الأمير على الخشبة
ينفتح المشهد على رجل أنيق يحاول العودة مما هو فيه كما تدل على ذلك حقيبته، بيد أنه يصعق إذ يقرأ خبرا في جريدة عن مقتل ضابط فرنسي كان برفقة زوجة كاتب هارب يدعى خالد بن طوبال. مرحبا إنكم في «رصيف الأزهار..» وسواء أجاب أو أبى فإننا أمام خيانة ثابتة لا تقبل التأويل، لأن الخيانة خيانة وكفى، ومن يبحث لها عن تسمية أخرى فإنه لا يبحث سوى عن سلوى سيكتشف فيما بعد أنها غير مجدية!
مرحبا. نحن في ديكور روماني يشرف على باب سنعرف أنه ينفتح على مدينتين، وعلى حياتين في حياة. الفتى الذي يتطلّع إلى الباب صحفي يلاحق الغيب بكاميرا فيردّ عليه صوت متمنّع، لكنّنا سنعرف، فيما بعد، وفي لحظة رهيبة، أن هذا الفتى ليس صحفيا فحسب بل هو حلم صالح إيدير وقد تحقق، نعم إنه ثمرة حب عمر و فضيلة التي طلبت من أبيها الطبيب صالح أن يقدّم لها خدمة واحدة: إسقاط هذا الجنين. لكن الأب الطبيب يصرّ: هذا الجنين يجب أن يعيش.
وبالطبع سيعيش هذا الجنين ويكبر على أيدي خالد بلحاج وفتحي كافي. نحن هنا في «التلميذ والدرس»، وبعد حين ينفتح الباب الكبير على مدينة المنفى وعلى حانة أنيقة تطمئن فيها غزالة وتتدفق أشعار أراغون ويجلس خالد ليشرب ويكتب سنعرف أننا في «سأهبك غزالة».
ثلاث روايات وسيرة منتبه إليها هي عماد مسرحية «هارمونيكا» التي أعاد بها مسرح معسكر عبر المخرج خالد بلحاج والكاتب فتحي كافي ونخبة من الممثلين الموهوبين والمثقفين، مالك حداد إلى مدينته التي غادرها قديما وكان قدر بطله إذ يعود إليها مقتنعا بأن مكانه فيها أن يصعق بخبر الخيانة التي قتلت وريدة قبل أن يقتلها الرصاص.
في لوحات بسيطة وساحرة تجري مسرحة الحياة والشعر، في بيت سيمون قج أولا، حيث يشعر خالد من برودة في الاستقبال أنه سقط كشعرة في الحساء، و أن صديق قسنطينة كان صديقا في قسنطينة ، أما في باريس فهو رجل آخر منصرف إلى حياته وغير مصاب بلوثة الحنين، لكن هذه البرودة سيشعلها حب سيندلع في قلب زوجة الصديق، التي فاجأت الكاتب في أول لقاء بقولها أنها لا تحب ما يكتبه، قبل أن تتراجع وتعترف أنها كانت تكذب، لتخرج من حياتها بعد ذلك وتدخل في لغته كما يعترف زوجها الذي اكتشف أنها تغيّرت، تغيّرت منذ آمنت بمقولته: الحياة ظاهرة أدبية.
وفي الحانة، ثانيا، حيث يشرب ويكتب ويعقد صداقة مع صاحب الحانة وإحدى روادها، وحيث تتدفق الموسيقى وأغاني الخمسينات العظيمة، أغاني أشعار آراغون. هناك ستنمو الغزالة، ويحبها صاحب الحانة الذي يطلق عليه خالد لقب سمو الأمير، الأمير الذي يكرّم الغزالة بغزالة ستتصدر واجهة المحل، لكنها غزالة غير حية، والغزالات لن تكون غزالات إلا إذا كانت حيّة، كما عرفنا قديما في الرواية، وكما سنعرف الآن في المسرحيّة.
هناك ستجري عمليات تفتيش وملاحقة للجزائريين وسيجيب بطلنا ضابط الشرطة الذي يسأله ما ذا تعمل بأنه يسكر، ولأن ذلك ليس في قائمة الوظائف التي يعرفها الشرطي، سيجيبه بأنه يكتب الروايات، فينصحه بكتابة روايات بوليسية, ولا بأس أن يخيف خالد الشرطي بالهرمونيكا التي يستخرجها كسلاح، فيرد عليه الشرطي بتعال أن الهرمونيكا لا تليق بالقادمين من بلاده. وستظهر الهارمونيكا مرة أخرى، حين يهديها خالد في عيد ميلاد إلى الطفل المقيم في ملجأ الأيتام الذي يعلّم الصغيرة نيكول الموسيقى، الطفل إيدير، حفيد صالح الذي لقنته ابنته فضيلة درسا قاسيا في الحياة، الطفل الذي سوف يصير صحفيا يحلم بإجراء حوار عمره مع الكاتب الذي تركه عالقا في أحشاء أم تريد الإجهاض.
اللوحة الثالثة تجري في قاعة تحرير جريدة، يجادل صاحبها الكاتب حول زاوية يكتبها. يصرّ خالد أنه يكتب قضايا إنسانية لأنه كاتب، ويصر صاحب الجريدة الذي هو ناشر كتب أيضا على تفريغ كتابات خالد في صحيفته من السياسة، وتتوسط مونيك زوجة الصديق سيمون بعد الخلافات التي تنشأ بين الكاتب والناشر. وبين المواقع تجري الأحداث و تتمسرح حياة خالد بن طوبال الكاتب الجزائري أو بالأحرى مالك حداد، لأن مالك هو من يراه الجمهور «العارف» على الخشبة. وبالطبع ستحيلنا المسرحية على الروايات وعلى السيرة ، كأنها أخذت على عاتقها إعادة رواية روايات الكاتب وسيرته معا، بل أن ذلك ما فعلته، حقا.
تتقدم الأحداث في تواز، تتقدم مونيك في الحب ويبقى خالد في إعراضه وفاء لوريدته ووفاء لصداقته مع سيمون تتقدم الرواية كتابة، تتقدم الحرب، تتقدم المقاومة. و في لحظة ما تندلع مشاعر الذنب: كيف لك أن تبقى هنا تشرب وتكتب فيما الناس تقاوم هناك. يقرّر خالد بن طوبال العودة، لكنه سيقرأ الخبر في الجريدة: خبر مقتل وريدة الخائنة والضابط، وريدة التي لم تنتظر كاتبها واستسلمت لإغواء عابر. يتكرّر المشهد. مشهد العودة المعلّقة، العودة المطعونة بخيانة. ثم يظهر إيدير الصغير متحدثا إلى الكاتب وممتنا لأنه أنجز أهم ما يمكن أن ينجزه صحفي في حياته.
يسدل الستار و لا يشبع المتفرج من مسرحية لا يريد لها أن تنتهي. مسرحية توغلت في ظاهرة شعرية ونجحت في تحويل مونولوغ شعري بديع إلى لغة الحوار المسرحي،، وبالطبع فإن عملا من هذا النوع قد لا يروق بعض الذين تعودوا على الضحك في المسرح، وهي بالمناسبة فرصة للتأكيد عن المسرح لم يخلق للضحك فقط وأنه قد يكون مفيدا في البكاء أيضا.
ولعل الدرس الذي يقدمه لنا خالد بلحاج وفتحي كافي والممثلون الرائعون الذين قدموا «هارمونيكا» هو أن المسرح الجزائري يمكن أن يكون بخير حين يكون هناك مسرحيون يقرأون الكتب!
يؤكد كاتب مسرحية هارمونيكا، فتحي كافي، انه وقع تحت سطوة مالك حداد وهو يقارب حياته واعماله ويكشف أنه مزج بين نصوص الكاتب وسيرته لانه كان يدرك بان روايات مالك حداد كانت عبارة عن سيرة مموهة. ويكشف من جهة اخرى انه سيقوم باعمال مماثلة ضمن مشروع لمسرحة الأدب الجزائري، إلى جانب قضايا أخرى تطالعونها في هذا الحوار.
الذين شاهدوا عرض «هارمونيكا» رأوا مالك حداد على الركح أكثر مما رأوا «البطل المعلن» خالد بن طوبال ، كيف استخلص فتحي كافي سيرة الكاتب من روايات هي روايات سيرة غير معلنة؟
-حسب قراءاتي لأعمال مالك حداد و سيرته و على ضوء الدراسات التي أقيمت حول مؤلفاته لمست تداخلا كبيرا بين الشخصيات الرئيسية و بين مالك حداد نفسه (على الأقل في أعماله الثلاثة التي اشتغلت عليها) و هذا ما تعرضت له بالتفصيل الباحثة بوشعيب رقية في مذكرة الماستير»رصيف الزهور هل هو سيرة ذاتية أم سيرة خيالية»، و خلصت إلى أن العمل هو مزيج بين الإثنين...و كما جاء في سؤالكم فقد فضل مالك حداد أن تكون رواياته سيّرا غير معلنة للهروب إلى فضاء إبداعي أوسع يستطيع فيه بمخياله الروائي أن يعبرعن كل ما يجول في خاطره...و لعل من بين أسرار قوة أعماله و عمقها هو هذا الصدق الذي استثمر فيه الكاتب تجاربه الذاتية بحلوها و مرها، و لقد كانت هاته المقاربة إحدى المفاتيح المهمة التي اعتمدت عليها في كتابة نص «هارمونيكا».
-عندما قرأت «مالك حداد» شعرت برهبة كبيرة...اكتشفت عملاقا استطاع تزيين نسيجه الروائي المحكم بكثافة شعرية مبهرة و هذا ما لم أجده في قراءاتي الروائية المتنوعة إلا نادرا...و على رأي المخرج خالد بلحاج، ولوج عالم مالك حداد صعب، لأنه في آخر أعماله المنشورة قال في بدايتها «لا تطرقوا الباب بعنف، لم أعد أسكن هنا»، لكن من غير المعقول أن يبقى هذا الباب موصدا دائما، حاولنا فتحه بدون ضجيج و على أطراف قلوبنا تسللنا إلى عالمه الجميل.
-صدقني إن قلت لك أنني انصهرت في معاني كلماته، احترقت كالفراشة و أنا أحوم حول المصابيح التي أنارها في أعماق شخصياته، و يستحيل أن تعرف مالك حداد بدون أن تعرف قسنطينة، يستحيل أن تحلق في سماء أحلامه بدون أن تدمن جسور هاته المدينة التي هام في عشقها هو، و أصبنا بالعدوى في عشقها معه ، و كما كتبت في «هارمونيكا»:»باريس لا تحب إلا للذكر» فقسنطينة لا تصلح إلا للتحليق،لأنها بسمائها،بصخرها العتيق،بجسورها التي تسخر من الهاوية، تحولك إلى طير حالم تحت سمائها.
-الميزة في شخصيات مالك حداد هي التنوع، و هي عامل درامي و جمالي يساعد كثيرا في نسج الحبكة الدرامية و الفكاهة في اللعبة المسرحية ليست غاية في ذاتها، هي وسيلة لتحقيق الفرجة، لكن البعد التراجيدي لا يعيق أبدا تحقيق هاته الفرجة و على العكس تماما فهو يحقق فرجة من نوع آخر وهي التطهير أو ما تكلم عنه أرسطوطاليس في كتابه العظيم «فن الشعر» و ما سمي «لاكاتارسيس» التي يتطهر الجمهور فيها من آثامه. مالك حداد كان يعزف لحنا تراجيديا في أعماله بعبقرية خارقة فتتمتع و أن ترى الشخصيات في قمة توجعها و ربما تضحك و انت ترى شخصية مثل شخصية «بيمبو» و هي تحكي قصة الحمار الذي أكله من شدة الجوع، لكنك في الأخير تتعاطف مع هذه الشخصية لأن فيها عمقا إنسانيا يستفزك وجدانيا ليجبرك على عدم البقاء محايدا، فالجمهور المقصود ليس نوعيا و لا نخبويا،لأن الهدف من العرض هو نقل مالك حداد إلى جمهور اوسع من قراءه.
-الصحفي بطبعه مشاكس،لأنه أثناء رحلة بحثه عن الحقيقة يتحدى الحواجز و المعوقات. المسرح بدوره فن المشاكسة وجدت أن شخصية الصحفي أنسب وسيلة للتعبيرعني، أنا الفتى إبن جزائر اليوم الذي أهدى له «مالك حداد» تلك الهدية الرائعة...»الهارمونيكا» ...و هي تمثل في نظري هذا الإرث الأدبي الجميل الذي تركه لنا مالك حداد،.وجدت أن واجبنا اليوم كمثقفين و فنانين أن نعزف على كل حرف من حروف الأشعار الجميلة التي تغنى بها مالك حداد و في الآخير عزفنا له لحن» إخواني لا تنساو الشهداء» أي أننا لم ننساه أبدا ما حيينا، لأنه معنا و فنيا ينام على كل حكاية جميلة من حكايانا.
لا شك في ذلك..لأن أقسى منافيه كان منفي اللغة التي لم يستطع أن يتحدث بها إلى أبناء وطنه، أظن أن مالك حداد مرتاح الآن لأن اللغة العربية التي نافح عنها الشيخ بن باديس، قفزت من قندورة الإمام لتركب سفن الشاعر الذي يعشق الإبحار:
«يا الموجة الهاربة نوصيك لا تغرقيش...ادي سلامي لقنطرة لحبال،قولي للغيمة الدايخة في سماها ما زلت ساكن ثم...ثم في عش النسور».
-الإقتباس من التراث العالمي ليس عيبا في ذاته، لكنه يصير حالة مرضية عندما ندير ظهرنا لتراثنا و أدبنا لأن فيه ذاتنا ، و قد حملت أنا الممثل المسرحي في الأصل هم كتابة نصوص تؤسس لمسرح يحمل ملامح ذاتنا الجزائرية ،يجب ردم الهوة بين مسرحنا و بين أدبنا، هناك محاولات هنا و هناك لأنني لا أدعي احتكار هذا الجهد الإبداعي بمفردي ولكن الطريقة في مسرحة أعمالنا الأدبية لا يجب أن تكون سطحية، لأننا بذلك نسيء إلى أدبنا أكثر من أن نخدمه. و في الأفق مشاريع كثيرة في هذا السياق أرجو ان نوفق في بعثها إلى الوجود.
عبر المخرج القسنطيني خالد بلحاج، مخرج مسرحية «هارمونيكا» عن سعادته لرؤية شخصيات رواية الكاتب الجزائري الكبير مالك حداد فوق ركح المسرح، تتفاعل فيما بينها بلغة شعرية مقتبسة من كتاباته الروائية و الشعرية، التي كتبت باللغة الفرنسية أين تم ترجمتها للغة العربية مع الحرص على الحفاظ على معانيها الجميلة، وهو ما اعتبره تحديا صعبا لكنه كان جميلا، انطلاقا من حبه الكبير لكتابات مالك حداد.
خالد بلحاج الذي تعاون مع مسرح معسكر الجهوي في إنتاج مسرحية عن هذا الكاتب القسنطيني، اعتبر أن العمل كان شاقا من أجل ترجمة معاني كتابات مالك حداد إلى العربية، وذلك من أجل إيصاله بشكل جيد للجمهور، الذي سيشاهد تجربة مسرحية تنتج لأول مرة في الجزائر، وهي عبارة عن توليفة من نصوص أدبية على شكل مسرحية، تمت مراعاة الجانب الحواري الأدبي الأصلي داخل هذا العمل المسرحي.
تعمد المخرج خالد بلحاج أن تكون المسرحية باللغة العربية الفصحى، مع إعطاء نكهة خاصة للحوارات التي أدخلت عليها بعض الكلمات باللهجة الجزائرية، مع إبراز تميز الحروف المنطوقة في مدينة قسنطينة، وذلك وفاء للكاتب الجزائري الذي رفض أن يكتب باللغة الفرنسية بعد استقلال الجزائر، و اعتبر شهيدا للغة العربية، نظرا لحبه الكبير لها مع عجزه عن تعلمها وهو ما شكل له تناقضات كثيرة في حياته حاول المخرج أن يقترب منها أكثر من خلال المسرح. وقال خالد بلحاج بأن عمله المسرحي الجديد سعى لاحترام هدوء مالك حداد، هذا الكاتب الجزائري الذي لا يحب الضجيج فتم العمل على المسرحية و كأن مالك حداد يشاهدها مع الجمهور، وسيحكامهم عن أي إزعاج صغير يقوم به الممثلون أمامه ، لكن مسرحية «هارمونيكا» لم تنس صناعة الفرجة للمشاهد من خلال الديكور الجميل والموسيقى التي كان لديها أهداف تاريخية و إنسانية، وقد قام بذلك من زاوية تكثيف الصورة الحية في التمثيل، وكان هذا بواسطة الشعر، وحب المخرج. المسرحية سعت لتسليط الضوء على ألوان المشهد الجزائري الذي كان سائدا في مرحلة مالك حداد، هذه النظرة المتعايشة مع اختلاف الأفكار والرؤى كفيلة بجعل العمل المسرحي عملا فنيا ناجحا و مستقطبا للجمهور، هذا الأخير الذي ينتظر المفاجأة، والتي تم خلقها من خلال اللعب على عنصري المكان والشعر ، فالمكان له دوره الكبير من أجل إفساح مساحة مهمة للشعر، خالقا بذلك تجاذبا بين عالم الأدب وعالم الواقع و هو ما خلق تميزا فنيا لمسرحية «هارمونيكا».
حسب محدثنا، فإن المسرحية لم تسع لمحاكمة مالك حداد، بل حاولت أن تضع أفكاره وهواجسه في سياقه التاريخي والنفسي، معطية بذلك رؤية مسرحية جديدة عن الكاتب مالك حداد، وذلك من خلال دمج شخصية الكاتب مع شخصيات الرواية التي قام بكتابتها. وحسب خالد بلحاج، فإن حياة مالك حداد الشخصية ليست محور المسرحية و تم أخذ الحوادث التاريخية التي ساهمت في كتابة النصوص الأدبية لأهميتها فقط، وليس تجسسا على الكاتب القسنطيني الكبير، على غرار علاقته بوالدته حمامة .
المخرج القسنطيني قال بأنه حاول من خلال إخراجه لمسرحية «هارمونيكا» إيصال رؤية مالك حداد حول قسنطينة، حيث وصفها في كتاباته بأوصاف شعرية جميلة تجعل المتلقي ينبهر لاكتشاف هذه المدينة أدبيا، وذلك بعد تحول هذه النصوص إلى شخصيات مسرحية تنقل حب مالك حداد لمدينة الجسور المعلقة. الرؤية السياسية لمالك حداد تجلت من خلال مشاهد المسرحية على غرار، مخاطبة الفرنسيين و شعوره بالانتماء للوطن من خلال تجسيده كغزالة حرة لا يمكن حبسها ،فالمنظور الذي يمتلكه مالك حداد حول نبذ الحرب ،مع ضرورة كسب الشعب الجزائري لحريته انطلاقا من رفض اللاعدالة والظلم الممارس عليه. واستهجن المخرج القسنطيني «سوء المعاملة» التي تعرض لها وهو يعيد مالك إلى مدينته، حيث قيل له أن عليه أن يشتري التذاكر لضيوفه من الفنانين الذين دعاهم بهاتفه الخاص لحضور العرض العام، كما أنه سمع كلاما قاسيا من نوع أن الدولة هي التي أنتجت المسرحية ولا فضل له في ذلك، وهي المعاملة التي اعتبرها المخرج تصرفا لا يليق بمستوى بمسرح كان من المفروض أن يساهم في إنجاح عرض مسرحية تتناول حياة ومؤلفات الكاتب القسنطيني الكبير مالك حداد. لكنه شدّد على أن ذلك لن يثني من عزيمته في إيصال هذا العمل إلى الجمهور، ورغم كل شيء، قال انه سعيد لأن شخوص مالك نطقت بالعربية في مدينته.
حمزة.د
تقمص الممثل المسرحي محمد فريمهدي شخصية خالد بن طوبال الأدبية، المستوحاة من كتابات الكاتب الجزائري الكبير مالك حداد، حيث جسدها على ركح المسرح، في تجربة جديدة خاضها المسرح الجزائري.
المسرحية التي نالت إعجاب جمهور المسرح المتذوق للأدب، كانت آخر أعمال المخرج والممثل المسرحي، حيث رشح مؤخرا لجائزة المسرح المحترف عن إخراجه لمسرحية «تحولات» المقتبسة عن رواية «الحمار الذهبي» لابولويس ،كما حصل على الجائزة الكبرى للمسرح المحترف عن مسرحيته «ذكرى من الألزاس» سنة 2013،و قام بإخراج مسرحية «الأجداد يزدادون شراسة» لكاتب ياسين . وقد دخل الممثل عالم المسرح سنة 1979 ،عبر تمثيله في مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير، لتليها مشاركات عدة في مسرحيات جزائرية معروفة على غرار مسرحية «أغنية الدم» المقتبسة عن نص لتشيكوف ، ومسرحية «مسافر ليل» لصلاح عبد الصبور وأخرج مسرحية «حب ودموع» ومسرحية «السجين»، و هي مونودراما كبيرة تسرد المعاناة. بالإضافة إلى «الدقائق العشرون» المقتبسة من نص لأوسكار وايلد .
التقينا الممثل والمخرج محمد فرمهدي على هامش مشاركته في العرض الشرفي لمسرحية «هارمونيكا» بقسنطينة التي أنتجت ضمن تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية و كان معه هذا الحوار.
ـ محمد فريمهدي : أعتبر نفسي محظوظا،لأنني أديت شخصية خالد بن طوبال، وهي شخصية سعدت بالتعرف عليها حقا، و قد شاركت في عملية الاقتباس، حيث اختليت قبلها بكل أعمال الأديب مالك حداد، كما حضرت كل جلسات الحوار مع المخرج و مقتبس النص، فكنت منغمسا في فترات التحضير لهذا النص ،لإيماني الكبير بكتابات مالك حداد، حيث أخذت فكرة معمقة عن الشخصية الرئيسية وهي خالد بن طوبال وهو ما ساعدني على فهم هذه الشخصية وتجسيدها.
شخصية خالد بن طوبال تجسد شخصية الكاتب والشاعر الهادئ، وهي تتقاطع مع شخصية مالك حداد.
-أنا لم أنقطع عن التمثيل تماما، بل أصبحت أخوض تجارب تمثيلية في المسرح والسينما، تزامنا مع توجهي إلى الإخراج المسرحي، حيث أصبح التمثيل لدي بمثابة هاجس جميل ،إذ أنني غالبا ما أصعد لركح المسرح أثناء قيامي بإخراج مسرحيات وأمثل الدور أمام الممثلين الشباب.
هناك العديد من المخرجين يرون أن تمثيل المخرج أمام الممثلين، خطأ كبير لكن أنا لا أعتبره كذلك لكوني ممثل، قبل أن أكون مخرج مسرحي. خاصة إذا كانت اللحظة المسرحية مهمة، قد تقع بعض الصعاب مع البداية، لكن مع استمرار التدريبات لأزيد من ثلاث أشهر فإن هذه الصعوبات تزول مع الأيام.
ـ صحيح، إن انتقال الشخصية من عالم خيالي، حيث يشعر القارئ أمام نص أدبي بأنه أمام شخصيات ضبابية نوعا ما، فيشكل من خلال خياله ملامحها عبر رسمها حسبما يرغب به، أما الممثل فإنه يثبت صورة ما في ذهن المشاهد، و يربط ملامحها بملامح حقيقية.هذا الانتقال قد يكون ايجابيا، وأحيانا أخرى يحدث مفاجأة لدى المتلقين خاصة إن كان متعرفا على النص الأدبي أو معجبا بالشخصية، فأنا من خلال تجسيدي لشخصية خالد بن طوبال حاولت أن أجسد رؤية الكاتب، حيث سيفهم المشاهد بأن مالك حداد هنا، وذلك من التفاصيل الصغيرة التي أحدثناها في الشخصية، من أجل أن تكون شخصية مسرحية ذات روح أدبية و لغة شعرية. لقد تم وصف قسنطينة بأسلوب راق جدا، خاصة عندما يتم الحديث عن جسور قسنطينة و أزقتها.
ـ صحيح، لقد تعمدنا ذلك، حاولنا أن تكون شخصية مالك حداد حاضرة وذلك بتجسيد ارتباطها بالنص، فالتشابك الذي حدث في المسرحية هو تشابك مصائر، حيث استلهمنا من ذهاب مالك حداد لصديقه في فرنسا، وهي حادثة واقعية،مدخلا للولوج إلى نصوص مالك حداد التي تتحدث هي الأخرى عن إعجاب زوجة الصديق سيمون ببطل الرواية خالد بن طوبال ،أي أن المسرحية انطلقت من واقعية لتجسد شخصيات أدبية فوق ركح المسرح.
المسرحية حاولت الحديث عن كون الشخصية الأدبية خالد بن طوبال لم تأت من خيال، بل هي بعض هوامش حياة مالك حداد، حيث اشتغل المخرج خالد بلحاج على إبراز ذلك في كل مشاهد المسرحية.
ـ أهم ما جذبني في شخصية خالد بن طوبال هي الشاعرية التي كان يتحدث بها، الخالقة لمعان جميلة تحيل المشاهد المتذوق للاستمتاع بهذه النصوص، فالحوار كان جد راق على مستوى جميع المستويات، ما عدا بعض اللحظات التي نجد فيها الحوار يتحول للدارجة، وهو ما يفقد الحوار شعريته، كما أن الحديث باللغة الفرنسية كان مقصودا من طرف المخرج والمقتبس، فحين نتحدث باللغة الفرنسية فإننا نجسد تلك الشخصيات التي تمثل الفرنسية جزء من هويتها. بمجرد التقاء خالد بن طوبال بشخصيات جزائرية مثله فإن المحكي المحلي يحل مكان اللغة الفصحى وذلك في قالب شعري، يحترم خصوصيات كل شخصية على حدا أين يحاول إعطاء لكل شخصية مستوى اللغة التي يليق بها.
أعيد القول أن أهم شيء في لغة الحوار هي الشعرية الموجودة في النص، لذلك فإن المخرج حين خاطب الجمهور قبل بداية المسرحية، لم يقل مشاهدة ممتعة وإنما قال أتمنى لكم استماعا ممتعا، رغم أن المسرح يعتمد أكثر على المشاهدة لا على الحوارات ، فهذه المراهنة على الشعرية كانت راجعة لإيمان المخرج وكل فريق العمل، بأن النص تجربة جديدة تركز على مستوى الحوارات الراقية التي تجعل من الشعر الطبق الرئيسي في العمل الفني.
ـ الممثل ابن بيئته قد يكون مشاهدا قبل أن يكون بصفة أخرى، لذلك فمع بداية كتابة النص لاحظت أن لغة الحوار بسيطة تخاطب مستويات متعددة من المشاهدين، لكن درجة فهم خاصية الشعرية الموجودة بها ،ترجع إلى مستوى المتلقي ،فالشعر لا يمكن فهمه إلا من خلال توفر مشاهد متذوق وقارئ للشعر والنصوص الأدبية.
ـ هي شخصية فلسفية عميقة ،تبتعد عن السائد في الأطروحات السطحية ما تعلق في الجانب الإنساني أو التاريخي، فمثلا حين نتحدث عن رفض خالد بن طوبال للحرب، فهناك نتحدث عن رفض العنف غير المبرر، لكن هذا لا يتناقض مع المطالبة بالحرية لشعبه، وهنا نصل إلى مرحلة النضال المقدس .هذه المساحات الصغيرة التي قد تبدو للمشاهد بأنها تناقض إنما هي تجربة فكرية وأدبية عميقة حاولنا إيصالها بأمانة من خلال المسرحية ،فنحن لم نحاول تقديس الشخصية بل وضعناها في سياقها الفني ،وتم تركها تتفاعل كما تفاعلت داخل النص الأدبي.
أظن أن الشخصية كانت تعيش اضطرابا داخليا وتشتتا، فهذا ليس عيبا، فهو حين رفض حب زوجة صديقه،هو ليس رفضا بالمفهوم المطلق وإنما هو متعلق بتراكمات نفسية عاشتها الشخصية ،حيث كانت تعيش حالة اهتمام بالوطن و تتألم لألمه، خاصة حين تم قتل شخصية «وريدة» وهي زوجته التي كانت تعيش بقسنطينة و كانت تمثل قتل للأطروحة الإدماجية عند شخصية خالد بن طوبال.