أ.سارة وشفون
يبتدئ الفيلم بلقطة كليّة تم تصويرها وفق زاوية عين الطائر تظهر فيها سيارة بعيدة وهي تشق طريقها ليلا نحو وجهة مجهولة، يتبيّن فيما بعد أن سائقها رجل ستيني يقصد مقاطعة (بتلر) في (بنسلفانيا) بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث تتواجد هناك مقبرة جماعية دفن فيها مئات البشر ممن فتكت بهم الإنفلونزا الإسبانية التي انتشرت أعقاب الحرب العالمية الأولى وحصدت نحو مئة مليون روح عبر العالم.
يقف الستيني دينيس كارول مدير وحدة التهديدات الناشئة بالوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية متأملا شواهد القبور المتراصة، معلقا على هذه الكارثة التاريخية بأنها نوع من أنواع المذابح التي لا يمكن أن تحال إلى التاريخ المنسي خاصة عند الحديث عن وباء انفلونزا مرتقب، فالأمر هنا ليس مسألة افتراض ولكنه مسألة ميقات فحسب.
إن اعتماد المخرج ماكغاري (وهو طبيب أمريكي) على هذه الافتتاحية ودعمها بلقطات أرشيفية لمستشفيات تعج بالمرضى وبصور مقابر تكدّست فيها الجثث مرفقا ذلك بموسيقى تصويرية تراجيدية يعد بمثابة استعارة تصريحية بليغة تمّ حذف المشبه منها وهو الوباء المرتقب والإبقاء على المشبه به وهو الانفلونزا الاسبانية، ليقحم المشاهد في هاجسه المركزي وهو التأكيد على العود الأبدي للوباء على اعتبار أن ما يحدث الآن هو جزء من دورة مكررة أو سلسلة لا متناهية من الحوادث المتعاقبة تشبه تتابع الليل والنهار، وتحقق الموت بانتهاء الحياة، وزوال الألم بحلول السعادة، وتفشي وباء فتاك بعد اندثار آخر، هي فكرة شبيهة بأسطورة طائر العنقاء الذي يحرق نفسه ليولد من رماده طائر عنقاء جديد.
ما انفكت هذه الفكرة تفرض نفسها على سياق الفيلم بتمديد زمنه الدرامي إلى ستة حلقات؛ تتكئ كلّ واحدة منها على نسق سردي متوازي، تتعاصر فيه الأزمنة وتختلف فيه أمكنة تواجد الشخصيات الرئيسية للفيلم، هذه الشخصيات التي تم انتقاؤها للتمثيل الوثائقي بعناية فائقة فجلّهم علماء أوبئة وأطباء أمراض معدية أو تنفسية وبعضم ممرضون ممن كرّسوا حياتهم للعمل الخيري، كلّ هؤلاء المنتمون للمنظومات الصحية وفي أماكن مختلفة من العالم على غرار الهند ومصر والكونغو والولايات المتحدة الامريكية، تم اختيارهم من هذا المجال بالتحديد وبهذه التعددية المكانية لكونهم الأقدر على إقناع المتلقي بحجم الكارثة المرتقبة، حيث تعتبر شهاداتهم التخصصية نوعا من أنواع الحجاج العلمي للبرهنة على أن مسألة تفشي وباء جديد ينتقل عبر الحيوانات هو أمر مفروغ منه.
ولأنّ كل لقطة من الفيلم تنطق باقتراب الجائحة اعتنى المخرج بإظهار آليات الاستعداد لمواجهتها، واهتم ايّم اهتمام بإبراز الجهود المبذولة للتصدي لهذا الخطر الوجودي الوشيك، من طرف القائمين على الأنظمة الصحية باعتبارهم من سيقف في الخطوط الأمامية عند نشوب الحرب، فصورهم لنا وهم يصارعون تحديات مختلفة، فمنهم من يجاهد نفسه للتغلب على قساوة الظروف المهنية كانهيار المنظومة الصحية في الهند وعجزها عن مواجهة انفلونزا الخنازير، ومنهم من يواجه خطر الميليشيات في الكونغو حيث تحرق هناك المراكز الطبية ويرتعب الناس من طلب المساعدات الطبيّة اذا ما أصيبوا بالإيبولا، وآخرون يتحدون أجسادهم المنهكة أمام مناوبات قد تستمر إلى 72 ساعة بشكل متواصل، وعلماء يبحثون عن ممول يؤمن بمشروع تطوير لقاح عالمي لكلّ أنواع الانفلونزا.
كلّ هؤلاء وبالرغم من اختلاف معاركهم إلا أنّهم ينتصرون دائما ولنفس الدافع والذّي عبرّت عنه إحدى الشخصيات الرئيسية في الفيلم بقولها يتوقع منّا الآخرون أن نكون ابطالا خارقين... بهذه الجملة الكثيفة اختزلت هولي كوراغي -الطبيبة الوحيدة في مقاطعة جيفرسون- صورتها في أعين مرضاها، وكيف يعينها أملهم بها على المقاومة والتفاني أكثر متجاهلة تواجدها في بيئة محفوفة بالمخاطر تتهدّدها بانتقال العدوى في أي لحظة ولأهون سبب، ليتردد هذا المعنى أي البطولة الخارقة لأكثر من مرة وفي أكثر من مشهد بالفيلم سواء بأسلوب مباشر أو ضمني كتعبير مجازي يحيل إلى نبل الأطباء وتفانيهم في عملهم.
وكي يثبت المخرج أن البطولات لا تتحقق دون تضحيات جسيمة راح يراهن على بشريتهم وعلى طاقاتهم المتباينة التي تشتعل أحيانا وتخبو أخرى، وذلك بتسريب الكثير من سيرهم الذاتية وتصوير مشاهد لأبطاله وهم يمارسون تفاصيل حيواتهم الروتينية من طبخ وتربية أطفال ولحظات عبادة، تتخللها شذرات سردية يسترجعون فيها ذكريات أليمة كان بمقدرتها تدميرهم لكنهم تجاوزوها وجعلوا منها دافعا للنجاح.
يتبدى لنا مما سبق أنّ هذه السلسلة الوثائقية والتي انتجتها شركة نتفليكس NETFLIX ليست مجرد سلسلة عادية بل هي حالة جمالية ساحرة انسجمت فيها شعرية الصورة مع مضامينها وأدى فيها الإمتاع البصري دورا بلاغيا للتأثير على مشاعر المتلقي وإقناعه بالعود الأبدي للوباء، متمردة بذلك على الدور الكلاسيكي للوثائقيات وهو التسجيل والتأريخ متسلحة بالتخييل والاستشراف الطبي، لتبني في النهاية موقفا علميا دقيقا من واقع الأوبئة ومستقبلها.
يصحبه موقف إنساني حاسم من بطولة الأطباء وقدرتهم على مواجهة هذا الخطر الوجودي المرعب، غير أنّ ما يؤخذ عليه وفي هذه الجزئية بالتحديد هو تجاوزه لمفهوم أيقنة الأطباء والنزول بهم منزلة التقديس، حيث تم تصويرهم بذاتية محضة تراهن على مثاليتهم ونبلهم وكأنهم شخصيات هاربة من المدينة الفاضلة متجاهلا تماما أن اليوتوبيا دائما ما تصطدم بالديستوبيا أو بما يعرف بالواقع المرير الذي أقل ما يذكر من ملامحه هو تجارة الأعضاء البشرية التّي يساهم في رواجها ثلّة من الأطباء الفاسدين. وبالنهاية يمكن القول إن وثائقي الجائحة وفّق في الإجابة عن سؤال: ما الذي سيحصل؟ وكيف سيحصل؟ ومن سيواجهه؟ لكنّه تركنا أمام نهاية مفتوحة فيما يخص الإجابة عن سؤال متى سيحصل ذلك؟ ليأتي الخبر اليقين مطلع هذا العام بتفشي وباء كرونا وفي نفس الوقت الذي انطلق فيه عرض السلسلة الوثائقية محل الدراسة على منصة نتفليكس.
الأستاذة سارة وشفون، باحثة مختصة في السيميولوجيا بكلية الاعلام والاتصال بجامعة صالح بوبنيدر- قسنطينة