هل ستشهد البشرية نموذجًا جديدا للعولمة؟ أم أنّها ستدخل إلى عالم أقلّ عولمة، خاصة بعد أن كشفت جائحة كورونا عن مدى هشاشة النظام المعولم؟ ما يدفع إلى طرح أسئلة أخرى ذات صلة: ما هو مصير النظام الدولي والعولمة ما بعد كورونا؟ وهل ستبقى العولمة أحد أهم المظاهر التي تُميز العالم اليوم؟ وما مدى صمود النظام العالمي المعولم أمام تحديات واقع ما بعد الكارثة التراجيدية؟ وهل يمكن أن يصبح العالم أقل اِنفتاحًا وأقل اِزدهاراً وحريةً وهل سنشهد تغييرات في فلسفة وثقافة العولمة؟
حول هذا الشأن كان ملف «كراس الثقافة»، لعدد اليوم، مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين المختصين في العلوم السياسية.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
- نبيل دحماني/ أستاذ وباحث أكاديمي -كلية العلوم السياسية - جامعة قسنطينة3 : القول بأنّ وباء كورونا سيساهم في بعث عولمة جديدة لا يُحظى بإجماع كبير
تعيش البشرية مع بداية العقد الثاني من هذه الألفية وعلى مدار ثلاث أشهر مُتتالية حالة غير مسبوقة لاِنتشار وباء كوفيد19 المستجد، والّذي اِنطلق من أقصى شرق الكرة الأرضية ليشمل كلّ أرجائها دون أن تحده الجغرافيا ولا أي حائل؛ فالعولمة قتلت المسافة ووحدت النُظم الاِجتماعية والاِقتصادية مهما اِختلفت، حيث يتساوى في ذلك العالم المتقدم في الشمال مع عالم التخلف في الجنوب. ومَثَّلَ ضربة قوية لأنظمة صحية كانت إلى وقتٍ قريب تُعد من أقوى النُظم الصحية في العالم قبل أن تنال منها منظومة العولمة التي ساهمت في إضعافها على الأقل خلال العشرين سنة الماضية بفعل سياسات اِنسحاب الدولة وفتح المجال لخصخصة القطاع الصحي ولتطور أداء القطاع الخاص، أمام تراجع دور الدولة وبخاصة مع تصاعد الخطابات الشعبوية واليمينية المطالبة باِنسحاب الدولة وتشجيع الاِستثمار.
وقد أدى التطور الرهيب للوباء من حيث عدد الإصابات والوفيات في كلّ أنحاء المعمورة، ناهيك عن الركود الاِقتصادي العالمي وتكلفة مجابهته إلى الدعوة لمراجعة العديد من النُظم التي تحكم العالم المعاصر، بين من يطالب بتعزيز دور الدولة كرد فعل دفاعي بالأساس أمام المد الوافد من خارج الحدود القومية التي غدت وهمية بفعل العولمة، وبين من يُؤكد على قدرة العولمة وتعاون الإنسان في الحد من هذا الاِنتشار وبخاصة في ظل المكاسب العلمية والتكنولوجية والاِتصالية المتاحة. وذلك ما يدفع إلى المزيد من التساؤل حول طبيعة الواقع المرجو والمأمول لمرحلة ما بعد كورونا؟ هل سيكون ذلك مرحلة لِمَا بعد العولمة نفسها، أم إعادة تخريج جديد لعولمات ضاربة في القدم حتّى قبل ظهور المجتمع الدولي والدولة القومية؟
هذا التساؤل فلسفيٌ أكثر منه واقعي يرتبط بممارسات العلاقات عبر القومية (الدولية)، وبأطروحات ليبرالية تحديدا، بأبعادها المختلفة الاِقتصادية والتجارية والمالية والسياسية والعسكرية والاِجتماعية والتكنولوجية وغيرها، لماذا؟ لأنّ تداعيات الوباء لم تكن نتيجة مباشرة لأداء العولمة نفسها، باِستثناء عامل التهويل الإعلامي، والاِستغلال السياسي والاِستراتيجي للواقعة الوبائية. في حين أنّ هذا الوباء وحد العالم جغرافيًا، وطبقيًا وعرقيًا، ولكنّه قسمه إجرائيًا وسياسيًا واِقتصاديًا.
لا أحد يمكنه أن ينفي أنّ الوباء اِستفاد من منظومة العولمة القائمة على السيولة والسرعة في حركة الأشخاص والسلع والأموال، وفي مجمل الترابطات عبر قومية تخطي الحدود السياسية والجغرافيا وتجاوز الخصوصيات الثقافية والعرقية، غير أنّ القول بأنّ هذا الوباء سيساهم في بعث عولمة جديدة، لا يحظى بإجماع كبير، لسببٍ بسيط يتمثل في أنّ الركائز التي تحتكم إليها العولمة والتي تنسب مجازا للغرب المُمثل في الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في أوروبا وجنوب شرق أسيا، تنبني على رمزيات التفوق الرأسمالي الرهيب وعلى قدرة المنظومة الرأسمالية على التكيف مع الأزمات وهذا ما اِصطدمت به كلّ التصورات السابقة في السجال القائم بين المركزية الاِشتراكية والليبرالية الرأسمالية، يصعب إثبات كونها موجهة فقط من هذا المركز: الولايات المتحدة الأمريكية طالما أنّ أمريكا نفسها مُستهدفة بها، وتُعاني من تبعاتها على أدائها الاِقتصادي وسياساتها الداخلية والخارجية. لذلك فالعولمة هنا تمثل عمليات دمج لإرادات مختلفة في إرادة شاملة سواء في حالات الصراع أو التعاون في النظام الدولي، ويتمحور كلّ ذلك حول تعظيم عناصر التفوق والاِنتشار.
ولكي يتضح ذلك أكثر يمكن مناقشة مظاهر الصلة بين الوباء والعولمة من خلال، أنّ الوباء فرض على مئات الملايين من البشر في أكثر من مائتي دولة التوقف عن الذهاب إلى العمل والاِلتقاء، وأرغمهم على البقاء في منازلهم، كما دفع بالدول إلى الاِستعانة بالأساليب البوليسية في فرض الحظر على تنفل الأفراد، وأوقف حتّى العمليات القتالية في أماكن النزاع في أكثر من مكان. وأشعل حربًا من نوع مختلف تمامًا حول وسائل الوقاية من كمامات وقفازات، وأصبحت تطالعنا وسائل الإعلام عن عمليات اِستيلاء دول على شحنات دول أخرى، وعلى حروب اِستخباراتية ومخبرية حول من يكون الأسبق في اِكتشاف اللقاح المناسب، كما فتح المجال واسعًا لتبادل الاِتهامات بين الحكومات حول من هو المُتسبب في اِنتشار الوباء، مِمَا يُبرز الطبيعة الأنانية والفردانية للدول وعدم فعّاليّة الاِتفاقات الدولية والقانون الدولي في مجالات التجارة والصناعة والصحة والتربية وغيرها.
وأهم من كلّ ذلك فقد أدى إلى العودة إلى نقطة البدء من خلال إفساح المجال أمام تدخل الدولة المُباشر في الحياة العامة، وإلى أهمية القطاع العام في اِستيعاب الأعداد الهائلة من المُصابين، حيث يُعد القطاع العام الصحي أكبر كفاءة في التعامل مع الحالات الوبائية من القطاع الخاص المحكوم بقوانين السوق، وهو الفخ الّذي وقعت فيه إيطاليا نتيجة سياسات الخصخصة التي اِستهدفت أقوى منظومة صحية في العالم. هذا التدخل الجديد يُعد ضربة قوية لأدبيات أدام سميث طالما أنّ الدولة اليوم أصبحت مطالبة بالتدخل لإنقاذ الاِقتصاد.
فيما يبقى العامل المُخيب على المستوى الدولي هو وضع فكرة التعاون الدولي والتعايش بين الأمم على المحك، والتي تُمثل أحد ركائز العولمة اليوم، ولأدلّ على ذلك حالة دول الاِتحاد الأوروبي اليوم، فقد أصبح مُنقسمًا إلى دول شمال الاِتحاد أقل تضررا والأكثر اِنكماشًا على نفسها مثل ألمانيا النرويج بولندا...، ودول جنوب الاِتحاد الأكثر تضررا وحاجة للمساعدة حالات إيطاليا اِسبانيا فرنسا، وهي دول يحصد فيها الوباء الآلاف يوميًا وتُسجل فيها عشرات الآلاف من الإصابات في صورة تراجيدية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
هذه الوقائع وغيرها ساهمت في الدعوة إلى مراجعات عميقة للديمقراطية الغربية ومؤسساتها خاصة إذا قُورنت بأداء الصين في مُجابهة الوباء وكفاءة حكومتها وأطقُمها الطبية، وهي التي تُمثل منظومة مركزية سياسيًا تختلف تمامًا عن نظيراتها الغربية؛ فقد ضرب الوباء بكلّ قسوة في النُظم المفتوحة لأنّها كانت عاجزة عن اِعتماد سياسات اِستباقية تحد من حرية الأفراد. لذلك فإنّ المرحلة المُقبلة وكما حدث في عهد الكساد العظيم سيتجه العالم إلى اِعتماد مقاربات مركزية في إدارة شؤون الحُكم والمُجتمع وستساهم بشكلٍ أكبر في عولمة الخوف والاِنقسامات بين الدول.
- منيرة بودردابن/ أستاذة وباحثة -كلية العلوم السياسية جامعة قسنطينة3 : أزمة الوباء اِختبار للعولمة وثقافتها
أصبح فيروس كورونا يُمثل حالة طوارئ صحية عالمية، نتيجة اِنتقاله إلى عدد من الدول، بداية من الدول المجاورة للصين، كاليابان وكوريا الجنوبية وهونج كونج، مرورًا بدول أوروبية ودول إفريقية، وصولًا إلى أقصى غرب العالم، في الولايات المتحدة وكندا وبعض دول أمريكا الجنوبية؛ حيث أعاد إلى العالم ذكرياته مع الأوبئة التي قتلت الملايين من البشر عبر التاريخ، وفي هذا السياق فقد أعلنت المنظمة العالمية للصحة أنّ هذا الفيروس هو أحد الأوبئة التي يمكن أن تتحول إلى كارثة عالمية في غضون زمن وجيز بسبب اِنتشاره السريع واِرتفاع عدد المصابين به والمتوفين بسببه، حيث تسبب فيروس كورونا في اِنتشار حالة من القلق والخوف العالمي، رغم اِتخاذ بعض الدول التي اِنتقل الفيروس إليها إجراءات لمنع اِنتشاره بين سكانها على نطاق واسع وقد اِنعكست حالة القلق هذه على أداء أسواق المال العالمية، نتج عنها خسائر كبيرة تراجعت إلى مستويات هي الأدنى منذ شهور. ومع تزايد هذه الإجراءات لمواجهة تفشي فيروس كورونا المستجد والتي تضمنت حظر العديد من البلدان حول العالم السفر إليها ومنها، ظهرت أزمة هذا الوباء بمثابة اِختبار للعولمة وثقافتها التي سادت العالم المعاصر منذ الحرب العالمية الثانية، الأمر الّذي اُعتبر بمثابة تهديد بالدخول إلى عالم أقل عولمة، فبمجرّد أن يتراجع هذا الوباء وحالة القلق السائدة، فإنّ أولئك الذين يعتقدون أنّ الاِنفتاح على الناس والمنتجات من جميع أنحاء العالم هو شيء جيد، سيحتاجون إلى الدفاع عن كلّ ذلك بطرق جديدة مُغايرة لفلسفة العولمة السائدة قبل اِنتشار الوباء، وهذا ما صرحت به صحيفة فورين بوليسي الأمريكية في مقال لها ذلك أنّ في زمن العولمة كانت البشارة هي اِنتهاء الحروب العالمية والإقليمية، واِنتهاء مجاعات البشر وبحثهم عن الغذاء، وبات مُمكناً الحديث عن نهاية «الطاعون» أو الأمراض المزمنة مثل السكري والسرطان أو المعدية بعد أن نجح الإنسان في مواجهة «الإيبولا» وأنواع من أنفلونزا الطيور والخنازير، الأمر الّذي تغير بعد تفشي فيروس «كورونا» والّذي لم يعد قضية محاصرة فيروس ما زال مستعصياً على التشخيص والعلاج، وإنّما ما واكبه من اِنهيار في البورصات العالمية بِمَا فيها البورصة الأمريكية، ومن بعدها أسعار النفط، وحيث أصبح الأمر كما لو كانت هناك «سلسلة» من الأحداث الخطرة التي يعقبها أحداث أكثر خطورة، والّذي ظهر من خلال عرض قلب العالم الصناعي في الصين إلى اِختبار كبير حيث تراجعت معدلات النمو الصينية، وأصبحت صناعات العالم التي تعتمد على الصناعة الصينية في حالة شلل وأصبحت الولايات المتحدة المزدهرة على حافة اِنكماش اِقتصادي، وبدا العالم على شفا الكساد الّذي قد يؤدي إلى تغيير فلسفة العولمة وفي هذا السياق ذكر مهدي شحادة في جريدة «المدن» اللبنانية: «أنّ فيروس كورونا أثبت سرعة اِنتشاره مستفيداً من نظام العولمة الّذي حوّل الكرة الأرضية إلى -قرية كونية- بحيث سهّل اِنتقال الأشخاص، وهي الحرية التي سهّلت بدورها اِنتشار الوباء من دون حاجة إلى الحصول على إذن أو تأشيرة، بدليل أنّ الوباء بدأ في منطقة مُحدّدة من الصين، ثمّ اِنتقل خلال أيّام إلى باقي أنحاء العالم عابرا للقارات»، فالمفارقة هنا هي أنّ العولمة بأبعادها السياسية والاِقتصادية والثقافية كانت تخدم أنظمة رأسمالية دولية، ويتم توظيفها لخدمة مآرب ومشاريع تصب بشكل خاص في مصلحتها على حساب الفقراء من دول وشعوب، ولكن مع فيروس كورونا اِختفت كلّ الفروقات الطبقية وساد ما يمكن تسميته «المشاركة في مواجهة المرض» بحيث أصبح الفقير والغني ليسا بمنأى عن هذا الوباء، ولم تكن الأنظمة ومن يمثلها في هرمية السلطة بعيدة عن مخاطره. وبذلك أصبح الوباء عابراً للطبقات الاِجتماعية بِمَا أنّه عابر للقارات. وبهذه الصورة فقد كشف هذا الوباء عن تغيير فلسفة العولمة التي كانت سائدة، وقد تكون النتيجة تحوّلاً في السياسة العالمية لمواكبة تحوّلات ومراجعات فكرية جديدة أو حتّى مراعاة لصحة وسلامة المواطنين التي أصبحت على المحك بسبب ثقافة العولمة..
- زهيرة حوّاس/أستاذة العلوم السياسية -جامعة صالح بوبنيدر قسنطينة 3 : النظام العالمي سيُواجه تحديات التقهقر ومخاطر الزوال
عرف النظام العالمي ما بعد الثنائية القطبية عمليات اِستقطاب دولية دفعت نحو تحوّل التوازن للقِوى العالمية لصالح قوة مهيمنة وحيدة حاولت قيادة العالم وبسط هيمنتها على الحُكم العالمي وتحويل مفهوم القوّة والسيطرة على مصادرها. وقد اِستفحلت قبضة القوّة الأحادية المسيرة للعالم في ظل تنامي ظاهرة العولمة التي عملت في البداية على فتح الحدود لتدفق السلع، رؤوس الأموال، الخدمات والعمالة وإنشاء الأسواق المالية العالمية وحققت نجاحًا مُعتبراً في جعل العالم قرية صغيرة و»سوق» اِستهلاكية مترامية الأطراف، مع اِنتهاج فلسفة عولمة العديد من المفاهيم والظواهر لاحقًا خاصة مفهومي/ظاهرتي الأمن وحقوق الإنسان اللذين عرفا توظيفًا مغايراً في ظل النظام العالمي المُعولم: جعل من المفهوم الأوّل «الأمن» يتعدى مفهوم التهديد الصلب العسكري إلى مفهوم التحدي اللين في المجالات السياسية، الاِقتصادية، الاِجتماعية، الثقافية والبيئية، ومن الثاني «حقوق الإنسان» ذريعة لاِستباحة التدخلات في مختلف دول العالم بحجة الحماية.
ومع أنّ هذا النظام الجديد شهد عِدة هزات اِقتصادية وأمنية وإنسانية إلاّ أنّه كان يحاول رفع رهان البقاء بعد كلّ ضائقة/ أزمة على المستوى العالمي وتدارك مَواطن الضعف بالرغم من التراجع الّذي يُسجله باِستمرار في مواجهة التحديات التي أفرزتها هذه العولمة وتحديدا في مجالي الأمن وحقوق الإنسان، إلاّ أنّه بآلياته، بإمكاناته وتشابك العلاقات بين فواعله يُواجه في ظل التحدي الوبائي الّذي تفشى في كلّ دول العالم تقريبًا وعلى رأسها الدول المصنعة والمتقدمة أخطر أزمة تسببت في تعطيل عجلة الحياة العادية عبر العالم، وأثارت ولا تزال التساؤلات حول مصير الاِقتصاد الدولي «عصب الحياة» حتّى في أوج تصاعد خطر الجائحة وحصدها للمزيد من الأرواح وتمرد الوباء وتوسع اِنتشاره.
لذا يُواجه النظام العالمي تحديات التقهقر ومخاطر الزوال في المرحلة ما بعد الجائحة وتحديدا في هذه المجالات الثلاث: الاِقتصاد العالمي، الأمن العالمي، وحقوق الإنسان العالمية، كون الاِقتصاد العالمي قد يشهد اِنكماشًا يزيد من تحديات الفقر، البطالة، المديونية، تدني مستوى الدخل،... والّذي قد يُؤدي إلى مزيد من الصراعات عبر العالم خاصة في الدول الهشّة وحتّى على مستوى الدول المتقدمة التي لن تكون بمنأى عن هذه المخاطر بخروجها ضعيفة اِقتصاديًا من هذه الأزمة بسبب اِستهلاكها المكثف لإمكانياتها في مواجهة الجائحة... أمّا فيما يخص التحديات الأمنية التي سيواجهها النظام العالمي فتتمثل في عودة الدولة بقوة لحماية وتحقيق أمنها القومي وبحث السبل الأكثر نجاعة لمواجهة مخاطر التهديدات التي تمس بالأمن الصحي للمواطن والتحسب لمخاطر الأوبئة المحتملة خاصة وأنّ جائحة كورونا كشفت ضعف المنظومات الصحية في التصدي للوباء في أكثر دول العالم تقدمًا بالرغم من إدراكها لأضرار التحديات الصحية وتحديدا الوبائية المحتملة والتي شهدتها دولا مختلفة كــــ: سارس، ميرز، ايبولا، أنفلونزا الطيور والخنازير... وأنّ الواقع تحت وطأة الوباء أثبت أنّ سباق تسلح الكبار والترسانات العسكرية لم تجدي أمام فيروس مجهري لحماية هذا الأمن العالمي المعولم من التحديات الفعلية والمحتملة لأمن الفرد والدولة والنظام العالمي ككلّ. ويبقى تحدي عالمية حقوق الإنسان من أهم تحديات إمكانية سقوط/ صمود النظام العالمي المعولم بعد الجائحة خاصة وأنّ آليات العولمة الناشطة في مجال هذه الحقوق والتي طالما تغنت بحق الإنسان في الحياة والرعاية الصحية لم تعمل على توفير شروط تحقيق ذلك في معظم دول العالم التي تعاني الضعف والاِنكشاف، الواقع الّذي كشفته الأزمة الصحية حتّى داخل الدول المتقدمة ذاتها والتي اِضطرت إلى التضحية بأرواح بعض مواطنيها من أجل إنقاذ البعض الآخر على أساس المفاضلة أمام عجزها وقلة جاهزيتها لإنقاذ حياة الجميع... ليبقى التساؤل المطروح: مدى صمود النظام العالمي المعولم أمام تحديات واقع ما بعد الجائحة؟
- سمير قط/ أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية -جامعة بسكرة: جائحة كورونا أثبتت هشاشة منظومة العولمة
لأوّل مرّة يشهد التاريخ البشري اِنتشار وباء بهذا الشكل الّذي أصاب كلّ بقاع العالم دون اِستثناء، وجعل كلّ سكان المعمورة تعيش حالة عزل وحجر. ولأوّل مرّة يُصاب الاِقتصاد العالمي بشلل شبه تام وهذا لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية. بحيث توقفت التبادلات التجارية بين الدول. كما قُطِعت كلّ حركات التنقل والتواصل الدولية وحتّى المحلية. هذا الوضع الفريد من نوعه تاريخيًا، أثار تساؤلات عديدة بل ومفارقات كون أنّ اِنتشار الوباء بهذا الشكل السريع والشامل من الصين إلى سائر دول العالم قد عزز الطرح العولمي خاصة في شقه الخاص بعولمة المخاطر. غير أنّ اِستجابة الدول له كانت اِستجابة واقعية؛ بحيث أنّ كلّ دولة اِنكفأت على ذاتها واعتمدت على نفسها وعلى قدراتها بل وقطعت كلّ صلاتها بالعالم الخارجي في صورة كرست الطرح الواقعي في أقسى أشكاله تطرفًا. إلى الحد الّذي جعل الكثيرين يتساءلون هل نحن بصدد نهاية العولمة؟
بمجرّد رواج أخبار اِنتشار فيروس كوفيد-19 في مدينة ووهان الصينية وهي تحصي ضحاياها كان العالم يشاهد تلك الأخبار على شاشات التلفزيون وفي فيديوهات منتشرة على مواقع التواصل الاِجتماعي، غير آبهين معتقدين أنّ الخطر سيكون محصورا في مدينة ووهان وأنّهم في منأى عنه. وبعد أسابيع قليلة بدأت تتسرب أخبار عن اِكتشافه في مختلف المناطق في العالم ليمس بذلك القارات الخمس في مشهد درامي. منتجات العولمة الاِقتصادية والاِجتماعية هي التي ساعدت هذا الفيروس الخفي على الاِنتشار بهذا الشكل الرهيب والسريع خاصة حركة النقل الكثيفة بين الدول براً وبحراً وجواً. فضلاً عن شبكة التبادلات التجارية.
المفارقة أنّ هذه العولمة التي جعلت فيروس كورونا ينتشر بهذه السرعة والكثافة صارت محل تساؤل بعد أسلوب تعامل الدول في مواجهته التي كانت واقعية إلى حد التطرف. فبمجرّد اِنتشار هذا الفيروس اتخذت كلّ دول العالم إجراءات اِستثنائية كان من شأنها الحد من علاقاتها التجارية مع بقية العالم، وقطع كلّ أشكال التفاعل والتواصل وذلك بتوقيف كلّ الرحلات والتنقلات. اِستغل الشعبويون وأصحاب النزعات القومية ذلك بالترويج لسلبيات العولمة وتحميلها مسؤولية الوضع الّذي وصل إليه العالم، وبالتالي أعطت مصداقية لطروحاتهم القائمة على ضرورة التخفيض مِمَا يُسمى بالاِعتماد المتبادل والدعوة إلى اِعتماد كلّ دولة على قدراتها الذاتية، بفرض المزيد من الحواجز القانونية والتنظيمية على حركة التجارة وتنقل الأشخاص بإغلاق الحدود وتخزين الإمدادات الطبية وفرض إعادة تقييم للاِقتصاد العالمي. من جهة أخرى، فقد أثبتت جائحة كورونا هشاشة منظومة العولمة من خلال، عجز الدول المنتجة بِمَا فيها دول عظمى كالولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي على تزويد العالم بما يحتاج إليه من مواد أساسية، سيّما المواد والأجهزة الطبية. التي ثبت أنّ الصين الدولة الوحيدة القادرة على ذلك. وهذا ما جعل البعض يُرجح فرضية أنّ الصين ستكون رائدة في العالم وستخرج بعد محنة كورونا أقوى بلد في العالم وقائدة له. جائحة كورونا وضعت كذلك قوى كبرى على المحك، خاصة الاِتحاد الأوروبي الّذي دخل في دينامية تكامل واتحاد منذ عشرات السنين حتّى بات يبدو من غير المعقول أن يتزعزع هذا البناء القوي. إلاّ أنّ الوباء العالمي جعل هذه الرؤية محل إعادة نظر؛ فقد بينت كورونا أنّ هذا البناء لم يكتمل بعد فقد تصرف أعضاء هذا الإتحاد بأنانية تجاه بعضهم البعض خاصة مع إيطاليا التي بقيت لوحدها تُصارع دون مساعدة. غير أنّنا لا نتفق مع الرأي المُبالغ فيه الّذي يذهب إلى إمكانية اِنفراط وحدة الاِتحاد ونهايته.
في الأخير لا يسعنا إلاّ أن نقول إنّه من السابق لأوانه الحُكم النهائي على أثر وباء كورونا على العولمة فلا يزال الوقت مبكرا على ذلك. غير أنّ الأكيد أنّ هذه الجائحة ستعلم الدول الكثير من الدروس ربّما أولها ضرورة الاِعتماد على النفس وتثمين دور العِلم والعُلماء. كما سيكون أكيدا أنّ هذا الوباء سيُحدث تغيرات ولو نسبية في الخارطة الإستراتيجية العالمية فستبرز دول وستتراجع أخرى.
- محمّد الطيب حمدان/ أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمّد خيضر بسكرة: من المستبعد أن يعود العالم إلى فكرة العولمة لأنّه سيصبح أقل اِنفتاحًا
مِمَا لا شكّ فيه أنّ عالم ما قبل جائحة كورونا لن يكون عالم ما بعد كورونا، بدليل أنّ هذا الفيروس يشن حربه على العالم أجمع وليس له هدف محدّد أو دولة بعينها، وكأنّه اِستفاد من العولمة وأصبح عالميًا باِمتياز فهو اِنتشر بفضل شبكة النقل الجوي والبحري العالمية ووهي أحد أهم مظاهر العولمة اليوم، فهو معولم من حيث اِنتشاره ولكنّه قومي وطني في التعامل معه. كيف ذلك؟ من خلال ما شهده العالم من اِنكفاء للدول حول نفسها واِتخاذها قرارات سيادية بغلق الحدود الجوية والبرية وعدم الاِستجابة لنداءات الاِستغاثة من جيرانها وخير دليل المجموعة الأوروبية التي شهدت عودةً للقرصنة في مشهد يُذكر البشرية بحقب الفايكنج والقراصنة الأوروبيين في القرون السابقة.. وعليه نطرح السؤال التالي ما هو مصير النظام الدولي والعولمة ما بعد جائحة كورونا؟ هل ستعزز قوّة الدولة الوطنية؟ أم هل ستبقى العولمة أحد أهم مظهر يُميز العالم اليوم؟
عالم جديد، من خلال ما شهدناه من الإجراءات التي قامت بها الدول والتي سبق وذكرتها سابقا من غلقٍ للحدود وغياب التضامن الدولي والأخلاق وحتّى الإنسانية. إنّ الجائحة ستسهم في تقوية الدولة وتعزيز الوطنية، بدليل أنّ الحكومات في مختلف أنحاء العالم تبنت إجراءات طارئة لإدارة الأزمة المُتمثلة في تفشي الوباء، وهي أي الدول لن ترغب في التخلي عن السلطات الجديدة عندما تنتهي الأزمة.
كما يمكن أن يُسَّرِع اِنتشار الوباء وتيرة تحوّل السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق ويُدلل على ذلك باِستجابة دول شرقية لمواجهة المرض مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة بشكلٍ أفضل من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، كما أنّ تعاطي الصين مع الوباء كان جيدا بالرغم من تعثرها في البداية عند اِكتشاف الفيروس، كما إنّ الاِستجابة البطيئة والمتخبطة في أوروبا وأميركا من الأشياء التي شوهت الهالة التي طالما أحاطت بالتعامل الغربي.
الوباء المُنتشر حاليًا لن يسهم في تغيير السياسة العالمية السائدة التي يطبعها الصراع والتنافس بدليل أنّ الأوبئة التي مرّت على البشرية من قبل لم تضع حدا للتنافس بين القوى العظمى ولم تكن نقطة بداية لحقبة جديدة من التعاون العالمي.
كما أنّ المعركة ضدّ الوباء الحالي ستنتهي لتصبح على عالم أقل اِنفتاحًا وأقل اِزدهاراً وحريةً نظرا لتضافر عوامل عِدة، من ضمنها سرعة اِنتشار الفيروس في العالم وخطورته على الصحة العالمية والتخطيط غير المناسب لإدارة الأزمات في الكثير من الدول المتقدمة والتي كانت تعتبر نموذجًا يحتذى به وغياب مظاهر التضامن بين الدول.
إنّ جائحة فيروس كورونا قد تكون القشة التي قصمت ظهر بعير العولمة الاِقتصادية. ويرجع ذلك إلى عوالم قبل ظهور الوباء، من ضمنها القلق الأمريكي من تنامي القوّة الاِقتصادية والعسكرية للصين والّذي أدى إلى إجماع سياسي على فصل الصين عن التكنولوجيا العالية التي تمتلكها الولايات المتحدة ومحاولة حمل حلفاء أمريكا على أن تحذو حذوها. فقد أجبر تفشي الفيروس الحكومات والشركات والمجتمعات أيضا على تعزيز قدرتها على التعامل مع فترات طويلة من العزلة الاِقتصادية الذاتية، ومن المستبعد في ظل كلّ ما سبق أن يعود العالم إلى فكرة العولمة ذات المنفعة المتبادلة التي تميز بها القرن الحادي والعشرين.
بالنسبة للدور الصيني فتعامل الصين مع الوباء كان ملازما بطليعة النظام السياسي فمظاهر القمع والقدرة على العزل وإغلاق المدن ودمج التكنولوجيا مع السياسة كانت نتائجه جيدة بالنسبة للصينيين وكان الإسراع الصيني لفتح مدينة ووهان له دلالة على أنّ الصين نموذج متكامل للتعامل مع الظروف الطارئة في ظل فشل الدول الغربية قاطبة في التعامل مع الجائحة.
أمّا على الصعيد الاِقتصادي العالمي فإنّ الجائحة لن تُؤثر كثيرا على الاِتجاهات الاِقتصادية العالمية ولكنّها ستسهم في تسريع تغيير كان قد بدأ بالفعل، هو الاِنتقال من العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة إلى عولمة تتمحور حول الصين نظرا لِمَا تملكه من قوّة تجارية واِقتصادية تعززت مع التخبط الأمريكي. وبالتالي أصبح هذا السيناريو أكثر ترجيحًا في ظل فقدان الولايات المتحدة الأمريكية لجاذبيتها العالمية، كما أن اِنفتاح الصين على العالم خلال العقود القليلة الماضية أثمر اِنتعاشًا اِقتصاديًا وعزز ثقة الشعب الصيني بثقافته، فبات الصينيون قادةً وشعبًا يؤمنون بقدرتهم على المنافسة في أي مكان من العالم.
إنّ عالم ما بعد كورونا أعتقد أنّه لن ينظر مُجددا إلى الولايات المتحدة كدولة ريادة وقيادة نظراً لفشلها الذريع في إدارتها للأزمة داخليًا وخارجيًا، حيث غلبت المصالح الذاتية الضيقة على حساب التضامن الدولي الّذي كان من المُمكن أن تكون سباقة له وبالتالي قد فشلت في اِختبار قيادة العالم اليوم الّذي اِستطاعت الصين أن تملأ هذا الفراغ بدبلوماسية طبية وسعيها لتقديم المساعدة للدول المتضررة عامة والأوروبية بشكل خاص.