ف. ياسمينة بريهوم
قَبل أعوام اِتّصل بي زوج صديقة، يطلب تدخلي بينهما لحلّ مشكلة عالقة، قالت صديقتي إنّك الشخص الأنسب للردّ. منحتني الصداقة أن أقول ما أثق أنّ صديقتي باحت به بحب وحرقة وألم، ولم أشعر أنّي أخونها، وأنا أكشف لزوجها ما يتجاهل.
فهل الصداقة غير ما كتب سليم بركات، عن صداقة استثنائيّة؟
لم أرَ إفشاءه سرّا، بل رأيتُ من دموعه المسكوبة على صديق، يشعر بفقده كلّ هذا الوقت. في أكثر من موضع. لا يفصل الشاعران بين الفكرة والواقع، فهما يسكنان في اللّغة: “لقد أوجدتَ حلاًّ لمشكل الحياةِ كلِّه”، قال لي مرةً بإطراءٍ. “حلولُك لغوية». «وطنُكَ لغويٌّ»، قلتُ له.
لكن من بين كلّ ما طرح «سليم بركات»، من مواضيع في مكاشفته عن صداقة عمر، والحديث عن صديق، أظنه الوحيد من يستطيع أن يقول عنه وبشأنه ما يراه حريّ بأن يعرف، لم تقرأ جحافل العرب الضجرة على ضفاف الأزرق ومشتقاته، إلاّ سرّا، يسكن اِستيهاماتهم عن الأبوّة والبطولة، والإنسان؛ ليأكلوا من لحم الشاعرين، بأحكامهم وجلدات منصور السّياف القابع فيهم.
من صورة بالأبيض والأسود، تؤرّخ للقائهما الأوّل في 1973، إلى صورة بعثها أحدهم من آخر لقاء لهما في 2007، رصد بركات محطّات كثيرة في حياته وحياة درويش الشاعر/الإنسان.
يعرف كلّ من التقى درويش أنّه يتحدّث كما يكتب، ويكتب كما يتحدّث، وقد أكّد بركات ذلك، وهو يتعامل مع درويش الطاهي، ويصف درويش المجروح، ودرويش البعيد عن الاستهام الذي يرسمه كثيرون عنه، ودرويش المريض. فقد استطاع، أن يتقبّل وفاة صديقه، وهو ينعيه حين يؤكّد: «حتى اليوم الذي سمعتُ فيه صوته، قبل مغادرة الأردن إلى أمريكا بيومين، أملاً في وضْعِ الحياةِ على سكَّةِ شرايين أخرى، أكثر رأفةً بتوزيع الدم عادلاً على كيانه. كان صوتُه مستسلماً قليلاً...» أليس هذا قلب الابن الذي شعر بركات أن درويش يريده؟.
لا يسمي بركات نفسه ناقدا، حين يتحدّث عن شعر صديقه الذي لا يجد حرجا من تأثّره به: «كتبت رباعيته الأولى على ظهور أغلفة كتبي المدرسيّة»، ولا محمود، تحرّج من كشف أنّه قاوم طويلا تأثّره ببركات، ألم يجمعهما «الفقد من غير ربط»؟
تبِع الشاعران/ الصديقان بعضهما «إلى طرقات الأبدية، منعطفا بعد منعطف، ومحطة بعد محطة» فمن يقدر أن يحدّد لبركات ماذا يجب أن يقول في صديقه، وما عليه أن يتجنّب، بعد أن أقام معه، أبدا، في القصيدة/الحياة/الفقد؟
بعد هذا يكشف لنا بركات رأيه في تجربة درويش الشعريّة، مؤكّدا أنّه «يعود بالشعر مرة إلى مأهوله من الشعريّ، ويُبقي الشعر مرّة في ثقة الآخرين بالقضيّة وضوحا صرفا».
إنّ درويش يعرف أدواته جيّدا، ويستغّل كلّ الظروف المواتية ليكون شعره ماء وخبزا. ألا ينطلق هو نفسه في ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد» من قول للجرجاني، من أنّ أحسن النظم ما كان بين شعر ونثر، وهذا يوضّح رؤيته لقصيدته، إنّه يعرف ما يريده الشعر، لذلك في رأي بركات ابتعد «أحيانا من ذائقة المطلوب» واقترب منها مرارا، كأنّما يوازن هِبات الشكّ في جدوى القطيعة مع «الجرح المعهود». وآراؤه عن الشعر والكتابة مرمية في المقالات والحوارات التي لا يقرأها الكثيرون، لضيق في أفقهم.
وحين يصل بركات، إلى ما اتّفقت «العرب» أنّه خيانة للسرّ، يبدأ من الحديث في الحميميّة التي جمعتهما، مذ قال درويش، أمام خجل بركات: أأنت تتجنّبني؟
فيكون من المنطقيّ أن يسرد لنا تفاصيل اِقتسام درويش لحياته، وهو الشاعر الكبير، «ذهب اللّقاء الثاني مرسلا» في بوح صديقين، بوح أذهل بركات، الذي يبدو أنّه يحب لو يكون في شجاعة درويش، وتصالحه مع نفسه فقد تحدّث «بلا تحفّظ» لمّا كشف عن مقاومته لتأثره ببركات، وحين أكّد له أبوة مزعومة»، يبدو أن درويش بجانبه النّرجسيّ، عرف كيف يخفي رغبته فيها، لولا أنّها تناقض فكرته، يتأكّد ذلك حين يعود بركات فيقول: «أبوته ظلّت تبليغا موجزا عن صوت في الهاتف عن ابنة». فقد كلّمه كما قال «عن فكرة في عموم منطقها بلا تخصيص». فدرويش كشف، حين اِقترب من ابن بركات، عن أمنيته الدفينة، لكن بركات صدّق فكرة درويش من «أن تلك الأبوة إقامة في الكلمات».
وراح يدعم أنّه لو كان، واثقا منها، أو أراد اِستعادتها، لأخبر صديقه، الذي أخيرا أعاد فضوله، من ريح صديقه، ولو في اِبنة مدعاة: «لكان أنبأني من تكون المرأة لو كنت أعرفها».
هل تحدّث بركات عن جاره، حتى يُلام، عن حقائق قالها، إنّها حياة محمود درويش، كما شغلتنا قصيدة تمشي برجلين، وستشغل أجيالا من الباحثين، والقرّاء. فعجب للعرب يأكلون لحم شاعر لن يغادر وجدانهم، إذ سمّى بوح الشعراء فكرته/واقعه!