يوسف بودن
1 -
الوباء المجهري يُهدّد الجميع، الموتْ قريب، في اليد والحُضن واللّمسة العابرة، كل إنسان يُصاب بالوباء نموتُ نحن بطريقة ما، حتى لو كانت ملامحه لا تشبهنا.رسخت العولمة الإنسانية قرارا نهائيا : كل من يموت في هذه الظروف الحزينة ، فكأنما يُميت البشرية كلها.
الجغرافيا الإنسانية تتألم ولكن مهندسي الغابة مازالوا يراهنون على الفوائد الاقتصادية و السياسية، لتأبيد موازين القوة و الهيمنة.
2 -
اكتشفنا فجأة أن هناك نقطة ثابتة، مركزٌ وتوازن، أطلقت عليه جميع الكتب اسم «البيت». والبيتُ يخاطبُ الخوف الداخلي، يهوّن توتر الخارج و أهواله.
الإنسان يعود إلى بيته!
جملةٌ فلسفية واسعة المعنى، كيف استطاع الإنسان أن يتذكّر أن له بيتا، بعد أن كثّفت «ما بعد الحداثة» ملاحقته لينسى كل شيء، ينسى حتى نفسه في فضائل الترحال و التيه (l’errance)؟
العودة إلى البيت كالعودة إلى الأصل، أوْبة إلى منبع يستطيع الإنسان أن يبدأ منه حكاية جديدة، وكل عودة إلى الأصل هي عودة للأرشيف الذاتي .مشهد العودة إلى البيت، أو العودة إلى الأصل، يقتضي فهم معناه في زمن بارد ، خال من السرديات الكبرى كما قال «ليُوتار»، ربما أخطأ في وصف النهاية ، لأن الجغرافيا كبيرة وواسعة و مُركبّة. مازالت الإنسانية هناك، تراهن على كتب مكنونة، وحكايات صغيرة، لكنها دافئة المعاني، تراها أعمق من الغابة التي وضعتنا فيها النزعة الحداثية وغلّقت علينا الأبواب إلى الأبد. هذا هو معنى نهاية التاريخ، الآخرون لا يملكون الحق في الكلام كما لاحظت بحق «غياتري سبيفاك».
كل عودة إلى الأصل هي عودة جديدة ، وتجربة فريدة لا تشبه التجارب الأولى، اكتشافُ البيت إلى درجة أن خروجنا سيكون في ضميرنا بمثابة أول خروج في حياتنا.عاد الناس إلى بيوتهم وبقيت النّزعة الحداثية بلا بيت، خطابٌ عار من كل شيء عدا الحسابات والجداول والتوقعات. العودة إلى البيت موتٌ صغير، قبر الحياة كما عبّرعنه خيالنا المنسي، موتوا قبل أن تموتوا كما قال الزّهاد في ثقافتنا الروحية.
3 -
يكتب بورخيس ليخفف من وطأة الزمن على نفسه، كما نقرأ نحن الآن لنسهو قليلا عن الموت المتربص بنا خارج البيت، الشعارات من قبيل «ابق في بيتك»،
تُدّعم خيال كاتب آخر قادم من افريقيا هذه المرة: يأتي الخطر، كما يأتي البرابرة من خارج أسوار المدينة، ننتظره من كل الجهات وهذا متعب للجندي النائم فينا!
لقد أجبر الوباءُ الخطابَ على تذكر الباب، ما يفصلُ الداخل عنالخارج،عكس النافذة، كأن موضوع الهوية يعود كما جاء أول مرة.
و على طريقة بورخيس، الكتاب الأرجنتيني البارع، اتخيل حكاية يستمر فيها الوباء إلى ما لا نهاية، كما في قصته «كتاب الرمل»، كتاب أشتراه من إنسان مجهول مقابل نسخة من الكتاب المقدس و راتب معاشه، لا أول له ولا آخر تماما مثل الرمل!
ماذا لو كان الوباء مثل حبات الرمل، يهبّ من حيث شاء و يبقى طالما شاءت العدوى أن تبقى؟
سنمكث في البيت ، لا شيء يعادل القراءة لمقاومة الملل و نسيان الخطر، ندخل مدينة الكلمات لألبرتو مانغويل، نفتح أبوابها على خواء حكايتنا القديمة ، كنا بلا معنى.
وكلما فتحنا نافذة رأينا جثث الموتى، فنصرّ على القراءة، كل ما يقع خارج البيت، خارجنا، ميّتٌ لا محالة. تجبرنا القراءة على الحياة،يهددنا التوقف بالفناء.
الوباء مثل حبات الرمل، ننسى الزمن، كم لبثنا، و لا ندري كم عدد الموتى، من يخرج من بيته، من يخون القراءة يموت في الخطوة القادمة، نقرأ سورة الكهف دون أن نفتح المصحف، لأننا أصحاب الكهف والقراءة!!
يقترح علينا بورخيس نهاية سعيدة، يُخبأ الكتاب المُفزع بين رفوف المكتبة الوطنية ، و ينسى المكان، يتجنب حتى عبور الشارع المحاذي للمكتبة!
الطريقة الوحيدة لتحويل الكابوس إلى حلم.
4 -
كيف تذكرنا الحياة؟ ألم يكن الوجود الجزائري كئيبا وخاويا من ذلك المعنى الذي انتظره الإنسان الجزائري لكنه تأخر إلى أن جاء الوباء؟ تقريبا لم نجرّبْ الحياة بمعناها العميق إلا في مناسبات مُتفرقة ، لحظات عشوائية و فرح مؤقت ثم نعود إلى وطننا الأصلي : الإحساس بالموت البطيء.
لم انجز دراسة اجتماعية للبرهنة على هذا الحكم الحزين و لكن ملامح الإنسان الجزائري الحزينة تُجبرك على كتابتها بلون رمادي، اللغة نفسها تكتئب لما تستقبل حكاية يروي سكانها موتهم اليومي بنفسالمفردات.
ربما لا نريد أن نموت بسرعة، ألفنا الموت البطيء، الإيقاع يسمح لنا بمراوغة الموت ذاته ، نطلب صداقته دون أي قناعة.
ربما نخاف أن يموت الناس و تموت آلامهم معهم، ونبقى نحن مع الموت البطيء، ننتظر، أصعب مشهد في الحكاية هو مشهد الانتظار، و لذلك نقاوم لنبقى معا نتعذب معا، تضامن من نوع آخر لكنه لم يرتق إلى مستوى السادية.
هل نخاف على حياة الآخر أم نخاف من عدواه ؟ سؤال يفضح النية.
فجأة ، اكتسبت الحياة معنى دون أن نحدده، نبقى أحياء من أجل ماذا؟
من المؤكد أن نحتج عندما يحضر الموت بهذه الطريقة التي لا تحترم بروتوكول الحضور اللطيف ، ونفكرآليا في معارضة شكل الحضور، مرحبا بالموت ولكن ليس بهذه الطريقة الجماعية، نريد موتا فرديا لنكون حدثا بالنسبة للآخرين، نريد أن نتخيل أسف و حزن الآخرين الأحياء لغيابنا الأخير.
يبدو أن الموت ارتكب هفوة لما جاء لينهي حياة الكثيرين، ألم يخش من أن يفقد هيبته و رمزيته كنهاية متوقعة لكنها شريفة؟ من جمع الصور، صور الموتى، وقرّبها من بعضها البعض حتى صارت شريطا طويلا لموكب جنائزي كوني؟ من أراد أن يفسد العلاقة بيننا وبين الموت، من حوله الى عدو وخطر قادر على إبادة الإنسان من على وجه الأرض؟ هل مازال الإنسان عْزيزا في قلب مؤلف الرواية الحديثة؟!
تحدد لنا الصورالماكرة مكان إقامة الموت : إنه يسكن الشرق، يأتي منه إلى باقي الجهات، الشرق هو مهد الموت، هكذا تقول جميع كتبه الجليلة، في حين لم تعد ذاكرة الغرب تطيق سماع كلمة موت، حتى أنها طردت مقابرها خارج المدينة، لتنساه.
الصور تٌدين الشّرق لأنه يُهدّد بالفناء حكاية الدكتور «فاوست».
5 -
يجد مفهوم «التماسف» المتداول في علوم الاجتماع فرصة ذهبية لتجريب فعاليته. في الحالة المعدية يصبح المفهوم ضرورة حيوية لتفادي الموت.
في الحقيقة ،الأفكار معدية هي الأخرى و كذلك أساليب الحياة ،ما المقصود بأمركة العالم مثلاً، أليست مشروعا للعدوى الشاملة إلى حد المطابقة بين الذات والآخر الأمريكي؟ و هنا تطفو مضاعفات التبعية و الاستلاب و غيرها من الاختيارات الفوضوية.
يذكرنا الوباء «فيروس كورونا» بأن المسافة هي دائما مسافة نقدية، حتى مع موروثنا !
6 -
على وقع الآثار الإنسانية الفادحة للوباء ، يطالبنا الحراك بتعريف جديد يواكب ما يحدث في طبقات اللامرئي من إعادة بنينة في العلاقات.
الحراك وإن كان مشيا مرئيا ، لسانا ويدين، مدا و جزرا، إلا أن هدفه الضمني يقوّض مناعة البنية الصلبة بإجهادها بالتوتر المُتطلّب ، ما يعادل ضيق التنفس و الصداع و الحمى في حالة الإصابة بالوباء.
بهذا المعنى يمكن تصنيف الحراك ضمن أفراد الوباء الذي يعرف جيدا هدفه اللامرئي،هو لا يستهدف الأشخاص وإنما أسلوب البنية في العمل. لنقل بإيجاز إنه فيروس هارب من مخبر التاريخ!!
ماذا يعني تزامن الوباء والحراك؟
التزامن توتر مُضاعف قد يحوّل ارتباك البنية إلى «ووهان» أخرى.
7 -
ما يقال دينيا في مسألة الوباء يبدو متأخرا،لم تقنعني المٌرافقة ،الطريقة التي اختارها المُتكّلمون توحي بأن الدين زائر دخيلٌ.
ماذا يمكن للدين أن يُقدّمه للباطن لتعزيز الطمأنينة فيه؟ماهو هذا الشيء الثمين الذي لن يقدمه أحد أو جهة غيره؟
يمكن أن يكون الصّمتُ أبلغَ اقتراح، الصمت كعلاقة مكنونة بين الإنسان و خالقه، لا تُفشى أسرارها حتى عندما يتفشى الضُّر. من سمع نداء أيوب لولا وروده في الكتاب العزيز؟
يُقدّم لنا لسانُ العرب تعريفا لطيفا للصمت، يضعه ضمن الأشياء الثمينة.
الروح لا تثرثر.
8 -
يسعفنا الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغمبن (Giorgio agamben) لوصف الحالة التي نمر بها هذه الأيام. يرفعُ البعض درجة خطورتها إلى مستوى القيامة، هي باختصار حالة أطلق عليها صفة الاستثناء:
كان الوباء دائما مسألة سياسية، فرصة سانحة لفرض التدابير الاستعجالية وتقييد الحريات إلى إشعار آخر، يتم ذلك باسم الضرورة، والضرورة لا قانون لها كما يقال، ومادام الوباء مسألة سياسية فإنه حتما يقول لنا شيئا محددا عن النظام
السياسي، يعري طريقة اشتغال معارفه وتقنياته.
ينقلنا الوباء بسرعة من دولة القانون إلى دولة الأمن القائمة على مبدأ المحافظة على حالة الخوف الشامل بتفادي اليقين وعدم تسييس المواطنين. ذريعةُ حفظ الأرواح تستدعي تجزئة الفضاء وتثبيت الأفراد في أمكنتهم، ومن يتحرك يعاقب، هذا ما توصل إليه فوكو في كتابه «المراقبة والعقاب».
وكلاهما -أي أغمبن وفوكو- لا يغفل نية التصعيد في المراقبة والضبط ، وبالتالي الاعتناء بالخوف وانتاجه باستمرار بالتخلي المقصود على معايير الحقيقة ، وتبني سياسة الغموض والحجب وعدم الدقة للإبقاء على حالة الذعر.
تتأكد سيادة الدولة، تترسخ الحياة العارية لدى الأفراد، يُعلّقُ الطارئ الحياة، يسكنُ الجميع في فكرة المحتشد.
ماذا نعني بالمحتشد؟
يجيبنا أغمبن: إنه قالب لا يُرى، قانونُ الفضاء السياسي الذي نعيش فيه، تُفتح أبوابه عندما تصبح حالة الاستثناء هي القاعدة.
9 -
لا نتوقع تفشي الفيروس في البوادي، الفيروس كائن مديني –نسبة للمدينة- يُولد مع العدد والكثافة. لا تموت المدن إلا بالعذاب اللامرئي، ربما تستيقظ الآن أمنية العيش في البادية، إلى ما يُعتقد أنه مرئيٌ تماما، هربا من قلق المدينة، أهوالها اليومية،المرئية والمخفية.
تجربتنا مع المجال تقول:ابتعدنا عن البادية وهذا قدر الإنسان، الهجرة إلى عواصم الخطاب، ولكننا كتبنا المدينة بأسوأ ما في اللغة.