لم تُحقق ما يرتقي بالطرح إلى مستوى قيمة المنجز الحضاري و لا إلى روح الاستقلال
يفتح «كراس الثقافة» في عدد اليوم، مع مجموعة من الكُتاب والأساتذة الباحثين والأكاديميين، ندوة حول «صورة الاستقلال في الكُتب المدرسية الجزائرية»، ويطرح أسئلة حول هذا الموضوع الشائك: فكيف كانت وكيف حضرت صورة الاستقلال في الكُتب المدرسية؟، هل هي بمستوى الاستقلال كمعطى انتصاري وبطولي، أم هي صورة باهتة لم تعط الاستقلال حقه وقيمته كما يجب.
أيضا، ما مدى نجاح النص المدرسي في تقديم صورة الاستقلال بكل أبعادها المعرفية والعاطفية كموروث رمزي يلهم الطفل الجزائري ويقوي هويته الجماعية؟، ومن جهة أخرى هل ارتقى النص المدرسي إلى مستوى التبليغ الجيد لحدث الاستقلال بأبعاده الهوياتية مبرزا أهمية هذا الحدث التاريخي. أم أن كلّ هذا لم يحدث، أو حدث باحتشام كبير.
وهل حقا كما قال الأستاذ نبيل دحاني: «كتبنا المدرسية كرست القطيعة بين الجزائري الذي يكتب ويحكي كفاحه وصموده حتى الانتصار والجزائري الذي يقرأ»، أم أن في هذه الكتب ما يجب تثمينه والإشادة به؟.
تستمدّ الأمم قوّتها من خلال مشاركة جميع الفعاليات فيها في صنع لحظتها التاريخية، سواء الرّاهنة أو المستقبلية، وتنطوي هذه العملية على استقراء دقيق للماضي، وخصوصا الماضي الفاعل، ومن ضمن الماضي الفاعل اللحظة الإنتصارية المتمثلة في استقلال الأمم واسترجاعها لسيادتها الوطنية.
ينفتح أفق السيادة على كل مفهوم يؤدي استقلالية القرار، ومن هنا أعود إلى مفهوم التشاركية التي تمنح القراءة للماضي مفهومه الاستقلالي ومنظوره القائم على الرؤية الكلية لكافة زواياه، فحقيقة الاستقلال ليست تلك التي تعزله في لحظة ماضوية قائمة على الفعل التحرري، وإن كان هذا مهما إلا إنه لا يكفي لكي تظل تجلياته مستمرة في الوعي.
إن مستوى الوعي بالأشياء هو الذي يمنحها قيمتها، ووعي الاستقلال تصنعه الأجيال، ومن هنا تنبع أهميته، فهل تتبنى المنظومة المدرسية هذا الجانب في ضرورة إشراك الأجيال في ترسيم صورة للاستقلال الوطني عبر الكتب المدرسية، أظن أن ذلك ما زال بعيدا لأننا كمجتمعات عالم ثالثية، ما زالت النظرة الأبوية تحكم سلوكاتنا وبالتالي تحرم كل مبادرة من الرؤية الخصيبة النابعة من الراهن والتي تمثلها الأجيال الحاضرة، فكيف تلتقي مستويات تلقي الموضوعات الثابتة في ظل تغير الواقع وإصرار الراهن على تمثل ذاته من خلال حركة الواقع؟
إن تبني الرّغبات المتجددة في ظل حركة الواقع والتاريخ تتطلب من المجتمعات التي تتحرك عبر وعي أجيالها المبادرة إلى تقييم رؤية الأشياء من خلال الفعاليات الحاضرة في حينها وراهنها، ومن ثمة إخضاعها لمسبار القراءة من خلال اللجان التربوية التي تتضمن: التجربة والتخطيط وراهن الرؤية للأشياء، فالتجربة تحفظ للموضوعات ميكانيزمات التعامل معها، والتخطيط يضمن لها مسار حركتها نحو تحقيق الأهداف المرجوة، بينما العامل الثالث المتمثل في راهن الرؤية للأشياء يدمجها ضمن وعي الأجيال حتى لا تنحرف عن الإلمام بالموضوعات المتحرّكة في التاريخ، وبالتالي لا تصبح غريبة عنها.
الحاصل اليوم أنّ موضوعات الاستقلال والتاريخ الوطني وكل المحاور الكبرى أصبحت غريبة عن وعي الأجيال لأنّها قُدّمت في سياقات مختلفة عمّا انفتح عليه الوعي الراهن للأجيال التي أصبحت أكثر تفتحا على معطيات راهنها من أي وقت مضى، رافضة ومتمرّدة على الوصاية بكافة أشكالها، فكل برنامج لا يمنح أهمية لوعي الأجيال إنّما يضيّع فرصة استمرار الموضوعات في الوعي وهو ما نعاني منه اليوم من خلال إهمال المنظومة التربوية لإحساس الأجيال بالعناصر التاريخية للوجودية الوطنية، ورؤيتها للماضي من خلال معرفتها بالحاضر.
شكلت الحرب التحريرية الجزائرية نقلة نوعية في صيرورة الأحداث على حوض المتوسط وفي العلاقة بين ضفتيه، كما كانت بمثابة محصلة تجربة مريرة مع قوى الإستدمار والتجهيل وطمس الهوية، وإذا كانت الثورة التحررية الجزائرية لا تشكل الهوية في حد ذاتها لكنها قامت من أجل حماية هذه الهوية والتعبير عنها من خلال استعادة سيادة الدولة الجزائرية على أرضها وشعبها بكل ما لهذا الشعب من خصوصيات دينية ولغوية وإنسانية شاملة.
وقد توجت هذه الثورة وعلى غرار ثورات تحررية أخرى بالنصر والفتح المبين الذي أعاد لمساحة هامة من شمال إفريقيا هويتها واستقلالها وعزتها، وإذا كان هذا الاستقلال لا يعبر عن كونه فعالية مهرجانية كما اعتادت الصورة النمطية لدى الإعلام الوطني إبرازه، بقدر ما هو مشروع ثقافي وسياسي واجتماعي ذو أبعاد قومية، حضارية وإنسانية لابد وأن يعبر عنها في منظوماتنا المرتبطة بالتنشئة والتربية والتعليم. وهو ما دأبت عليه الدولة الجزائرية بعد الاستقلال مباشرة، ومع كل تعديلات أو إصلاحات كانت تعتمدها سواء لإصلاح المنظومة التربوية أو لتحيين المناهج التعليمية، غير أن الثورة التحررية والاستقلال الوطني ليسا حكرا فقط على مادتي التاريخ والجغرافية، إذ نكتفي بالتعبير عن بشاعة الاستعمار الفرنسي بالصور الرهيبة في كتاب التاريخ للسنة الخامسة وما يليها، والتي قد تتسبب في عُقد نفسية لطفلنا أكثر مما قد تعرفه بويلات المحتل على أرضه وشعبه الذي ينتمي إليه، ولا يمكن الاكتفاء بصور الشباب والنساء والعجائز رافعين الرايات ومهللين في الشوارع والساحات: «تحيا الجزائر»، بقدر ما نحن بحاجة لجعل النشء يشعر بهويته الوطنية وبأبعادها الثقافية الإسلامية والعربية والأمازيغية والإفريقية.
لقد كرست كتبنا المدرسية ولسنوات طويلة القطيعة بين الجزائري الذي يكتب والجزائري الذي يقرأ، بمعنى الجزائري الذي يحكي تجاربه وكفاحه وصموده حتى الانتصار، والجزائري الذي يتعلم كيف يقوم بذلك هو أيضا في المستقبل إذا فُرض عليه هذا الخيار، كل ذلك جعل من صورة الاستقلال والثورة والتضحيات الجسام التي قدمها الشعب الجزائري باهتة، طالما أن هناك من يهتم بترجمة نصوص أجنبية وأناشيد الفراشة والفطر، على أناشيد الوفاء لشهداء التحرير الوطني، والأدهى والأمر أن أطفالنا اليوم لا يشبهوننا لأنهم يهتمون بأحداث وأهازيج وطقوس أخرى ليست التي علمتنا نحن حب الجزائر والاعتزاز بأبطالها.
لقد حمل الاستقلال للجزائر استعادة شخصيتها المعنوية بين الدول وحماية هويتها ووحدتها، وقدرتها على الاختيار الحر والسيد في تقرير مصير أبنائها بأبنائها دون وصاية من أحد. لذلك تستدعي الحاجة إعطاء صورة أعمق للثورة التحريرية والاستقلال الوطني في كتبنا المدرسية عموما وبخاصة منها المراحل التعليمية الأساسية حيث تنهض بعملية ترسيخ قيم الوطنية النبيلة والمواطنة الصالحة وحب الانتماء وروح التضحية والقدرة على المبادرة في خدمة الأمة والولاء لها والاعتزاز بالوطن بدل التمجيد والتأليه لأحداث أو لأشخاص لا تعدو أن تكون مجرد ملامح فقط لثورة أكبر من الأشخاص والأعظم من البطولات، إنها ثورة الشعب الجزائري واستقلال الشعب الجزائري والذي كان فاتحة لإنعتاق شعوب كثيرة في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
يتوجب اليوم على العقول النيرة والقلوب الصادقة العمل بكل ما لديها من أجل تعظيم هذا المكسب وتثمينه من خلال الإبداع والابتكار وتحرير العقل الخلاق وترك كل المفاسد والمهاترات التي لا تضيف بقدر ما تهدم، فوطننا هو روحنا ونفسنا المتدفق من الصميم وإلى الصميم.
صورة الاستقلال في الكُتب المدرسية لم تُحقق ما يرتقي بالطرح إلى مستوى قيمة المنجز الحضاري، ولا إلى روح الاستقلال وما يتصل بمعنى التاريخ. والقضية مرتبطة بالمحتوى وبالصيغة معا، المحتوى ظل مختزلا، اختزالا طمس التاريخ بكل زخمه، كما ظل مقولبا في قالب صادر التنوع والاختلاف، وكرس نمطية أفقدت المقررات التاريخية قوتها التأثيرية. ظل المعروض مختزلا في فترات تاريخية محدّدة وفي شخصيات معينة. وهيمنت الاعتبارات السياسية الظرفية على المقرر المدرسي فغابت أسماء وأحداث وأفكار، وعمّ الجهل إلى درجة أرست العلاقة المختلة مع التاريخ.
والإستقلال بمعناه هو تأكيد للهوية وللخصوصية مع التفتح على الآخر المتعدد، وتلك الخصوصية غائبة في مقررات التاريخ وفي مقررات النصوص المقترحة أدبيا. ومن ناحية الصيغة فإن الأسلوب الموظف، أسلوب منفر يفتقد التشويق، لأنه استنساخ لأدبيات سياسية بدون تأطير جمالي. ولقد أشار المرحوم مالك بن نبي إلى ما يعتبر في الصميم لما ذكر بأن لكل فكرة بعدين، «بعد الأصالة» و»بعد الفعالية»، ولما تغيب الفعالية تعدم الفكرة حتى وإن كانت عظيمة. الفعالية تغيب لما يتم توثين الرمز وتحنيط التاريخ، والنتيجة أننا نفتقد «رموز» مجمع عليها وطنيا، وذلك الافتقاد ينتج العمى، أي «الهوية العمياء» بتعبير أمين معلوف. في مطلع ثمانينيات القرن الماضي خرج طلبة صارخين: «التاريخ في المزبلة»، صرخة تختزل كل ما يمكن قوله.
لا شك أن الكِتاب المدرسي تعرض في مسار تكوين الدولة الوطنية إلى كثير من التغييرات الجوهرية نتيجة الإصلاحات التي حاولت أن تتجاوز المأزق العضوي الذي وقعت فيه المدرسة الوطنية، لكنه حسب المتابعين كان تغييرا شكليا في غالبه، ومهما يكن فإن هناك ثابتا جوهريا لم يمسه التغيير لأهميته وهو الجانب التاريخي والأرشيفي للثورة الجزائرية، حيث نجد الكتاب المدرسي يتناول في عديد محاوره تاريخ الثورة الوطنية، لكن المشكل الجوهري ليس مطروحا على مستوى الكتاب المدرسي بل يطرح على مستوى الأجهزة التي تساعد التلميذ على تلقي موضوعات الثورة التحريرية، حيث تقدم المضامين في شكل تلقيني يفتقد لجعل التلميذ مشاركا في عملية بناء الدرس، لعل تلك الطريقة التلقينية جعلت التلميذ يشعر أنه خارج بناء الموضوع التاريخي، وبالتالي المشكل في تصوري يكمن في أمرين أساسيين: ضعف الأدوات والوسائل التي تستخدم في تقديم الدرس التاريخي. وضعف الحجم الساعي الأسبوعي الذي يجعل التلميذ يتلقي الدرس التاريخي ضمن محاور عامة.
وهذا يفرض على الوزارة أن تنتبه لمسألتين حيث عليها أن تزيد من الحجم الساعي وتعمل على تحيين لموضوعات ومضامين الدرس التاريخي، وتنتقل بالتلميذ من طور إلى آخر مما يجعله ينتقل من تلقي المعلومات إلى طور معالجتها عبر تَدَخُّل وسائل علمية تساعد التلميذ في ذلك. وتخصيص حجم ساعي خاص ومستقل بالثورة التحريرية لثراء تجربتها وتعدد موضوعاتها، وانفتاح الدرس على التجارب الحية والمباشرة لشهادات المجاهدين وزيارة المتاحف، فهذا يجعل للدرس التاريخي طعما آخر، يتجاوز الروتين الذي يلحق أضرار بمادة التاريخ بشكل عام.
والأمر نفسه ينطبق على صورة الجزائر المستقلة ليس هناك مواد كافية في هذا الإطار، هناك احتشام كبير في رسم صورة الجزائر المستقلة لدى الناشئة، بل يحتاج الأمر إلى تفعيل تركيبي لمواد تخص في المجمل أهم التراكمات والمسارات لدولة ما بعد الاستقلال، فهناك ضعف حقيقي في إدراج هذه المواد مع ما يتفق ونمو التلميذ، فالطفل الذي ينشأ ضعيفا وهزيلا من جهة معرفة بلده لا يمكنه أن يقدره تقديرا جيدا، أي لابد أن تكون المواد عن تطور الحركة السياسية بعد الاستقلال وكذلك الاقتصادية وأهم الحركات الاجتماعية المعاصرة، ومختلف المسالك العلمية حيث لا تزال الكتب المدرسية تعالج قضايا مواطن بسيط وتقليدي جدا، وعليها أن ترفع سقف طالب العلم لتحرر إمكانياته المعرفية ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا. هذا المشروع في بناء المضمون التربوي لا يجب أن يقتصر على تقنوقراط من الإداريين بل يضطلع به علماء اجتماع، وعلماء نفس، وسياسيين وخبراء تربية حتى يتم الأمر بشكل دقيق ومنهجي.
صورة الاستقلال في النص المدرسي بمختلف أطواره لا تزال متهافتة وسطحية، إن لم أقل مخجلة، وذلك لجملة من الأسباب الموضوعية، في طليعتها غياب النصوص الأدبية المرجعية التي ترتقي إلى هذه الحالة المعاشة بكل تفاصيلها اليومية، بغض النظر عن النصوص الأدبية الكلاسيكية التي اجتهدت في معالجة قضايا الثورة والحرية بكل ما أوتيت من أدوات فنية ورؤى جمالية وفلسفية وبلغة المستعمر خاصة، إذ منذ إعلان التحرر من ربقة الاستعمار الغاشم في 5 جويلية 1962 ودخول البلاد في مرحلة التنمية وبناء الذات، كان النص الأدبي يساير تلك المراحل التي عمرها الآن عشريات من السنين، باحتشام بالغ، الأمر الذي انعكس منطقيا على النصوص المختارة في الكتب المدرسية والتي تتحدث عن الاستقلال وكأنه أمر «عادي» وليس منعطفا تاريخيا حاسما في تاريخ هذا البلد المبتلى بشتى المحن والقلاقل طوال عقود من الزمن الغابر.
ولنأخذ الواقع الراهن كمثال على صدق هذا القول، حيث لم يعد اليوم لـــ»عيد الاستقلال» ذلك الطعم المميز والزخم الوجداني الذي طبع نفوسنا ونحن صغارا، بحيث تحول مع مرور الوقت إلى «لا حدث»! ومن هنا علينا أن نقر بحقيقة مريرة هي أننا لم نرتق بعد إلى مستوى الاستقلال بكل ما يحمله من حرية واستعادة للكرامة والحقوق المسلوبة من أخبث استعمار عرفه التاريخ المعاصر، وقد يتساءل البعض من المسؤول عن هذا الوضع وعن هذه الرداءة المستحكمة في النص المدرسي الخاص بفترة الاستقلال تحديدا؟ وفي تصوري أن الكل «مسؤول» لأن القضية يتحمل تبعاتها كل أفراد المجتمع، طبعا كلٌ حسب درجة مسؤوليته، غير أن مسؤولية المثقفين والنخبة المتعلمة تبقى هي الأخطر على الإطلاق لكونهم يملكون الأدوات النقدية وسلطة الحكم بمفهومها المعرفي، إذ في غياب مشروع «مجتمع» ناضج ومتوازن بكل ما تحمله هذه العبارة من مدلول عميق، فإن من تداعيات هذا الغياب ضعف المنظومة التربوية وانعكاس ذلك على موادها البيداغوجية المقدمة إلى الأجيال المتعاقبة، التي من المفروض أن تكون على خط مواز مع روح الاستقلال مع إقرارنا المسبق أن هذا «الاستقلال» ما يزال متعثرا، طالما أننا لم نتشبع بالديمقراطية الحقة بعد.
كما أن مجتمعنا المدني ما انفك يعيش مخاضا عسيرا ورحلة تكوين تطوقها الكثير من العراقيل والمعوقات والمطبات. وعليه، يجب إعادة النظر في النص المدرسي الذي يتناول مرحلة الاستقلال ضمن مسيرتها التنموية منذ تاريخ 5 جويلية 1962 وتطلعا إلى مستقبل أفضل، وهذا يحتاج قطعا إلى وجود إرادة فوقية قوية واعتراف ذاتي بصعوبة المهمة لكن بنبلها وأهميتها القصوى أيضا، لأن الأمر في النتيجة يتعلق بقضية تاريخية و»بيداغوجية» في الصميم.
الحرية التي حلم بها الشهداء جنة نعيم وامتداد في الأزل، الخلاص الأبدي المانح للحياة المصنوعة بالتضحية والدماء والجراح والمعاناة، النور في امتداد الغاية الوحيدة: النعيم أو الاستشهاد. هل الشباب الذين قدموا النفس والنفيس وساروا في مواكب الملائكة الذين كان لهم وعي الأنبياء والفاتحين وقوة تحمل المسؤولية بمثل الكبار صناع التاريخ كانوا يتخيلون أن أحفادهم يحفظون أسماء اثنين وعشرين لاعب كرة قدم للبارصا وريال مدريد ويعرفون أدق تفاصيل حياتهم ويجهلون أسماء اثنين وعشرين شابا ثوريا قرروا مصير أمة وكسروا القيد وأزاحوا ظلام استعمار يملك ما يملك من القوة والأحلاف.
ماذا قدمنا للأجيال من برامج دراسية من تاريخ وأدب تحكي بطولات ومآثر؟ لا شك عجزنا عن أن نفي ونلتزم بالوصية التي حملها لنا جيل الثورة ولم يلتزم ذات الجيل ممن بقى على قيد الحياة حيث انشغلوا بالمناصب وامتيازات الدولة وأهملوا ثورة المعرفة والبحث الجاد وفرضوا العمل على الدراسات المعمقة في أحداث التاريخ من المقاومة إلى الحركة الوطنية واستلهام التجارب السياسية والاجتماعية منها.
الثورات تترك الأثر في مواقف ناضلت لأجلها، ومن أكثر المواقف الهوية واللغة فالاهتمام بها أكثر المفاتيح أهمية للولوج إلى وضع قاموس يؤسس لمفاهيم خاصة بالتاريخ دون إهمال اللغات الأخرى، بالطبع ليس كل اللغات تقبل احتضان تاريخنا وفي هذه النقطة فلغة المستعمر هي القريبة إلى التدريس وحصلت على الاعتماد كونها صارت مرجعية أو تكاد تكون هي اللغة الأم للأخذ من مراجعها وأرشيفها. أنظر مثلا لليابانيين لقد قاموا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة بدراسة تاريخهم بعد الهزيمة التي حظوا بها، إلا أنهم من خلال دراساتهم الجذرية على الإنسان الياباني قديما ومجتمعه حققوا الكثير من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، السر في ذلك المحافظة على الهوية في المدارس وعلى الثقافة اليابانية بالذات، فهل فعلنا نحن ذلك في مناهجنا الدراسية؟ هل يتصور أحد منا أن طفلا يابانيا لا يعرف الإمبراطور الأول لليابان حتى ولو كان مقيم خارج اليابان؟ على العكس فالإمبراطور عندهم الرمز المقدس لوحدة البلاد، فهل جعلنا نحن بيان ومبادئ الثورة التحريرية كذلك؟ لقد تصدوا للتاريخ الذي تقدمه الغربنة بتنقيح تاريخهم من المناهج الدراسية ووضع رقيب على الدراسات التي تأتي من الخارج والرد عليها فهل فعلنا نحن ذلك؟
هل تقدم برامجنا التجارب الفاشلة التي حدثت في الثورة من أجل مواجهتها والاستفادة منها في لم الشمل وعدم تكرارها؟
من الواجب أن نتساءل هل البحث العلمي بمخابره في الجزائر يقوم بواجبه؟ في ظل جهل شامل للمتعلمين دون الكلام عن الأميين؟ وهل الطفل في المدرسة يتشبع حقيقة بالوطنية؟ وهل وسائل الإعلام تساعد على مناقشة برامج الدراسة في حلقاتها ونقاشاتها؟، أسئلة كثيرة وإجابات قليلة لأن الجميع يعلم بعملاء الداخل وأجندات الخارج التي تريد لهذه الثورة أن تنمحي من الأذهان ومن القلوب ومن الكُتب أيضا.