محمد جديدي
يسود الاعتقاد بأن وسائل التواصل الاجتماعي باعدت بين الإنسان والإنسان ذلك أنها نقلته من الواقعي إلى الافتراضي فجعلت هذا الأخير واقعه الحقيقي وبأكثر مما هو عليه في حقيقة واقعه. لكن جائحة كورونا قلبت المفاهيم رأسا على عقب أو على الأقل بعثت في النفوس فكرة مراجعة بعض البديهيات وأن الأفكار تقبل عكسها بحسب الظروف والأزمان. هذا ما وقفنا عليه ونحن نعيش وباء كورونا، إذ بين عشية وضحاها تغيرت كثير من المسلمات الخاصة بالتواصل وبات الافتراضي في التواصل أفضل من الواقعي وبحكم التدابير الوقائية لتجنب العدوى صار العمل عن بعد والدراسة عن بعد والتسوّق عن بعد بل والتواصل عن بعد أي التباعد قدر المستطاع هو المفضل في ظل وجود فيروس يشاع أن انتقاله يكون عبر التقارب.
كيف لا يكون محبذا ؟ بل ومطلوبا جدا هذا النوع من التواصل عن بعد وهو يمثل وسيلة مثلى بل وغاية قصوى يرجى بلوغها بعد أن بات من الضروري التباعد واقعيا. هكذا في الوقت الذي يعني التقارب الشخصي خطرا يوجب احترام مسافة بين الأشخاص توخيا للسلامة انتقل هذا التقارب عبر وسيلة التواصل الاجتماعي. وبدلا من ذم هذه الوسيلة التي ركن إليها الناس واستحسنوها كتعويض سهل وبسيط يقيهم عناء التنقل الشخصي وبذل الجهد المكلف للقاء فوجدوا فيها ما يفي بالغرض بحسب تقديرهم وإن كانت لا تغني عن حميمية اللقاء وحرارته عند الحضور الجسدي والالتقاء وجها لوجه بدلا من اتخاذ وسيلة ما كقناع والاكتفاء بها عن التقابل والتقارب الإنساني الذي كانت تفرضه مناسبات وواجبات لا محيد فيها عن ضرورة التنقل لأجل التقابل والتقارب الشخصي.
بالعكس اليوم صارت الرسائل التي نبعث بها ونتواصل عبرها مع غيرنا تؤدي الواجب أو أنها كذلك بحسب ما نتصوره حتى في المواقف الحرجة والمناسبات العزيزة. يكفيك اليوم أن تواسي قريبا أو صديقا بكلمتين في مصابه وفي ظنك أنك أديت واجب العزاء أو إن هنأته على فرح أو مناسبة سعيدة. ومما زاد في ترسيخ فكرة التباعد الواقعي هذه وتعميقها أن تدابير الوقاية من فيروس كورونا تقضي بعدم الاقتراب والتقارب بين الأشخاص إلى درجة أن البعض ألغى الزيارات العائلية والصديقة وتمّ الاكتفاء والاستعانة بالتواصل عن بعد واللجوء إلى الفضاءات الافتراضية.
هكذا استبدلنا في زمن كورونا واقعنا الحقيقي بواقع افتراضي واستخدمنا ما أمكن من الوسائل والفضاءات الافتراضية (تطبيقات الهواتف الذكية والكومبيوتر والفايسبوك وتويترو أنستغرام) لكسر جمود وحصار فرضه علينا فيروس فتحولنا من تقارب إلى تباعد ومن تباعد إلى تقارب ولكن في اتجاهين مختلفين.
والسؤال الذي سيظل مطروحا: هل حررتنا وسائل التواصل مما فرضه علينا الواقع ومكنتنا في الافلات من العوائق الجديدة أمام التواصل الإنساني ؟ أم أنها عمقت من تهاوي إنسانيتنا بعد أن سيّجت التقنيات تواصلنا وأملت علينا حدودا غير معهودة في تعاملاتنا فزادت بذلك من توسيع فجوة التواصل الإنساني ؟