الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

في تشـريح العزلـة

إستطلاع/ نــوّارة لحــرش

- علاقة تكاد تكون أبديّة ولها طقوسها تجمع الكتّاب والمفكرين والفلاسفة بالعزلة. العزلة التي يحتاجونها ويفرون إليها من ضجيج اليوميّ والحياة الروتينية، العزلة الممدوحة/ المحمودة والمثمرة. العزلة ملاذ هؤلاء وعالمهم المرغوب. وهي عزلة مختارة، ومنتقاة أوقاتها وأمكنتها. لكن الكُتّاب والأدباء وأهل الفكر والإبداع وجدوا أنفسهم اليوم في عزلة إجبارية. عزلة تشاركية يتقاسمونها مع الآخر. فهل يمكن القول أنّهم اِستفادوا حقًا من هذه العزلة المفروضة بمراسيم حكومية تطلبتها أزمة "الكورونا"، أم هي عزلة مهدورة، لأنّها عزلة جماعية ولأنّ هناك ما يُشوّش عليها، مثل زحمة الأخبار المُدمرة للأعصاب، وغيرها؟... عزلة مربكة/مرتبكة، قلقة متوجسة، وغير آمنة، أو بتعبير أدق عزلة غير مريحة؟
حول هذا الشأن، خاصة في هذا الظرف الّذي نشهد فيه مفهومًا آخر للعزلة. كان ملف "كراس الثقافة" مع مجموعة من الكُتّاب الجزائريين و العرب.

- ربيعة جلطي/شاعرة وروائية : في مديح العزلة وذم الوعكة البشرية!

أية عزلة..؟ أينَها..؟ إلى أين يهرب الكتّاب والمفكرون والفلاسفة وقد صارت العزلة مكتظة بسكان الكوكب جميعهم؟ فائض في العزلة.
لم يحدث أبداً من قبل -على الأقل في ما وصل إلينا من أخبار عن أحداث عُظمى في التاريخ البشري من حروب كُبرى وأوبئة فتاكة- أن عاش الكوكب كلّه مثل هذا التوحد في التوجس تُجاه خطر داهمه.
ولم يحدث أن اِضطر الآدميون جميعهم على سطحه إلى العزلة والاِختباء مثل الأولين في الجحور، والهرع للجوء إلى مغاراتهم ومخابئهم الحديثة مثلما كان يفعل أجدادهم الأولون كلما لمحوا في البُعد شبح ديناصور قادم... لكن الطبيعة خلاقة حين ترضى وحين تجفو. خلاقة في حال كرمها وفي حال غضبها.بلغ السيل الزبى... غضبت الطبيعة فعلاً من البشر المقيمين بها، فحان الوقت كي تُذكرهم بحجمهم الحقيقي أمام جبروتها. وتذكرهم وقد تنفعهم الذكرى بأنّهم مجرّد ضيوف عندها، وقد أساؤوا لها ولمكوناتها الأربعة، لمائها ونارها وهوائها وتُرابها. قتلوا حيواناتها والمخلوقات الأخرى وقد جاءت قبلهم، سبقتهم قبل أن يحلوا بالكوكب، الزاحفة منها والعائمة والماشية والطائرة. تجبروا واستشرسوا وتطاحنوا وأشعلوا الحروب.كان عليها أن تُعاقبهم، أن تُعيدهم إلى رشدهم، أن تُؤدبهم بعزلهم. أن تزجَ بهم في سجنها الكبير وأن تضعهم في زنزانات اِنفرادية منعزلة... أن تعزلهم عمَّا يشتهون. أن تمنعهم من أن ينتشروا على هواهم كما كانوا يفعلون. أن تخبرهم أنّ اللعبة اِنتهت، وأنّه لم يعد هناك أقطاب قوّة اِقتصادية ولا يمينية ولا دينية ولا يسارية ولا مدججة بالسلاح... الكوكب بقطب واحد. وإنّه الأقوى.
هكذا إذَن... نحن جميعًا في سجون منعزلة فعليّة ومعنويّة. ليست عزلة لغرض الكتابة والتأليف والإبداع أو التأمل أو التعبد أو التصوّف أو البحث في غياهب المختبرات العلمية فائقة السّرية وخباياها.. لا.. بل إنّها المداراة خشية الفناء.
ما حال الكاتب الراغب في العزلة الاِختيارية وقد أمسى الكوكب كله في الحجر الإجباري... وبات لكلّ واحد منا حجره الخاص داخل الحجر العام، يُداهمه من حين لآخر بالأسئلة؟
إنّه يشبهني لا محالة وأنا أتابع الأخبار المحلية والعالمية عبر القنوات الإخبارية، وأتصل بالأهل والأصدقاء هاتفيًا أو عبر وسائط التواصل الاِجتماعي، لا بدّ أنّه يعمل مثلي وأنا أبحث عن أسباب واهية للتفاؤل، وأحاول أن أكون إيجابية قدر المستطاع في هذه المحنة الإنسانية الشاملة، وأتابع رحلة قراءتي الهادئة لأعمال الفيلسوف إدغار موران الّذي أتابع مساره الفكري منذ سنوات. قراءة برمجتها منذ أشهر، إنّها تدخل ضمن شغفي الدائم ومتعتي القديمة جدا لقراءة المؤلفات الفلسفية. شغف يسكنني ويتبعني منذ زمن طويل، منذ مكتبة والدي المنزلية العامرة بالكُتب الفلسفية. الآن أقرأ لإدغار موران المتفائل، وهو الّذي عبر القرن بكلّ حروبه وأحداثه الموجعة، وعلى الرغم من بلوغه التاسعة والتسعين إلاّ أنّ عقله اليقظ، وحضوره القوي، ونقاشه العميق يُثير الدهشة والإعجاب لدى مختلف الأجيال الفكرية المتلاحقة. اِنتهيتُ في مدة قصيرة من العزلة هذه، من كتابه «الحب والشِّعر والحكمة» ثمّ كتابه «الأخوة»، والآن بين يدي مؤلفه «الذكريات تأتي للقائي» «Les souveni- s viennent à ma - encont- e».
في هذه العزلة الجماعية أفكر في سلسلة من الأحداث التي كتبتها بعفوية في رواياتي «حنين بالنعناع» و»قوارير شارع جميلة بوحيرد» و»قلب الملاك الآلي»، وإذا بتلك الأحداث ترسم اِستباقيًا ملامح القلق الّذي نعيشه الآن، وحذرَتْ فيها من عواقب غضب الطبيعة، ومن اِستهتار الإنسان بقواعدها وتجبره وجشعه واستشراسه.في هذه العزلة الجماعية المفتوحة على المجهول، أفكر في من لا سقف له، في الّذي ليس له دخل يومي، ولا مؤونة لديه في الخزائن ليطعم الأولاد، بينما يهرب المترفون للحجر في قصورهم المعزولة داخل الحدائق الجنّات، يلوحون ساخرين بمناديلهم للسيد كورونا الشبح، ناسين أنّه جاء -ولأوّل مرّة في تاريخ البشرية- كي لا يفرق بين جنس أو دين أو لون أو معتقد، ولا بين حاكم ومحكوم، أو بين ثري ومعوز. جاء السيد كورونا إلى البشرية جمعاء ليعدِل بالموت بين الناس ليمتثلوا لسلطته المطلقة ونظامه الجديد. 

- خالد النجار/ كاتب وناشر ومترجم تونسي: العزلة السعيدة هي التي نختارها والعزلة القسرية درامية

العزلة هي جوهر الإنسان. فأنتَ كما يُقال تُولد وحدك وتموتُ وحدك. وعندما تحلم؛ تحلم وحدك كما قال الفيلسوف الإغريقي هيرقليطس الغامض قبل أكثر من ألفي سنة، فأنتَ وحيد داخل الحُلم، ولا يستطيع أحد مشاركتك في الحلم. ولأنّ العزلة جوهرية فهي قد تكون وسط الآخرين.
ولعلّها هي أقسى العزلات وذلك عندما تكون وسط الآخرين؛ مثل عزلة المفكرين والشّعراء لِمَا لهم من تميز واختلاف مع مجتمعاتهم في رؤية العالم لذلك قال أفلاطون يظل الفيلسوف خارج المدينة حتّى يُغيرها؛ والمدينة في مصطلح العالم القديم كثيرا ما تعني الدولة. وكتلك العزلة التي تنشأ بين الزوجين عندما يخبو لهيب العلاقة، أو تتفكك شيئا فشيئا وبهدوء بفعل الروتين، أو تتبخر مثل السحب وتختفي فجأة كالفيروسات؛ حينئذ تصير العزلة مع الآخر أقسى درجات العذاب.
والعزلة تعني الاِنفراد والاِنفراد يعني العود إلى جوهر الذات العميق، مكابدة الوجود الّذي يتجنبه أغلب الناس. وهذا العود عسيرٌ كما يقول هيدغير...
وأنتَ ترى أغلب الناس يهرعون إلى المقاهي والتجمعات والأصدقاء والثرثرة وسط الجموع وهو ما يعتبره الوجوديون الوجود المنحط. يهرعون للوجود وسط الجماعة لتجنب اللقاء بهذه الذات التي هي الخواء والعدم بالنسبة لهم. وإذا منع هذا الصنف من البشر وهو الغالب الأعم من لقاء الآخرين تكون عزلته القسرية درامية، تصحبها أحاسيس الحزن والوحشة والخواء والشعور بتخلي الآخرين عنه...
يرتعب من العزلة ذاك الّذي ليس له وجود لذاته. إنّه موجود من خلال رؤية الآخرين له. ولأنّه يعيش مع القطيع يتحوّل إلى شخصية ببغائية أي نقيض المبدع العصي عن التأقلم مع الجماعة...
ونحن ننشّأ منذ البدء على الاِندماج ومسايرة من حولنا. يقول هشام شرابي في كتابه «مقدمات لدراسة المجتمع العربي»: مبكرا تستولي العائلة في مجتمعاتنا على حياة الطفل؛ فهو لا يترك لوحده لحظة من الزمن فترى الأم تقول لاِبنتها اذهبي تفقدي أخاك هل اِستيقظ من النوم وهكذا وبمجرّد اِستيقاظه من النوم يتم اِستلامه والاِستيلاء على وجوده. هكذا نبرمج مبكرا للهرب من عزلتنا الأساسية»... لذلك دعا الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشة لتربية الناس على تقبل العزلة يقول: إنّ الخطأ الأكثر شيوعًا في تربيتنا وتكويننا يتمثل في أنّه لا أحد يتعلم، لا أحد يطمح ولا أحد يعلّم أيٌ كان تحمّل العزلة...
وارتبط الإبداع بالخروج المادي والرّوحي عن الجماعة، فالفلاسفة يعيشون خارج المدينة بالمعنى الفكري والشّعراء في كلّ واد يهيمون: إنّها العزلة السعيدة.
العزلة السعيدة التي تختارها والتي تعبر عن حريتك ولأنّها تتضمن بعد الحريّة فكثيرا ما ترى الناس تنتقد من يستقل بنفسه ورأيه، فهو الخارج عن الجماعة والمارق والاِنعزالي. وكلّها صفات سلبية... مجتمعاتنا نقيض نيتشة لا تحب بل لا تشجع على التفرد والاِنفراد والعزلة.يقول الشاعر الإسباني خوان رامون خيمينيث «إنّك لن تجد في عزلتك إلاّ ما حملت إليها».
هم الناس الذين نموا حياة روحيّة داخلية بعيداً عن ضجيج العالم. إذن العزلة قدر الكائن ولكنّهم قليلون من يُقبلون بشجاعة على قدرهم هذا. وأنت لا تذهب للعزلة من أجل الإبداع لأنّ الإبداع ذاته عزلة، تدفعك إلى عزلة مادية هكذا ذهب اِبن خلدون لقلعة بني حماد ليكتب المقدمة. وصعد رامبو إلى تلك العلية في البيت ليكتب «فصل في الجحيم»، وذهب هيدغير إلى كوخه في الغابة السوداء وهناك أنجز كثيرا من نصوصه لعل أبرزها كتابه «دروب الحطابين». وإذ يكون الإنسان داخل هذه العزلة الروحيّة عندما يكون داخل ليله يستوي لديه الأمر أن تكون هذه العزلة مفروضة أو إدارية أو كورونية لأنّه في تلك اللحظات يكون العالم الخارجي قد اِختفى بالكامل.

- أحمد دلباني/كاتب: وضعٌ جديدٌ يفرضُ علينا اِلتزامات أخلاقية تُجاه الآخرين

أميل، بحكم اِعتباراتٍ مزاجية شخصية، إلى اِعتبار العزلة شرطا ضروريًا للإبداع الفكريّ والفنيّ. وبالتالي فمن نافل القول أن أعتبرَ أيَّ وضع يُساعدُ على ذلك بمثابة الهِبةِ النادرة التي لا يُنكرُ قيمتَها وأهميتها كاتبٌ أو فنان. فالعزلة –التي قد تطول لتُصبحَ خلوة كما كان يُعبّرُ أسلافنا– رجوعٌ إلى الذات ومُختبَرٌ للخلق الّذي يقتضي إحداثَ المسافة مع صخب العالم والأحياء بغية الإشراف على كوميديا الحياة من علياء الفكر والتأمل. إنّها، بهذا المعنى، لقاءٌ مع الذات بمعزل عن دوامة الاِغتراب والضياع في الأشياء، وفرصة كي نضربَ بعصانا الحجرَ لتنفجرَ منه ينابيعُ الأصالة الذاتية. العزلة عثورٌ على وجهنا وصوتنا وترميمٌ لعذرية لغتنا المُنتهَكة بفعل الاِبتذال والثرثرة والمؤسَّسة الاِجتماعية التي لا تبحثُ من خلالها إلاّ عن الخدمة العمومية. هذا، بالطبع، هو المَعينُ الثرُّ لأعمال كبيرة مثل «البحث عن الزمن المفقود» و»هكذا تكلم زرادشت» و»السمفونية التاسعة» و»لزوم ما لا يلزم» و»مقدمة كِتاب العِبَر» تمثيلا لا حصرًا. لقد خرج الإبداعُ في بعض ذراه العُليا، بمعنى ما، من مجمرةِ العزلة الخالقة: من بصيرة «رهين المحبسيْن» الرائية المطلة على مأساتية الوجود وعبثيته، ومن صمم بتهوفن الّذي جعله يُصغي إلى نداءاتٍ قصيةٍ مُشعَّةٍ في الدخيلاء، ومن غرفة مارسيل بروست العابقة بطعم الذاكرة المُستعادة، ومن نزل نيتشه في سيلس ماريا بالجنوب الإيطالي المطل على مهرجان خيوط الشمس وهي تُلقي برسائل الأبدية المُبهَمة على أرض اِمتلأت بمدافن الآلهة.
أقول هذا عن العزلة الطوعية التي يلجأ إليها الكاتبُ والفنانُ باِعتبارها نداءً نابعًا من شعوره الطاغي بالوحدة. فالوحدة ليست العزلة بالطبع. إنّها التفرد. فإذا كانت العزلةُ بنتَ المسافة مع الآخر فإنَّ الوحدةَ هي الاِستقلال الذاتي الّذي يعصمُ الفردَ من السقوط في داء التماثل أو الاِرتهان لدى «غريزة القطيع» كما يُعبّرُ نيتشه. نستطيعُ عزل سجين عن باقي نزلاء المؤسَّسات العقابية ولكنّنا لا نستطيعُ الجزمَ بأنّه سيكونُ وحيدًا أو مُتوحدًا. فالوحدة حالٌ شعورية داخلية ووعيٌ بالفطام من التماهي مع الاِبتذال والعقل الجمعيّ والاِغتراب في الخارج مع التأكيد على نبرة خاصةٍ يظهرُ فيها المبدعُ –عبر أعماله- في صورة من يمسحُ الصَّدأ عن شُموسِه الداخلية التي تُنيرُ العالمَ والآخرين وتعقدُ صلحًا مع حُطام المعنى. كان بودلير -وهو يؤسّسُ للحداثة الشِّعرية اِنطلاقًا من المدينة وإستطيقا العابر– على وعي بهذا من خلال التأكيد على تأثيث وحدته العالية بالآخرين دون أن تبتلعَها رمالُ الواقع الاِجتماعي المتحركة. إنَّ العزلة الطوعية، بالتالي، ترفدُ الوحدةَ وتهيّءُ لها مقتضيات «التدبير» في مواجهة قِوى التدجين السوسيو-ثقافيّة والسياسيّة إن اِستخدمنا تعبيرَ اِبن باجة الأندلسي.
ولكنَّ الوضعَ الّذي نعيشه اليوم يختلفُ عن كلّ ما ذكرناه في مديح العزلة الطوعية. فالحَجْرُ الصحيُّ، بالطبع، ليس اِختياريًا ولكنّه إجراءٌ اِحترازيٌّ إجباريّ من أجل محاصرة فيروس قاتل والحدّ من اِنتشاره. كما أنّه يُهدّدُ باِنتشاره السَّريع كلّ العالم على اِعتبار أنَّ الوباءَ لا يعترفُ بالحدود التي وضعها البشر وهم يتحصَّنون بهوياتٍ «قاتلة» برَّرت تناحرَهم منذ فجر التاريخ. هذا ما يجبُ أن يُحوّل نظرنا، في اِعتقادي، إلى نوعٍ آخر من «التدبير» إن جاز التعبير. فنحن أمام تراجيديا عالمية ووضع يدفعُ بنا إلى أن نضعَ جانبًا أسلحتنا التقليدية التي خُضنا بها صراعاتٍ دموية مجنونة سابقًا بدافع من «إرادة القوّة» أو الرغبة في السيطرة والهيمنة. علينا أن نُدرك، أخيرًا، أنّنا «على ظهر السفينة» الواحدة كما يُعبّرُ الراحل محمود درويش، وهذا الأمرُ يتطلبُ منا الوعيَ بالمصير المُشترك الّذي –على ما يبدو– لا يستيقظ إلاّ لحظة الشعور العام بتناهي الكينونة أو الرعشة المصاحبة لاِقتراب هسيس سنابك العدم من قلاعنا الهشَّة. من هنا عودة التذكير بمثالب الأنظمة السياسية والاِقتصادية النيو–ليبرالية التي اِبتهجت، نهاية القرن الماضي، بِمَا اِعتبرَتهُ حقَّ اِنتزاع شرعية تمثيل «نهاية التاريخ» وبلوغ الإنسان مُستقرَّه الأخير وجنَّتهُ الموعودة كما اِدَّعى بعضُ أنبيائها. إنَّ هذه الأنظمة العولمية المهيمنة بإضعافها للدولة الراعية وتدميرها المنتظم للبيئة وتحويلها للعالم إلى سوق اِستهلاكية ولُهاثها الماديّ الّذي يُذكّرُ بشخصية المرابي الشيكسبيرية الشهيرة «شايلوك» قد وقفت على فشلها الفادح اليوم أمام إدارة الأزمة الحالية ومطالب التضامن الإنسانيّ وتوفير الخدمات الصحية الضرورية للمواطنين وتحرير المعرفة العلمية من التدجين في الآلة الاِقتصادية الرأسمالية. فالعولمة الليبرالية تعيشُ ما لم تكن تتوقعُ أبدًا لأنّها حصرت همَّها في الدمج الاِقتصاديّ والمالي للكوكب، وتعزيز رغبة اِستتباع الأطراف للمركز الأمريكي-الغربيّ. لقد تفطن العالمُ كله بفعل هذا الوباء القاتل إلى ضرورة إعادة النظر في أدوار الدولة الاِجتماعية وتركيز الاِهتمام أكثر على الرعاية الصحية والبحث العلمي الطبيّ والحفاظ على البيئة. كما نبَّهنا بعضُ فلاسفة الغرب المعاصرين، من خلال تدخلاتهم الأخيرة، إلى أهمية النقد المُوجَّه للحداثة الكلاسيكية التي دشَّنها «الكوجيتو» الديكارتي. فلعلنا سنشهدُ، أخيرًا، النهاية الوشيكة لباراديغم هذه الحداثة التي زحزحت المُقدَّس المتعالي عن المركز ليحتله الإنسانُ المزهوّ بقدرته الهائلة في «أن يُصبحَ سيّدًا على الطبيعة ومالكًا لها» كما يُعبّرُ أبو الفلسفة الحديثة نفسُه. ولعلّ البعضَ صار يحلمُ أيضا –نظيرَ المفكر الفرنسيّ ريجيس دوبريه– بضرورة الاِنتقال الحضاريّ من «القرن الأحمر» الّذي ميَّزته الثوراتُ الإيديولوجية -الحالمة بالعدالة والمساواة والمُنتكسة إنسانيًا واِقتصاديًا- إلى «القرن الأخضر» البيئي الّذي أصبح مطلبًا مُلحًا من خلال ضرورة مراجعة العنجهية التي صاحبت الاِعتقادَ بمركزيةِ الإنسان وسيادته على طبيعةٍ هو، في الأصل، جزءٌ منها.من هنا أقول إنّه لا يمكنُ للمحجور أن يعتبرَ هذا الحجرَ الإجباريَّ عزلة وفرصة لمُمارسة حريةٍ ظل يفتقدها في السابق فحسب؛ ولكنّه، أيضا، وضعٌ جديدٌ يفرضُ علينا اِلتزاماتٍ أخلاقية تُجاه الآخرين ما دمنا نؤمنُ أنَّ حريتَنا تنتهي عند اِبتداءِ حريتهم؛ كما يُلزمنا بوضع الصالح العام واِحترام حق الجميع في الحياة والحماية من العدوى فوق أيّ اِعتبار ذاتيّ آخر. هذا ما جعل الدولة تقفزُ، في اِعتقادي، إلى الواجهة باِعتبارها تجسيدًا للإرادة العامة لا عائقًا أمام الفرد واِختياراته أو مُجرَّد مؤسَّسةٍ تحتكرُ العنفَ وتفرضُ علينا البقاءَ في بيوتنا كرهًا فحسب. لقد اِنتصر جون جاك روسو في هذا المُنعطفِ الحضاريّ على آدم سميث وماكس فيبر. لذا أعتقدُ، على المستوى الشخصيّ، أنَّ هذا الحجرَ المفروضَ علينا اليوم لن يُشوّشَ، بحال، على عزلتي ولا على المباهج التي تغدقُ بها عليَّ من خلال القراءة والكتابة والاِستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية. عزلتي تهبُ اللحظاتِ وهجًا وأجنحةً تحرّرُني من أسر اليوميّ واِبتذاله. كما لن يكونَ بمقدوري، من جهةٍ أخرى، أن أعيشَ كأنّني في جزيرةٍ نائية وإنّما باِعتباري مواطنًا في هذا العالم قد يكونُ لرأيه أو كتابته «أثر الفراشة» في المستقبل. يُسعفني في هذا ألبير كامو وهو يتحدَّثُ، خلافًا لغريمه سارتر، لا عن اِلتزام الكاتب والفنان الاِختياري وإنّما عن كونه أساسًا «في عَرض البحر» مع الجميع وعلى ظهر نفس السفينة. هذا، في كلمةٍ، هو وضعنا اليوم.

- محمّد خطاب/كاتب وناقد: كلّ عزلة حتّى لو كانت مفروضة تختبر الناس كلٌّ في موقعه

مفهوم العزلة داخل كلّ ثقافة حقيقيّة هي عزلة الذات ولو كانت في حال اِجتماع. مفهوم العزلة لا يرتبط حتمًا ببعد الجسد عن الأغيار، هذا المفهوم الوضعي المُباشر يقضي على جوهر ما في العزلة من ألق ودلالة. لماذا العزلة تبدأ بالذات أوّلاً؟ لأنّها تُشكلُ عتبة للفهم الخاص للعالم ولِمَا يُحيط بها. أنتَ وحدك وسط العالم (لكي نفهم فيما بعد لماذا كان درس رولان بارت كيف نحيا معًا؟) لأنّه درسٌ يقوم على أساس اِحترام العزلات الخاصة التي يُؤسسها الفهم للذات أوّلا. يعني يُمكن العيش مع الآخر بالمفرد. فكرة الجماعة حتّى على المستوى الديني تتعارض مع فكرة الذات المُبدعة، لأنّ الجماعة تتضمن معنى التشارك وهذا يُؤدي إلى معنى (التشابه). فكرة الشبيه لا ترضاها الذات المُبدعة لأنّنا نتحدث عن فئة الكُتّاب والمثقفين. فالعزلة معنى يقوم مع الفعل المُبدع الّذي تختاره الذات. هل الكتابة فعل جماعي؟ هل هي تشارك تذوب فيه الذات في ذوات الآخرين؟ ما المعنى الّذي نمنحه لكتابة بهذا المستوى؟ كلّ كتابة عظيمة هي كتابة تولد في العزلات القصيّة للذات. هذا الفهم يجعل من العزلة فعلاً اِختياريا، حيث يذهب إليه المبدع داخل اِختيارات مُختلفة تفرضها الحياة.
مع الوباء الّذي يفتك بالعالم والّذي دفع الدول بكلّ مُؤسساتها إلى اِتخاذ كلّ تدابير الاِحتياط وجد الناس أنفسهم داخل جحورهم من دون اِختيار. طبعًا الذات المُبدعة هي ذات مُستبصرة تعرف وتتذوق الحالات جميعها وهي لا تندهش للقرار، بقدر ما تُفكر في بدايةٍ ما. كيف نفكر في بداية جديدة تجعل الذات تنتقل إلى حالة أو فاعلية ثقافية أخرى؟ الفعل الخلاّق فعلٌ لا ينتهي وليس مرتبطًا بظرف سياسي أو اِقتصادي أو حتى ثقافي. الفعل الخلاّق خلاق بالطبيعة داخل كلّ الإرهاقات المفروضة.
العزلة المفروضة لا تُدهش العزلة الأصلية، لأنّها في الحقيقة تذوب فيها لكي تـنصهر في كون واحد. هل يمكنُ لعزلة الكاتب التي وجد نفسه مُضطراً إليها أن تُعلمه فِعل القراءة والكتابة؟ هذا غريب عن الكاتب لأنّ القراءة والكتابة والإبداع عمومًا مظاهر وجودية للكاتب سواء مع العزلة أو خارجها. أتذكر في هذا المقام اِبن عربي في رسالة له تُسمى «حلية الأبدال» حيث يُقسم العزلة إلى قسمين: عزلة المريدين بالأجسام عن مخالطة الأغيار، وعزلة المُحققين وهي بالقلوب عن الأكوان. الجميل عند اِبن عربي أنّه يتدرج في مراتب العزلات ليتحقق فيما يُسميه بالخلوة التي يراها عزلة داخل عزلة. وطبيعة الحَجْرْ هي اِختبار الخلوة من حيث الطبيعة، هل حقًا فيها اِستجابة حقيقية لمطالب الذات، أم هي عزلة أجساد فقط؟ أرى أنّ العزلة المفروضة حوّلت الذات إلى خصم، وصارت الخصومة هي المعنى الّذي يُحرك هذه الذات نحو الفِعل. طبعًا ليس تعميمًا على الكل ولكن الذات تُعادي سجانها وإذا اِضطرت إلى الوجود فسيكون إعلانًا لصرخة أو عداوة مُعينة. المهم في كلّ ذلك أن تبقى العزلة هي المُحرك الطبيعي للإبداع شرط أن يكون فرديًا وخاصًا وخلاقًا. من دون معنى الفردية تتحوّل العزلة إلى ترف تُساهم فيه مواقع التواصل الاِجتماعي وتُسطحه المسلسلات والأفلام التي تُحَوِل الذات إلى ظاهرة حلمية غريبة تُبعدها عن موقعها الجميل حيث وجود المعنى الحقيقي الّذي يستفز الكائن ويجعل منه فريسة سهلة للرداءة الغالبة. كلّ عزلة حتّى لو كانت مفروضة تختبر الناس كلٌّ في موقعه، وحين نتدرج إلى مقام الكتاب نرى العزلة قد وجدت صديقًا لها وأليفًا قديمًا وكونيًا أُسميه بالكاتب المبدع.

- عزت القمحاوي/ روائي مصري: فجأةً جاء الوباء ليبني سورًا وأبراج حماية لعزلتي/ فرحتي الصغيرة

هناك كاتبان اِثنان عرفتهما بوسعهما أن يكتبا في مقهى: هيمنجواي من خلال سيرته، ووحيد الطويلة بصفته صديقًا. لا تسعفني الذاكرة الآن بغيرهما، لكن تبقى هذه السلالة من الكتابة أقلية عرقية، يمكن أن نتعاطف معها علنًا ونضطهدها سرًا.
الأصل في حياة الكُتَّاب هو العزلة. وأنا من الأغلبية التي تكتب وتقرأ وتفكر وراء أبواب مغلقة. ولم يكن الحصول على العزلة سهلاً أبدًا. عشتُ أستجديها رافعًا الراية البيضاء في وجه كلّ من أعرفه. كتبتُ ذات مرّة معارضة لمقال رولان بارت «الكاتب في إجازة» الّذي تناول فيه صورة فوتوغرافية لأندريه جيد في عطلة ببلد إفريقي، وعنونت مقالي «الكاتب في جنازة» أنعي فيه حظ كاتب العالم الثالث الّذي لا يجد وقتًا لعزلته وسط واجبات اِجتماعية عليه أن يرجو الآخرين ليتفهموا ظرفه إن لم يشاركهم في واجب عزاء أو زفاف، وعليه أن يستعطف من أجل تلك العزلة بنية سياسية وإدارية وقانونية تتعمد إنهاك الإنسان كاتبًا كان أو غير كاتب. نستيقظ كلّ صباح من أجل الدفاع عن حدودنا الشخصية، من أجل الدفاع عن كرامتنا. تبدو ثغرات البنية القانونية في بلادنا وكأنّها متروكة عمدًا لتحقيق هذا الإنهاك، وفتح الباب للتباغض بين المتقاضين، بين الرؤساء والمرؤوسين، وبين الجيران في البناية الواحدة. والعزلة للكاتب في ظل واقع كهذا أملٌ بعيد المنال يُحققه بتضحيات كُبرى. كثيرًا ما أتأمل حالي ساخرًا: هل يمكن أن يعيش محارب حياة كاملة من الاِنسحابات؟!
في سبيل الدفاع عن عزلتي قمتُ بكلّ الاِنسحابات الممكنة. ماتَ وسوف يموت كثير من المنتصرين دون أن يعرفوا أنّني لم أنسحب من أمامهم ضعفًا أو جبنًا أو كرمًا أو حتى ترفعًا عن منافع. أنا مثلهم، بحاجة إليها، بل دفاعًا عن حدود إقليمي الصغير، غرفة لا يطرق بابها أحد. وفجأةً جاء هذا الوباء المجيد ليبني سورًا وأبراج حماية لعزلتي. سقطَ حرج التخلف عن مناسبة اِجتماعية، الكثير من هذه المناسبات ملغي أو مخفض إلى حده الأدنى. والأهم أنّ أبواب الأذى الرسمي شبه مقفلة لأنّ مؤسسات الشر تعمل بربع طاقتها، كلّ شيء مُؤجل لحين عبور الأزمة!، لا يصح أن يرى الوباء المتوحش وحشيتنا.
كيف لا أحب فيروسًا كهذا؟
لقد جاء كهدية من السّماء. أشعر ببعض الفرح، وهذا ليس تشفيًا، فهناك الفقراء الذين يكسبون رزقهم يومًا يمنعونني من ذلك، وهناك اللاجئون والسجناء والعالقون وسط الحروب الذين لا ينقصهم قيد جديد. فقط، أنا راض بسلامي، لا أتشفى، وأكره التشفي الحقيقي الّذي أراه في نشرات الأخبار. الخبر الأوّل في كلّ تليفزيونات الدنيا هو عن عدد الضحايا، يُعلنه المذيعون بفخر وكأنّه نصرهم الشخصي، بينما الخبر السعيد حول علاج ممكن لم يزل أملاً بعيدًا ومجرّد تكهنات. وكلما حاول الأطباء شرح ماهية الفيروس يظل لغزًا لكنّنا صرنا نعرف أجسادنا؛ هذه الآلات سهلة التلف. لهذا لا أضيع وقتًا مع الأخبار. عندما يخترعون علاجًا سأعرف به من جاري، وعندما يرتفع عدد الضحايا فهذا أمر خارج عن إرادتي. قتلى الحروب كذلك خارج إرادتي ويموتون رغمًا عني.
لدي الآن من الصفاء ما يكفي لكي أكتب وأقرأ وأتأمل، بدون أن يعيقني القلق، فليس هناك سوى اِحتمالات ثلاثة: ربّما لا يصيبني الفيروس ولا يصيب أحدًا من أحبائي، وربّما نُصاب ونُشفى، وأمّا الاِحتمال الثالث فهو الموت، وأنا أعرف أنّ ملاك الموت لا يُغيِّر موعده تحت أي ظرف من الظروف. لكن هناك في الحقيقة سؤال يجب أن نسأله لمدبري الحروب الكبيرة والصغيرة: إذا كان تأجيل الشر ممكنًا، فما جدواه من الأساس؟ لماذا لا تفكرون بالتخلي؟!
صدقوني، جربته دائمًا، ورأيت أنّه ليس سيئًا أبدًا، ولابدّ أنّ الرب يراه حسنًا.

 

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com