يمكن اعتبار جائحة فيروس كورونا «واقعة اجتماعية جامعة» على حدِّ تعبير إميل دوركايم، وهي واقعة لها مظهرها الصحي، لكن أيضا لها آثارها السياسية والاقتصادية، والعلائقية. فالمعروف أن المجتمعات الإنسانية تخضع لحتمية التحوّل والتغيّر سواء كان ذلك لنتيجة محسوبة ضمن مشروع مجتمعي قائم، أو لمسببات مفاجئة تخرج عن السيطرة الإنسانية كما يحدث اليوم مع «فيروس كورونا» الذي أدخل العالم في حالة من اللاّاستقرار واللاّأمن كرسائل للحداثة ومنجزها الاجتماعي.
كريمة بن درّاج/ أستاذة علم الاجتماع-جامعة قسنطينة 2
إن العزل والحجر الصحي من شروط محاصرة هذا الفيروس لأنه يتكاثر في التجمعات، ما يحيلنا إلى الاجتماع الإنساني عندما تحول إلى قرية صغيرة بفضل منجزات الحداثة التي حققت القرب الحقيقي عبر انتشار المجالات الحضرية وتكاثر المدن، كما ضبطت الزمن والجغرافيا عبر تقريب المسافات بتطور وسائل النقل.
لكن بعد «كورونا» أُلغِيَ «المشترك» من فضاءات عامة كالمقاهي والمطاعم والعروض الثقافية والرياضية بعد أن أصبح مصدرا للخطر، تاركا فقط المتماشي وفكرة العزل والانعزال القسري من خلال الحجر الصحي وحظر التجوال هادما فكرة حرية الفرد كأساس جوهري للحداثة.
عادت السلوكات التضامنية كظاهرة لافتة للنظر بسبب الأزمة، ففي التجمعات السكنية الكبرى خاصة الغربية منها عاد الجيران للتحدث مع الجيران وبادر الشباب بتقديم خدماتهم للأكبر سنا بعدما فرقتهم مجهولية وفردانية الحياة الحضرية. حتى الشركات الفرنسية الكبرى مثل L’Oreal, Clarins, LVMH تخلت عن تصنيع منتجاتها من العطور ومواد العناية بالبشرة لصالح منتجات الوقاية من كمامات ومحاليل التعقيم لتقديمها لعمال الصحة في المستشفيات.
أمّا في السياق الجزائري، فقد دفع الوباء بالجمعيات إلى التضامن الاجتماعي بين مختلف الأفراد والجماعات الاجتماعية، و تقديم المساعدات الغذائية والطبية.
لكن ماذا سيحدث لهذه الطقوس بعد انتهاء الوباء؟ هل سيستمر هذا الشكل الجديد للمؤانسة والتضامن؟ هل ستتغير العلاقات الأسرية و الاجتماعية وعلاقات العمل؟
يحق لنا على هذا الأساس أن نتساءل: هل تعاطي المجتمع الجزائري بشكل مباشر أو غير مباشر مع هذه القضايا التي يشترك فيها مع المجتمع الإنساني يثير مزيدا من الأسئلة حول امتلاكنا لقدرات لمواجهتها، وكيف يتم ذلك؟ وهل هي فرصة للتخلص من الريع وتكريس تحوّل اقتصادي حقيقي؟ هل «الكورونا» فرصة لبراديغم جديد من الناحية الأكاديمية، والتفكير في أزمة صحية طرحت أزمات متعددة الأبعاد والجوانب؟ هل هي أزمة هيكلية أم ظرفية؟ ماهي قدرات المجتمع بكل أطيافه في مواجهتها؟ هل بمقدور السياسي تعبئة المجتمع للتصدي لأزمة هي في بدايتها ومرشحة لأن تدوم؟ وما هي الإشكاليات التي يجب التفكير فيها على المدى الاستعجالي الآني، وعلى المديَيْن المتوسط والبعيد؟
واقع الأزمة وأزمة الواقع
فرض الوباء -الذي لا تُعرف نهايته- نوعا من الخوف والتوجس واللايقين خاصة أمام عجز العلم عن تقديم إجابات نهائية، ما أدّى إلى التشكيك في الخطابين السياسي والعلمي، حيث استطاع الفيروس أن يسائل حتى تخصصات الطب الجديدة، أو ما يعرف بالطب الاستشرافي La medecine Predicive التي تتحدث عن قدرتها الاستشرافية.
ورغم كون «كورونا» أزمة صحية عبأت ومنذ البدء العلوم الطبية-البيولوجية والفيروسية، إلا أنها مع تطورها وديمومتها زمنيا، استوقفت العلوم الاجتماعية برمتها، لتبحث في آثار الفيروس على العلاقات الاجتماعية وكيف انكفأ المجتمع على نفسه مبتكرا آليات جديدة للتعبير عن علاقات افتراضية للتواصل، وصارت البيوت والحياة الخاصة تُصَوّر ويطلع عليها الملايين من البشر في مجتمع يقدس الحياة الأسرية ويحرص على سرية علاقاتها.
كما بحثت هذه التخصصات في كيفية تعامل الحكومات مع الأزمة الاقتصادية وآثارها على الأفراد وساءلت الأنثروبولوجيا مدى إدراك مجتمعات لخطورة الأمر، فيما أخرى تستخفُّ بإجراءات الحجر والوقاية؟
ورغم عجز الافتراضي على تعويض طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الطبيعية، إلا أن الحجر الصحي المفروض أبَان أهمية الرقمنة في العمل وفي التعليم مُوضِّحا مستوى تطور المجتمعات وإمكانية قدرتنا على حيازة هذه الثقافة بالنظر لضعف البنيات التحتية كتدفق الإنترنت وحجمه واستعماله في اقتصاد هش وفي مؤسسات مازالت بعيدة عن كسب رهانها كخيار جديد يعزز استعماله مستقبلا، ليس فقط لأن الفيروس والعزل الاجتماعي والحجر الصحي يفرضه، بل، لأنه الخيار الداعم لدخولنا الحداثة ومواكبة التطور الاقتصادي.
فرض «كورونا» أيضا التفكير في علاقة العالمي بالمحلي، الدولة –الأمة بالتكتلات الإقليمية، وفي كل «الما بعديات» التي انهارت كفكرة وممارسة: الدولة تنكمش على ذاتها، تُرَحِّل رعاياها، تغلق حدودها، ترفض بيع منتجاتها الاستراتيجية، كالقمح والأرز، صارت الأموال لا تشفع للشعوب التي تحوزها ولا تؤمن غذاءها.
كل هذا جعل الاعتقاد في النظام الدولي والعلاقات الدولية مجرد وهم، فالعزلة وانعدام الثقة هو ما يعكس النظام الحالي، وهو ما يقوض التضامن العالمي، فحتى الاتحاد الأوروبي الذي كان من المفروض أن يقدم مشهدا راقيا للتعاون والتضامن الإقليمي، فشل في لعب هذا الدور، فما حدث لإيطاليا أكبر مثال على تصدع الاتحاد الأوروبي الذي ترك كل دولة تدافع عن نفسها، وهذا مؤشر مستقبلي قريب لتفكك الاتحاد أو خروج دول أخرى بعد بريطانيا. وكذلك بعد التجربة التكاملية التي كشف الفيروس عن هشاشتها، هل سنفكِّر في مفاهيم السيادة والأمن الاستراتيجي الغذائي بشكل جديد؟ وما يليهما من رؤى جديدة للاستهلاك وحتميات تكريس ثقافة الادخار مستقبلا؟
- الدولة والمجتمع أمام حقيقة الأزمة
حسب علوم الأزمة مثلما صورها ادغار موران، لا يجب التفكير في السبب، بل، في الجديد الذي طرحته أسباب تاريخية مختلفة وتراكمات، حيث تبدأ الأزمة حينما يكون من الصعب تجاوز تداعياتها ظرفيا.
فمن الناحية السوسيولوجية وفي سياق المجتمع الجزائري ترتب عن إجراءات الحجر الصحي قطع العلاقات المهنية وتعطيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وهذا التحوّل الاجتماعي الذي فرضته هذه الأزمة الصحية دفعت الفئات الهشّة اجتماعيا ضريبته، خاصة المشتغلون بالقطاع الاقتصادي غير الرسمي، حيث 50% من الأموال والعمالة خارج رقابة الدولة، تتضمن فئات عاملة مصنفة من منظور سوسيولوجيا المعيش اليومي (الفئات الاجتماعية العاملة في قطاع الخدمات و البروليتاريا الهشة)، والتي تعتمد على عمل ومدخول يومي يجعلها اليوم ضمن أو تحت خط الفقر، خاصة على مستوى المدن والمراكز الحضرية.
وقد أظهرت الكثير من الأبحاث المنصبة على جوانب مختلفة من أنشطة القطاع غير الرسمي، أن العاملين في هذه الأنشطة يعانون من مستويات عالية من الأمية، ولديهم مداخيل متدنية أقل ثباتا وانتظاما مقارنة بالمداخيل في أنشطة القطاع الرسمي، وهم يعانون من ساعات عمل أطول ومن غياب أشكال التنظيم والتمثيل والمفاوضة الجماعية، ولأنظمة الحماية الاجتماعية.
إن سلوكات الحذر والمسافة الصحية، التي نرددها سلوكات مكلفة: فوضع الأقنعة الواقية واستعمال المحاليل المعقمة والمضادة للبكتيريا، والالتزام بالبيت وعدم الخروج إلا للضرورة القصوى غير متاح للجميع، فكيف لهذه الفئات العريضة التي تضطر للخروج لكسب القوت أن تحترم قواعد الحجر التي تستلزم تكفلا تاما من قبل الدولة ومؤسساتها؟، وهنا لابد من السؤال أيضا عن حجم الفئات التي تعيش خارج إطار الاقتصاد المنظم والتي تضطرها ظروفها الصعبة للخروج بشكل متكرر.
وقد استغل الريع للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وفي غياب بطاقية اجتماعية دقيقة للساكنة، فقد أثبتت كل محاولات التضامن المجتمعي من خلال النداءات الكثيرة للحركة الجمعوية، الدولة ورجال الدين محدوديتها أمام تشكل الطوابير عل أبواب البلديات والجمعيات للفوز بإعانة أو قفة للاستهلاك كتناقض صريح مع ما تدعو إليه المؤسسات الصحية ومع ما سنته الدولة من إجراءات للحجر الصحي.
كما أبان كورونا عجز الجماعات المحلية سواء في رصد الأموال أو تنظيم التضامن الاستعجالي، أولا لأنها فاقدة لاستقلاليتها المادية من جهة، ومن جهة ثانية، لكونها لا تعتمد على الكفاءات في الشق الاجتماعي والاقتصادي لهيكلة وتنظيم و تأطير المجتمع في مثل هذه الأزمات.
وعليه، وبالرغم من 17 مليارا تحويلات اجتماعية وكرم المجتمع الجزائري، إلا أن التضامن لم يكف للحد من أخطار مسألة اجتماعية تلوح في الأفق، فالبرغم من استفادة فئات لا بأس بها من المعوزين من الدعم الرسمي، إلا أن هناك فئات أخرى أكثر معاناة تعتبر نفسها غير معنية بكل هذه التدابير الاحترازية.
كما أبانت هذه الأزمة الضعف البنيوي للقطاع الصحي ووجود كفاءات دون إمكانات نتيجة للهدر الممارس على عنصريه البشري والمادي، وكل الصعوبات التي تواجهها المستشفيات اليوم في مواجهة الفيروس، إنّما نتيجة لعدم الاستثمار العمومي في القطاع، وتبعيتنا لدول أجنبية في تصنيع مواد استراتيجية وحيوية (الكمامات، الأجهزة والأدوية).
- أزمة مستعجلة تستلزم إجابات مستعجلة
يمكن أن تكون الأزمة فرصة سياسية، اقتصادية واجتماعية لتغيير المجتمع، حيث تسمح للحكومات باتخاذ قرارات لم تكن لتتخذها في ظروف أخرى، ففي باريس مثلا في القرن 19 سمح وباء الكوليرا بإعادة التفكير في شبكات الصرف الصحي وتجديدها واغتنمت السلطات الفرصة لتغيير هندسة العاصمة الفرنسية
على هذا الأساس يمكن تقديم هذه المقترحات الاستعجالية وعلى المديين المتوسط والبعيد:
- على المستوى الاقتصادي:
تحتاج الأزمات لتجاوز أزمة الأهداف، أي تحديد الأوليات وعدم فتح كل الورشات، ففي سياق واقعنا الجزائري وأمام هشاشة اقتصاد يعتمد على الريع البترولي يتحتم على الدولة تبني قرارات استعجالية، كالتوجه صوب الفلاحة حتى وان غابت الاستثمارات الأجنبية أو المحلية، فالدولة مجبرة في ظل هذه الأزمة على أن تتحوّل إلى دولة مقاول لتضمن استقلالية غذائية بات أمرها استعجاليا أمام رفض الدول لبيع المواد الغذائية كإجراءات استراتيجية خوفا من تداعيات الأزمة.
- التركيز على الطاقات البديلة والمتجددة،
- تأسيس لجنة وطنية لوضع خارطة طريق لاقتصاد استعجالي يتناسب وما تطرحه أزمة كورونا من تحديات.
- فتح نقاش في الفضاء العام: أحزاب، مجتمع مدني وخبراء لتحديد الأوليات الاقتصادية للدولة ومجال تدخلها.
- على المستوى الاجتماعي:
إذا كان الكل متفق على أن الحجر الصحي هو إجراء عقلاني لمكافحة الفيروس، يبقى ما يثير النقاش بالنظر للمشهد الاجتماعي الجزائري هو، هل يمكن ممارسة هذا الغلق لآجال غير معروفة في واقع ستصبح مؤسسات القطاع الخاص فيه بحاجة لسياسة دعم وإنقاذ بالنظر للأعداد الكبيرة التي توظفها، زيادة عن العمال اليوميين الموجودين خارج التغطية الاجتماعية مع غياب بطاقية اجتماعية وطنية تمكن من معرفتهم كي يستفيدوا من إعانات ظرفية؟ ثم، هل ستسمح الظروف المالية للدولة بتقديم إعانات مقبولة تتفادى من خلالها شبح الاحتجاجات مستقبلا؟
إن هذا التصوير المقتضب للمشهد الاجتماعي يجعل من التضامن عنصرا أساسيا في الأحياء والقرى والبلديات لتقديم الإعانات وتنظيمها تفاديا للتنقل، وبدلا عن تقديم الإعانات العينية المباشرة يتعين تقديم إعانات مالية للمؤسسات للحفاظ على مناصب الشغل مع الرفع الجزئي للحجر، والتشديد على احترام التباعد طالما أن تواريخ زوال هذا الفيروس مجهولة.
كذلك، معاودة النظر في سياسة اجتماعية تخضع لحكامة، تستند إلى مقاربات علمية كالعمل الاجتماعي وجهاز قوي للإحصاء لجعل التضامن حق من حقوق الإنسان لا يخضع لثقافة الشفقة والصدقة ، وهنا بمقدور الجامعة أن تطرح عروض تكوين في هذا المجال : ماستر للعمل الاجتماعي في الجزائر أو ماستر لتسيير المخاطر مع إمكانية المساهمة بمخبر للمساءلة الاجتماعية والتضامن في الجزائر يشكل منطلقا لدراسة التغيرات الاجتماعية للديموغرافيا للفئات الهشة، للبطالة وللشباب ، يُمكِّن السلطات العمومية من تبني سياسات اجتماعية عادلة ودائمة.