أحد أسس نظرية المؤامرة والقائم على تطبيق قانون التناسب؛ بمعنى أن الأحداث الكبرى لا بد من أن تكون مدفوعة من أسباب كبرى، مما يدحض احتمال أن سبب كارثة كوفيد19 هو تناول مواطن صيني لحساء الخفافيش.
ومجمل القول هنا هو أن تلقي هذا الجمهور الواسع لـ contagion وفي الظروف الراهنة، لم يكن بغرض التذوق الفني ولا الجمالي ولا بنيّة التـأمل النقدي للصورة، ولكن الهدف منه كان استنطاق الفيلم كخطاب وخلق علاقة تداولية بين صانعه ومتلقيه وربطها بالسياق الآني، فاتحا بذلك العديد من التساؤلات حول منطقية ما يحصل اليوم وعلاقته بهذا المنجز السينمائي، وحول جنون البيولوجيا والاقتصاد وكيفية عقلنتها برسم أخلاقيات وقوانين ردعية، وإلى حين الإجابة عن ذلك يظل الاعتقاد بنظرية المؤامرة أمرا مريحا ومبددا للقلق لدى شريحة واسعة من النّاس من بينهم بعض المفكرين خاصة في ظل غياب المعلومات والبيانات التي تثبت العكس.