أي دور للثقافة في زمن الأزمات والكوارث والمحن، ما الّذي يمكن أن تقدمه للفرد والمجتمعات في ظل أزمات طارئة، مثل الأزمة الوبائية التي اِكتسحت كلّ العالم تقريبًا. هل بإمكان الثقافة أن تكون دعامة حقيقية في مثل هذه الظروف؟ وهل يحتاج الإنسان أو العالم إلى الثقافة وهو يُعاني من أزمات معينة، وهل يمكن للثقافة حقًا أن تُقدم المرجو والمأمول والمُنتظر منها دائمًا، حتى وهي تعاني جراء هذه الأزمات؟ وما مدى حاجة المجتمعات إلى الأمن الثقافي، وما الّذي يجب أو يمكن أن يوفره الوعي الضروري بمسألة الأمن الثقافي وأهميته للأفراد والمجتمعات والدول.
حول هذا الشأن «الثقافة والأزمات»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
حبيبة العلوي/ كاتبة وناشطة ثقافية وأستاذة جامعية : الثقافي يمكن أن يُقدم بعض الحلول لعالم متأزم
بعض المُؤشرات السريعة قد تُخبرنا عن المساحات الاستعجالية لتدخل الثقافة في مرحلة اِنتشار الوباء، فقد رأينا جميعًا كيف باشرت العديد من المؤسسات الثقافية المدنية والحكومية في إتاحة موادها واِنتاجاتها للجمهور بالمجان، علّها تُعين الأفراد في مرحلة الحجر الصحي.. لقد اِنتشرت هذه الممارسة التطوعية تمامًا كعدوى من الإيجابية في محاولة لمحاصرة آثار الحجر النفسيّة، صَاحَبَ هذه المبادرات المؤسساتية مشاركة فنانين وكُتّاب لمنتجاتهم القديمة والحديثة مع جمهورهم، لا نمتلك اليوم إحصاءات عن نسب الإقبال على هذه الإتاحة الاِستثنائية لفضاءات ومواد ثقافية لم تكن تتداول إلاّ بمقابل.
من جهة أخرى رأينا كيف أقبل الأمريكيون مثلاً قُبيل الحجر الصحي على اِقتناء الكُتب والأسلحة في مفارقة صاعقة. تُمثل هذه الصورة مُمارسة ثقافية جمعية، قد تُترجم رغبةً في الهروب من الخوف والفراغ. إنّ هذا الإنسان يُريد أن يقرأ بيدٍ ويقتل بالأخرى، وهذا ما تدعوه إليه الضرورة على ما يبدو!
يبدو هنا الثقافي حاجة حيوية يطلبها الإنسان في أشد الأوقات حرجًا.. لكن السؤال الأكثر حرجًا قد يكون هو: عن أي ثقافة يبحث هذا الإنسان وأي ثقافة يمكن أن يَمنح لأجل صناعة إنسان أظرف أو لنقل «أكثر إنسانية/أقل توحشًا»؟
إنّ ما يُنتجه الإنسان من ثقافة هو نتاج أيضا لصراعاته وضآلاته، لحياته القاسية والتي تنحو إلى الأنانية كلّ يوم أكثر. فهل يمكن أن نعتقد ببراءة أنّ الثقافة مبرأة الساحة مِمَا يصنعه ويخلّقه الإنسان من فساد؟! ألا تعيش الثقافة في حد ذاتها أزمة وجودية، أو لنقل على الأقل المشهد الثقافي العالمي؟
يُفترض في المنتج الثقافي أو لنقل الإبداعي أن يحمل أحسن ما في ذات المبدع؛ لا نقل المثالي ولكن جوهر ما يُفكر فيه ويشعر، رؤيته عن العالم والحياة وما يفترض أن يصير إليه. هنا الثقافي يمكن أن يُقدم بعض الحلول لعالم متأزم، قد تتبنى على مدى قريب أو بعيد، وقد تطرح وتغيّب.
غير أنّ المُسمى «ثقافي» ذاته قد يُشارك في صناعة الأزمة أو يخلقها، فالمنتجات الثقافية المصنّعة في حاضنة المؤسسات التجارية الكُبرى والتي يتحكم فيها رأس المال والسياسة لا يُضمن أثرها الإنساني دومًا. وقد تشكل أداة مكافئة تمامًا للسلاح المُوجّه في وجه البشرية.
لهذا أعتقد أنّ مثل هذه الأزمات الصحية التي تتحوّل بتفاقمها إلى أزمات وجودية، تضع الإنسان في وضع يستدعي التفكير في قيمة ما يستهلكه وما يُنتجه، في ضرورة إعادة النظر في الآلة الكبيرة المصنّعة للأفكار المُهيمنة على العالم، المُشَّكلة لثقافاته المتصارعة، أمام هذا السؤال الكبير المُواجه لتوحش العالم هل يستطيع الفرد أن يتحرك؟ هل يمكن للفعل المنفرد والمعزول أن يُحرّك الراكد والمُكرّس؟! هنا يبرز دور المبدع/النشط؛ النابض المتفاعل مع الآني والمتواصل مع فرادته غير المُستسلم لقانون الأمر الواقع، ومُبدع كهذا لا يمكن أن يكون لفعله من أثر دون وجودٍ في المقابل لمتلقٍ مُطالب بوجوده باحث عن عطائه، داعم لحضوره الضعيف الفريد الأعزل، وسط طاحونة الثقافات الاِستهلاكية؛ ثقافة الأسواق الكُبرى المُلتهِمة لكلّ ما يخرج عن نمط المُنتصر، القوي، مفتول العضلات، شاهر السلاح.. إنّها في النهاية حلقة مُفرغة يجب أن تمتلئ.
- عبد القادر رابحي/ شاعر وناقد وأكاديمي: الثقافة دائمًا تقوم بدورٍ فاعل في تحصين المجتمعات من تقلبات الأزمنة
ليس ثمّة من شكّ في أنّ ما تقوم به الثقافة من دورٍ فاعل في تحصين المجتمعات من تقلبات الأزمنة ومفاجآت الأحداث لا يحتاج إلى إثبات أو تدليل أو حالات اٍستشهاد بِمَا ينتجه الإنسان من قيم مركزية غير مادية تقوم بدور أساسي في الدفاع عن الأفراد والمجتمعات من كلّ خطرٍ داهم. هذا أمرٌ ثابت ومفروغ منه، وهو يدل على أحقية الفِعل الثقافي وأسبقيته في كلّ تصوّر لكينونة وجودية، ولكلّ ما تحتاجه من توفير عناصر حماية ودعائم قوّة مادية لتحقيق بناء حضاريّ يضمن لها الاِستمرارية ويرسخ عنعنة الذات في كتاب الإنسانية المفتوح على الرياح الأربعة المشهورة: النسيان والمحو والتدليس والإتلاف.
ولعله لذلك، كان الفعل الثقافي ذاكرة راسخة تُحارب النسيان، وكتابة مُتجدّدة تُحارب المحو، وشاهدًا عدلا يقف في وجه التدليس، ومناعة محصِّنة تواجه محاولات الإتلاف بكلّ أشكاله. وذلك كلّه بِمَا يمكن أن تحمله الأحداث التاريخية الكُبرى كالحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية من ممكنات تزييف أو تغيير أو تقويض للرؤى السائدة أو للتاريخ الحقيقي بناءً على مصلحة طارئة تمليها ظروف طارئة لا تُمهل الأفراد والمجتمعات للبحث عن حلول ناجعة لها، والتاريخ مليء بنماذج من هذا النوع. ذلك أنّ الأخطر في العملية هو أن تتخذ المجتمعات، أو الأفراد في المجتمعات، الأزمات الكُبرى، مصطنعة كانت أم طبيعية، تعلّة لتخريب الذات الثقافيّة من الداخل بدوافع سياسية أو أيديولوجية، نظراً لِمَا يمكن أن يوفره غياب أو تغييب عناصر التحصين والمناعة من ممكنات تقويض منهجي للشعوب.
لقد تبيّن أنّ الفعل الثقافي أطول بقاءً في التاريخ وأشدّ رسوخًا في ذاكرة الشعوب، وأسرعُ تجدّدًا وحضورًا في راهنها من أي فعل ماديّ آخر، وذلك على الرغم مِمَا يمكن أن يظهر به من هشاشة معرضة لقيم التقويض الأربع السالفة الذكر. كما تُبيّن أنّ المجتمعات الأكثر حرصًا على تمتين الجبهة الثقافية وتحصينها هي الأقوى مواجهة لتقلبات التاريخ وما يمكن أن يحمله من مفاجآت طالما أودت بالشعوب الضعيفة إلى الاِندثار وبدولها إلى السقوط، نظراً لِمَا فُخّخت به ثقافاتُها من عناصر خلاف وفرقة وتشتّت واِستلاب.ولعله لذلك، تحرص المجتمعات المعاصرة الواعية بخطورة الهيمنة الثقافية في عصر التواصل المفتوح على كلّ المتغيرات، على تشديد حمايتها لموروثها الثقافي وتأكيد حضوره المستديم في راهن الممارسة الثقافية والتعليمية نظرا لوعيها العميق بالحاجة الملحة إليه وإلى ما يمثله من رمزية في تحقيق فعل الكينونة الّذي يطمح إلى الاِندراج في الزمن ويسعى إلى التجدد عبر العصور متجاوزا عثرات التاريخ ومطبّاته.إنّ الإنسان المعاصر كائن ثقافي بالضرورة، كما أنّ المجتمعات المعاصرة مجتمعات ثقافية بالدرجة الأولى، نظرا لِمَا أصبح عصرنا الراهن، عصر الثورة الرقمية، يُوفره من إمكانات تواصل لم يعد فيها لطرقِ ووسائلِ التوصيل والتوثيق التقليدية من ظلِّ أثرٍ فاعلٍ في حفظ الكينونة الثقافية كما كانت عليه في عصور وحقب سالفة. كما أنّ المجتمعات الأكثر اِتصالاً براهنها والأكثر مشاركة في صياغته تُدرك جيدا مدى خطورة أن تكون المجتمعات المعاصرة في واجهة ما تُـتيحه المعركة الأشد خطورة والأكثر اِستمراراً، وهي المعركة الثقافية، من أساليب تقويض للأُسس الوجودية للمجتمعات الضعيفة، ومن طرائق هدر لإمكاناتها الثقافية بالطُرق الأكثر سلاسة والأقل جلبًا للاِنتباه.
يطرحُ الراهن الفكري والفلسفي إشكالية الأمن الثقافي بمنظور يطل على زوايا المعركة التي تخوضها المجتمعات القوية ثقافيًا في ميادين الشعوب الضعيفة بِمَا أصبح يُسمى بالقِوى الناعمة التي تخوض حروبًا بالوكالة وعن بُعد، فتهدم بذلك أركان المجتمعات ذات المناعة الثقافية الضعيفة أو المنعدمة لأنّها لا تستطيع أن تُنتج مصل حماية نفسها ثقافيًا بسبب ما تعرضت خلال مُدد طويلة من هجمات إضعاف منهجي لهذه الحصانة. كما يطرح هذا الراهن إشكاليات ما يجب أن يُوفره الوعي العميق بمسألة الأمن الثقافي للأُمم والشعوب من ضرورات اِنفتاح على الثقافات العالمية، ومن ضرورات قراءة وتمحيص لمحتوياتها يضمنان ترسيخ أهم عناصر الأمن الثقافي للمجتمعات، وهي العناصر المُتمثلة في ما تُـنتجه المجتمعات من إرث ثقافي بلغاتها للدفاع عن تاريخها وحضارتها، لأنّه لا يمكننا أن نتصوّر مجتمعات قوية ثقافيًا تُدافع عن ثقافات مجتمعات ضعيفة ثقافيًا إلاّ لأسباب خفية مُغلفة بشتّى دواعي الاِنفتاح تُحتّمه مصلحتها من بسط هيمنة وتأكيد تبعية ومحو ذات حضارية بِمَا تُتيحه الأزمات الكُبرى من فرصِ تقويض أو بدونها.
- محمّد تحريشي/ كاتب وناقد وباحث أكاديمي: الثقافة تقدم النموذج المثالي في زمن الأزمات
إنّ الثقافة والأزمات ثنائية تنبني عليها سياسة ثقافية تسعى إلى التعامل الإيجابي مع الأزمات الطارئة في المجتمع، ونحن إذ ننظر إلى الثقافة، فإنّنا ننظر إليها بوصفها ممارسة مُنتجة للفعل الثقافي وما ينتجه هذا الفعل إنتاج ثقافي من أدب ومسرح وموسيقى وفنون، وبوصف الثقافة أيضا مُنتجا فكريًا وفلسفيًا واِجتماعيًا وإنسانيًا. إنّ المتتبع للفعّالية الثقافية في الجزائر في زمن الأزمات قد ينتبه إلى أمر مهم قد يكون مُربكاً أو مُخلخلاً للبنية التقليدية، ويكون فجائيًا يُحدث التسجيل والاِنطباع والتأثر الفوري بعيداً عن أية روح إبداعية، وقد يحتاج هذا الأمر الاِستثنائي والفجائي إلى وقت حتّى يتم اِمتصاصه فنيًا وثقافيًا، والتعامل معه بجدية.
تُشكّل الأوبئة والأمراض ظواهر فنيّة جماليّة في الإنتاج الثقافي، وقد اِهتم الإبداع بهذه الظواهر منذ القِدم؛ فكانت حافزاً على الإبداع بوصفها تيمة جديدة تجعل الإبداع ينفتح على آفاق جديدة لمعاناة الإنسان من وضع صحي حرج من جهة، ومن جهة الخوف والفزع الّذي قد يُسببه اِنتشار المرض وتحوله إلى وباء أو جائحة، ويستدعى هذا الأمر الاِستثنائي وضع خُطط وبرامج لمواجهته بكلّ ثقة واستعداد وروية وصبر، وتحويل أثر الأزمات السلبي إلى مُحفز قوي للإبداع والإنتاج الثقافي.
إنّ التعامل مع الأزمات ثقافيًا يستدعي بالضرورة تعاملاً خارجًا عن العادة، وعليه أن يُوظف وسائل جديدة مبتكرة، تخرج عن المألوف والمعتاد، ومن ذلك توظيف وسائط التواصل الاِجتماعي وتكنولوجيات الإعلام والاتصال للوصول إلى تفاعلية مُنتجة جديدة، تجعل الفرد يتفاعل إيجابيًا -وكذا المجتمع- مع هذا الوضع تفاعلاً إيجابيًا. إنّ الاِنكفاء الصحي أو الحجر الصحي المرتبط بالوباء أو الجائحة أوجد حالاً نفسية ووضعًا اِجتماعيًا خاصًا، جعل بعض المؤسسات الثقافية كدور الثقافة والمكتبات العمومية، بناءً على أوامر من الوصاية، تدفع بالإنتاج الثقافي على أرضيّات ومنصّات رقميّة أُعدت سلفًا لتوطين هذا النشاط، وهي إذ تقوم بهذا العمل، كانت تقصد إلى ملء الفراغ باِستثمار هذه الوسائل، وفاتها، ربّما، أنّ القائمين على هذا النشاط ليسوا من أصحاب خبرة، وأنّ المُتتبعين المُفترض وجودهم، لم يكونوا معنيين بمثل هذا التواصل والتفاعل، ولم يجدوا أنفسهم تحت الواجب أو الإغراء والدافع والضرورة للتفاعل إيجابيًا مع ما يقدم على هذه الأرضيّات والمنصّات، والتي هي نفسها لم تستطع اِستيعاب كلّ ذلك النشاط بحيوية وبسرعة. ولكن، ومع ذلك، فإنّ هذا المنتج مفيد وسيشكل رصيداً للثقافة بوصفها مُمارسة يوميّة، وسينتج لا محالة تقليداً جديداً، إن قامت من حوله دراسة تقف على الإيجابيات وعلى السلبيات، وحتى لا تكون هذه الفعّالية وقتية وتنتهي باِنتهاء الظروف التي أنتجتها. إنّ عدم وجود مخطط وطني للتعامل مع الأزمات في كلّ تجلياتها ثقافيًا، قد يُوَّلِدُ عوامل نفسية مثبطة، تحتاج منا ضرورة أن نقوم بتقييم ما أُنجز، وتحديد الإخفاقات الثقافية في زمن الأزمات. إنّ على الثقافة أن تُقدم النموذج الجمالي والفني في ظل الأزمات للوصول إلى المواطن الإيجابي.
عبد الحميد ختالة/ ناقد وباحث أكاديمي -جامعة خنشلة: يتضاعف المطلوب من الثقافة من أجل إنتاج الوعي الكافي لتجاوز الأزمات
في الحقيقة إنّ الفِعل الثقافي يُساير الفرد والمُجتمع في كلّ أحواله وأيّامه، ولذا لن نكون منصفين لو قصرناه على فترة بعينها، كما لا يخفى على عاقلٍ أنّ المُثقف هو الضمير اليقظ لمجتمعه وهو شديد التأثر بكلّ ما يمس أمته وما يهز اِستقرارها، وسيبقى المُثقف مُمثلاً لصوت الوعي كلما اِشتد صراع الإنسان من أجل الحياة، خاصة ونحن نشهد مرحلة حرجة جدا تعيشها البشرية تجاوز فيها الصراع حدود المُنافسة الشريفة ليبلغ مستوى الإقصاء بالقتل مثلما حدث مُؤخراً في أمريكا.
وهنا يتضاعف المطلوب من الثقافة، أو المثقف من أجل إنتاج الوعي الكافي لتجاوز الأزمات والمحن التي يمر بها المجتمع، فعندما نلتفت لِمَا تعيشه البشرية قاطبة جرّاء جائحة كورونا التي أبادت عدداً رهيبًا من الأرواح، نجد بأنّ الكثير من أطياف المجتمع صمتت وبقيَ فقط صوت المُثقف يُمارس دوره من منصّات مختلفة، لعلّ أبرزها هو تكثيف رسائله التوعوية من أجل تحفيز الطاقات للمُواجهة بحزمٍ وعقل. نعم، هذا هو المُنتظر من المُثقف من أجل تذليل المِحن وتجاوزها بسلام، فالوقت ليس كافيًا للتنظير الفلسفي أو التحليل النظري الّذي قد يأتي دوره فيما بعد لقراءة المشهد بعد نهايته، أمّا في الوقت الراهن فالمُثقف الحقيقي هو الّذي نزل إلى ميدان السؤال ليخفف من حيرة العامة، فالثقافة سلوكٌ ومُمارسة، وربّما قد لاحظ الجميع أنّ بعض الدوائر الثقافية الفاعلة سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات قد اِستغلت الحجر المنزلي لتُرسل ندوات ثقافية ورسائل توعية عبر مختلف وسائط التواصل الاِجتماعي.
إنّ المُعَوّل عليه في أي فِعل ثقافي هو صناعة الوعي لدى الفرد والمجتمع معًا، وغياب الوعي يجعل المجتمع مُستنقعًا لتكاثر الإشاعة والكذب وهما آفتان كفيلتان بتدمير أشد المجتمعات تماسكًا، فبين الخبر الحقيقي والإشاعة خيطٌ رفيع يجعل الأوّل ناقلاً للمعلومة والثاني مُخربًا للإنسان، ولا يُميز الفرد بينهما عندما يستقيل المُثقف من دوره، ولذا أنا مع فكرة أنّ المثقف سيبقى الدعامة الحقيقية لكلّ طاقات المجتمع وبدونه ستصبح هدراً للمُمكن وتمنيًا للمستحيل.
ليس من مهام المُثقف سنّ القوانين ولا الوقوف على تنفيذها ولكن مهمته تكمن في تقديم القراءة الصحيحة للحالة الاِجتماعية من أجل سنّ ما يُلائمها من تشريعات، ومن مهامه كذلك خلق دوائر نقاش اِجتماعية تُحاور الراهن بأزماته المختلفة، ولعلّ المُتتبع لوسائط التواصل في الجزائر قد شهد كيف تمكنت من فتح ورشات نقاش واعية جداً لفهم طبيعة وباء كورونا وطُرق مواجهته. رغم التشويش الّذي يعتريها في بعض الأحيان من طرف من يظن بأنّ مهمة المُثقف أن يقدم الغذاء والماء للأفراد.
إنّ الوضع السياسي والاِجتماعي والاِقتصادي المريض الّذي تعيشه المجتمعات العربية بعامة أَوْجَدَ تفكيراً سلبيًا جداً، وصل فيه الفرد إلى اِزدراء الفِعل الثقافي وعدّه له بأنّه من كماليات الحياة، وفي الحقيقة أنّ هذا الفهم كرسته الأنظمة المُفلسة من أجل الحدّ من اِنتشار الوعي بين الأفراد، لكن في الحقيقة لا يمكن لأي مجتمع بلوغ مستويات التحضر ما لم يُنصت للمثقف، فهو الّذي اِمتلك أدوات الفهم والتفسير والتحليل وهو القادر على الاِستشراف.
إنّ الحقيقة التي لا ينكرها إلاّ جاهل هو أنّ جل الحضارات قامت على رؤى ثقافية واعية قبل أن تُؤطرها التشريعات السياسية، وكلما سقطت هذه المجتمعات المتحضرة في أزمة إلاّ اِلتفتت إلى المُثقف من أجل أن يصف لها المخرج الأمثل، ويكفي أن نقف عند نموذج المجتمع الأمريكي الّذي عندما أفرط في إيمانه بالرأسمال الصناعي اِنفجر اِجتماعيًا بأقدم وباء عانت منه البشرية ألاّ وهو العنصرية.
عبد الرزّاق بلعقروز/ أستاذ مُحاضر وباحث أكاديمي مُتخصص في فلسفة القيم -جامعة سطيف 2 : للثقافة دور حاسم ومكين في هذا الظّرف الّذي تمر به الإنسانية
إنّ الإجابة على هذا السُّؤال المُتعلق بالدَّور الحالي للثقافة في ظل الوباء البيولوجي، يتوقَّف أوّلاً على المفهوم الّذي نحمله عن معنى الثقافة في مُخيّلتنا وفي أعمالنا، فمعنى الثقافة هو الأمر الحاسم لمعرفة ما إذا كان لها دور أم لا. فإذا كان البعض لازال يرى بأنّ الثقافة هي الموروث الرَّمزي لمجتمع من المجتمعات من غير دور له في الواقع، فإنَّ هذا المفهوم جامد لا حركة فيه، ومُتَزمّنُ (توقُّف الزّمن) لا جريان معه. والبعض الآخر يرى بأنّ الثقافة هي وحدة أسلوب الحياة في مجتمع من المجتمعات من غير قوّة في هذه الحياة أو حركة فيها، فإنَّه مفهوم لا تاريخي ولا حركي. أمّا المفهوم الّذي نراه ضمن هذه التَّحديات الجديدة، فيرتبط بالبُعد الأخلاقي والقيمي للإنسان، فالثقافة هي فِعل في هذا العالم وليس فقط سكن فيه، وروح هذا الفِعل هو تقويم الأفكار والأفعال التي تظهر وتُعَطّل حركة الإنسان في العالم أو تَصْرف سعيه عن الإبداع والتَّجاوز والإقدام. فالثقافة إذن؛ هي نمط مُتميّز من الوجود المُتميّز للإنسان ومعجمه التأويلي للعالم لا يُعرف إلاَّ مفردات: الحياة والحركة والإثبات والقوّة المعنوية والـتأثير والتَّجاوز والفعل النّوعي. وإذ عُرف هذا المفهوم الحيوي حول الثقافة وكان قصدنا هو رسم دورها الحيوي في ظل الأزمات أو في ظل هذا الوباء البيولوجي فإنّنا نقول: للثقافة دور حاسم ومكين في هذا الظّرف الّذي نمر به وتمر به الإنسانية، فلها الدَّور التقويمي لمُجمل الأفكار والأفعال الحائدة عن مطالب الصّحة الفكرية والبيولوجية، فالتَّثقيف هنا فعل توجيهي وإسهام تطوعي نراه في ما تقوم به مؤسسات المجتمع المدني من تفريج للكروب وإعانة لمن هم في مسيس الحاجة إلى متطلَّبات الصّحة العمومية. وهنا لابدّ من القول أنّ هذه القوّة التَّضامنية في روحها فعلٌ ثقافي، لأنّها سعيٌ لأجل إعادة الاِعتدال والصحة للمجتمع وتجسيد للقيم الإنسانية التي تَوَهَّمُ البعض أنّها اِنتهت أو باتت سَرديات تاريخية ميّتة.
كما قامت الثقافة في مُكَوّنها الفكري بنشاط تثقيفي وتعليمي، ظهر في مجمل النَّشاطات العلمية (محاضرات، حوارات، دروس...) في المجال الاِفتراضي، فالعُزلة في البيت أحيت ما كان ميّتًا، أي حضور الفكر بقوّة في عوالم المجال الاِفتراضي، وفتحت المكتبات أبوابها ونشر المفكرون والمبدعون أفكارهم صوتًا وصورة، فكان هذا الأمر مظهرا لافتًا على دور الثقافة في هذه الجائحة البيولوجية، فضلاً عن اِنتشار الحوارات النقاشية وتحرك المؤسسات التَّعليمية (جامعات، مدارس، مراكز بحثية، جمعيات ثقافية.. نحو التعليم والتثقيف بالأداة التقنية. وهنا لابدّ من صرف القول أنّه لولا الثقافة والعالم الفكري وأدواته الاِفتراضية (الإنترنيت) لكان للعزلة والبقاء في البيت طعمًا مراً، لا تقوى على تحمله إلاّ القلوب القليلة، فَقَوْتُ العزلة والبقاء في البيت هي الثقافة (فكر، معرفة، فنون،....) وهذا الأمر يعني أنّ الإنسان ليس كتلة بيولوجية تتحيّز في مكان، وإنّما هو روح ثقافية تفكر وتشعر وتفهم وتسأل، فالثقافة هي الوجه الباطني من الإنسان إذا كانت الكتلة البيولوجية هي وجهه الظاهري، ومعلوم أنّ الباطن والمستور هو أكثر قيمة وأهمية من الظَّاهر والجلي.
وإذا كانت هذه الأمور قد تحقَّقت باِعتبارها شاهدة على دور الثقافة في هذه الجائحة البيولوجية، فإنّ جهدها المستمر (أي الثقافة)، أن تعمل على تقوية المكون الرّوحي في الإنسان، أو بعبارة أخرى: تعمل على تكوين ثقافة الاِلتزام وحفظ الحدود والاِنضباط، لأنّ وراء التَّعدّي للحدود والتحرّر الوهمي من الاِلتزام لا يُوجِد إلاّ التوحُش والفوضى. ولعلَّ هذا الأمر قد ظهر في مرحلة الحجر الصحي، أين لم يلتزم جزءاً من المجتمع أو لم ينضبط بالقواعد العامة لحفظ الصحة في مواقيتها. وإذ تبيّن هذا فإنّه حري بالثقافة مُستقبلاً أن تعمل على علاجه وأن تكون جهود أهل الثقافة في الجزء الأكبر منها؛ تقوية هذا الحس الأخلاقي والمكون الرّوحي في الذات، لأنّ الموارد الرُّوحية هي المخزون الّذي تفر إليه المجتمعات وقت جوائحها.
نستخلص مِمَا تقدم أنّ الثقافة لابدّ أن تكون فعل تغييري وتعديلي للإنسان فكراً وقولاً وعملاً، فعلٌ مستمر وقوي وزاخر بالقيم الإنسانية السَّامية، وفي ظل الجائحة البيولوجية، قامت الثقافة بدور إنقاذي لذات الإنسان، فإذا كان الدَّواء يقوم بإنقاذه بيولوجيًا، فإنَّ الثقافة قد أنقذته روحيًّا من الإحساس بالملل والسّكون والاِنقطاع عن العالم والشعور المُر بالعزلة. فالإنسان من غير ثقافة تُلازمه في حال الاِعتدال وفي حال المرض؛ هو كتلة بيولوجية تسري فيها مطالب الغريزة المتكررة والثَّابتة، إنّ الثقافة إذن؛ هي روح الإنسان العارجة نحو المعنى والقيمة.
وحيد بن بوعزيز/ باحث أكاديمي وأستاذ الأدب المقارن والدراسات الثقافية –جامعة الجزائر2 – : أصبحت الثقافة تقتات من الذاكرة فقط بعدما افتقدت الحلم
لعله من المفارقة أن يكون الحديث عن علاقة الثقافة بالأزمات مُقترنًا بالحديث عن أزمة الثقافة. في سياق الكوارث الكُبرى والجوائح، يُنتظر الكثير من الثقافة أن تكون لها عصا سحرية تُوظف لرفع البلاء أو لتجاوز المحن ولكن ينسى الكثير، كذلك، بأنّ الثقافة صيرورة، أي ليس لها وجود قبلي، بل هي مُتأثرة بالتاريخ وبالنوازل، لهذا كان مصير الثقافة أن تدخل في أزمة حينما تحاول حل الأزمات.
تستطيع الثقافة، إذا كانت صيرورة، أن تستثمر الذاكرة والتجربة لفتح المُمكن داخل النوازل، ولكن ستكون الثقافة، باِعتبارها رؤية للعالم، وظيفيّة وعمليّة حينما تستعين بعناصر أخرى تبدو بعيدة عن اِختصاصها مثل الاِقتصاد، فالإغراق في التحليل الثقافي بعيدا عن التشكيلات الحياتية الأخرى قد يفضي بنا إلى الثقافوية Cultu- alisme ومعنى ذلك اِختزال كلّ الأزمات في القضايا الثقافية.
لهذا يعيب الكثير من الدارسين على النقد الثقافي الوهم الثقافوي، فاختزال كلّ العالم في أنساق ثقافية لا تكاد تتجاوز مكونات الخطاب بالمعنى الفوكوي، تجعلنا نُعلب العالم في قضايا لغوية صرف غافلين عن أبعاده المادية، ولا نندهش حينما نجد بأنّ طرفًا كبيرا من النقاد الذين شككوا في النقد الثقافي ينتمون إلى التيار الماركسي، بل منهم من أسس لتيار جديد اِسمه المادية الثقافية.
حينما نواصل تفكيكنا لعلاقة الثقافة بالأزمات فإنّ الأمر يجرنا لا محالة للحديث عن المُثقف وعن دوره إزاء النوائب التاريخية، ومنذ التحديد البرجوازي للمثقف انتظر الناس من هذا الكائن الكثير، فراح البعض يربطه بالأبعاد الكونية في الصيرورة التاريخية، وراح البعض يعده نبيًا في أزمنة فرار الآلهة، وراحت البقية تعتبره المُخلِّص وهي نظرة ماشيحانية مرتبطة بخطاب النهايات المُتداول في كُتب ما بعد الحداثة.
بعد مدة اِكتشفنا بأنّ المُثقف الداعية أو المُخلِّص خرافة مُعقدة، خاصة مع اِنحسار الأنوار وبروز عِدة فاعلين اِجتماعيين ميديائيين، فحينما أرادت الشاشات تعليمنا كيف نغسل أيدينا لتجاوز العدوى بالكورونا لم تتصل بمثقفين بل راحت تتصل إمّا بلاعبين أو بمغنين أو بممثلين هواة.
عاش العالم الكثير من الأزمات، ولم يتجاوز دور المثقفين مقام الشهادة، وإذا عرفنا بأنّ الثقافة تحوي الأيديولوجيا كعلاقة لورال بهاردي فإنّها ستبوء بالفشل مادامت الطوباويات قد تراجعت كثيراً في العصر الّذي نعيش فيه، أصبحت الثقافة تقتات من الذاكرة فقط بعدما افتقدت الحلم، والعيش في زمن بدون حُلم يعني أنّنا نعيش في عش الكوابيس.
تستطيع الثقافة أن تتثقف حينما تحاول فهم الأزمات وفهم حدودها في الوقت نفسه، لهذا فلا ننتظر منها حلولاً ملحمية بل لابدّ أن نُعاضدها بعناصر أخرى لأنّها لا تستطيع تجاوز المستوى الرمزي كما يقول الفلاسفة والأنثروبولوجيون.