* عبد الحفيظ بن جلولي
ترتسم الذاكرة الاِستعمارية وهي تفرض ذاتها على المستعمَر كحالة من النّسيان تُعيد الظهور كلّما اِستنفر الوعي أدواته لإعادة قراءة الظاهرة الاِستعمارية في كافّة تجليّاتها، فديمومة المُراجعة تُتيح للوثائق مطلق الوقت لتبوح أخيرا بِمَا كانت ربّما تُخفيه وفق ظهور ثابت، لكنّ إعادة القراءة التي «ليست اِستهلاكًا» بتعبير رولان بارث، أيضًا تستفيد من تشريح الوثيقة تأويلاً منطقيًا يعتمد القرائن الدالة والاِحتمالات الممكنة.
يذكر رونيه فوتييه أنّه تحصّل على «ملقّنات» (bréviaire) –بكلّ ما تحمله الكلمة من شحنة دينية- حرّرها المُحتل في ذلك العصر وكان يُزوَّد بها الضبّاط والجنود الفرنسيين المتوجّهين إلى أفريقيا بعنوان: «نبذة تاريخية إحصائية وطوبوغرافية حول وضع الجزائر»، ومِمَّا ورد في إحداها: «هذه البلاد هي أراض شاغرة أُهملت لصالح الأعشاب الضارّة بسبب الكسل والموت الّذي يُترجم عدم الإحساس. النّساء اِنحدرن إلى الفساد الأخلاقي المنفلت، نتيجة تقاعس العرب الذين يمضون جلّ وقتهم في التدخين، ليس لهنّ دين، معظمهنّ تتشكّكن في أنّ لهنّ أرواح خالدة، ويعتقدن أنّهنّ خُلقن للإنجاب، الوضع إذا: النّساء مستعدّات بالضّرورة للمتعة».
من هذا المنظور تأتي قراءة قصّة «ياسمينة» للكاتبة إيزابيل إيبرهاردت، روسية الأصل وسويسرية المولد والتي توفّيت بالعين الصّفراء في جنوب الجزائر عام 1904، والتي حضرت إلى بونة (عنابة) رفقة أمّها عام 1897، وأسلمتا في نفس السّنة. ثم غيّرت ملبسها الأوربي بلباس عربي رجاليّ، وهو الملمح الّذي أحاطها بهالة من الغموض والشكوك، صاحبتها إلى حين وفاتها، ومنها جاسوسيتها مثلا ومعاونة الجنرال «لويس هيبرت ليوتي» في جمع المعلومات حول المنطقة.
لم تتمكن أن تغيّر في قصّة «ياسمينة» من عين الاِستشراق في رؤية «الليالي العربية» واختراق المخيال المهوس بهتك سرّ «المخدع» أو قدسية «الحرملك» أو فتنة «الأوداليسك»، وتقديم المرأة المسلمة على شاكلة ما توسّمها البحث الدّؤوب للمخيال الغربي عن شرق شاغر، وشبقي، تلعب فيه الغرائز المتوثّبة للمرأة المنتظِرة للجندي الأوربي الفاتح والجميل دوراً خياليًا، وهو ما يجعل الاِحتمال لديّ قائمًا بعد قراءة النص المذكور في أنّ اللباس الذكوري لإيزابيل لم يكن للتخفي أو لاِكتساب رمزية دينية ما، ولكن كان منبعه من هذه الرّؤية الذكورية الغربية المهيمنة، القائمة على اِكتشاف الشرق من بوابة حرمانية ظهور الجسد الأنثوي، أو كما أُطلق عليها الدكتور رابحي عبد القادر «التعرية بوصفها فعلاً كولونياليًا»، فالزي الرّجالي كان يمثل لحظة الاِنفصال عن «التعرّي» الغربي ومعانقة التدثر الشرقي المراد تعريته، فطوّرت بنية اِختلافية يمكن أن تسهّل لها قراءة الشّرق بعيون المستشرق الفحل، أو المحتل الّذي تشرّب ثقافة الغرب المدوّنة تصويراً وكتابةً عن شرقٍ فانتازي، مستلهَم من فيوض الرّغبة الشّبقية الطاغية عند امرأة تدمن اِنتظار الغازي الأشقر، وبذلك اِستطاعت أن تخترق «الحرملك» الشّرقي رمزيًا وواقعيًا بتكريسها النّموذجي لــ»ياسمينة».
يقوم التصوّر الاِستشراقي على المحاولة المخيالية لاِكتشاف «الليالي العربية»، أي البحث الدّائم عن «سحر الشّرق» الّذي كرّسته «ألف ليلة وليلة» المترجمة من قبل أنطوان غالان عام 1704، ومنه قام أوجين دولاكروا برسم لوحته «نساء الجزائر في مخدعهنّ» سنة 1834، ولوحة «أوداليسك» للفنّان بيير أوغست رنوار عام 1870، ولوحة بيكاسو «نساء الجزائر» عام 1954، وهذه الأعمال تصوّر المرأة المسلمة كموضوع للشّهوة، والمتخيّل الأنثوي الغرائبي الّذي يبحث عنه الغرب، ورغبته في اِكتشاف فضاء يبتكر الرّؤية إليه من خلال اِنغلاقه المُفجِّر لغرائبيته، والمُحرِّر لشهيّة الغرب في العثور على رأس الخيط لقراءة الشّرق.إنّ المرأة في الفضاء الاِستشراقي التّصويري، شهوانية متفرّغة، تُمارس غواياتها بعيداً عن رقابة المجتمع، لا همّ لها سوى تمضية الوقت، واستولت فكرة «المخدع» أو «المحظيّة» الغامضة، وصعوبة الوصول إليها من قِبل الأجانب على وعي الاِستشراق، فكانت العلبة السوداء التي حاول العقل الغربي تفكيك شفراتها، سواء فنّيًا أو فكريًا.«ياسمينة» لم تشذ عن هذه القاعدة في مسار سرديتها الكاشفة لشهوانية المرأة وانحطاط مستوى وجوديتها، ولا تمثل في «ياسمينة» سوى موضوعًا للذة والاِحتقار، فهي لا تلتقي «جاك» وإنّما يكتشفها، وفعل «الاِكتشاف» قائم في الوعي الغربي كحالة تُؤكد اِستعلائيته باِعتباره الفاعل وليس الموضوع أو المفعول به، والأوّل وليس الثاني، وهي «المركزية» التي دأب على دحضها إدوارد سعيد.
«ياسمينة» يكتشفها «جاك» «في منطقة مهجورة بشدّة من الوادي» أثناء عبوره العفوي، وحضور الوادي والمنطقة المهجورة والتقريب بينهما يكشف تصوّر المستعمِر عن اِعتقاده بخلوّ وعي العربي من فكرة الإعمار والحضارة، وهو ما يكشف عن صورة التوحش الّذي جاء المستعمِر ليهذّبه لدى الأمم الشّرقية، والفراغ الّذي حضر ليملأه، والصّورة الأشد تكريسًا لِمَا يريد أن يجعل به الشّرق مُباحًا هو فكرة «الخيانة»، فياسمينة حينما سلّمت «جاك» جسدها كانت مخطوبة.
يقف «جاك» أمام «ياسمينة» سائلاً بلغة فرنسية: «هل يوجد ماء من هنا؟»، إذاً هو العطش لاِكتشاف المنطقة المُعلنةُ ممنوعةً و»محظيّة» في ظلال الشّرق، والتي يجب ترويضها وتهذيبها: «دون أن تجيب، قامت ياسمينة منصرفة، قلقة، تقريبًا شرسة»، تلك «الشّراسة» التي تبرّر على العموم، واقعيًا ورمزيًا قيّومية وسلطة الغرب على الشّرق، والتي تُعتبر مستمرّة في الوعي الاِستعماري الغربي، وهو ما يؤكّده احِتلال أمريكا للعراق وأفغانستان. ترتسم خطوط البداهة التخييلية للشّرق الشّبقي المستكشَف عند تلمّس «جاك» لأثر «ياسمينة وهي مولّية ظهرها إيّاه: «بدت له ياسمينة، رشيقة وناعمة تحت ملابسها الرثّة الزّرقاء»، لتكتمل سردية الاِكتشاف والتّرويض في دلالة العسكري الباحث عن إرواء عطش الشّبق والهيمنة، فتولية الظهر ليست اِستنكارا لوجوده أو اِحتقارا له، وإنّما هي السردية التي تبيّن سهولة الاِنقضاض على غير الأوربي، الّذي لا يرى إلى الأمام، بل تركيزه موجّه إلى الخلف (الماضي).
يعتبر خورخي لويس بورخيس أنّ «الحدث الأبرز بالنّسبة لتاريخ الأمم الغربية هو اِكتشافها للشّرق»، والاِكتشاف في المخيال الغربي يتأسّس عند المحرّم الّذي يحيط حياة الأمم الشّرقية، وبالتالي تتربّع المرأة مركز المحرّم الّذي سوف يتفكّك في وعي المخيال الغربي عند عتبات الجسد المستور والمرغوب في آن واحد، وهو ما سوف تشتغل عليه إيزابيل إيبرهاردت في تصميم الشكل البغائي المعلِن لرغبة المرأة في الاِنفكاك عن واقعها المنغلق، بحيث تنفصل «ياسمينة» عن واقعها الإنساني إلى حضيض المتخيّل السّردي في «حي الزّنوج»، الّذي تقريبًا تسكنه «بنات هوى»، الّذي تؤول إليه بعد مغادرة «جاك» في مهمَّة، حيث تقضي أيّامها في المقهى تصطاد الزّبائن، و»مقهى مور»café maure لا يعبّر سوى عن فكرة الضّياع الإنساني الّذي يولّد حكايات الاِغتراب والتيه عن البوصلة، التي يحضر الغربي «المتحضّر» على الدّوام لإعادة الشّعوب الضالة إليها.يعود جاك متزوّجًا، وهو يتجوّل مع زوجته يلج «مقهى مور» ليلتقي «ياسمينة»، والحركة الحدثية المؤسِّسة لسردية الاِختلاف السّلبي أو التّمييز الاِجتماعي والإثني والأنثوي، تظهر في أنّ زوجة جاك الباريسية لا ترى لحظة اللقاء لأنّه يتمّ في «المقهى» ومع «مسلمة»، والاِبتعاد طوعيًا لا يفرضه جاك، وبالتّالي يفصل الحدث بين سردية التعالي والنّبل الأنثوي في مستوى المستعمِر، وسردية السفولية والحقارة الأنثوية في مستوى المستعمَر.
لحظة اللقاء هي عودة إلى فكرة «الاِكتشاف»، وهي فكرة عميقة تعرّي ما يرومه المتخيّل الغربي من الواقع الشّرقي، فالأوربي يقف سيّدا في المساحة الوجودية مكرّسًا مركزيته، وبالتالي يصبح ما يحيطه أطرافًا أو هوامشا لا تقوم في وعيه سوى مسخَّرَة لتحقيق مآربه. لحظة الاِكتشاف الأولى في القصّة تؤسّس لمسار التّعرية المبني على الشّهوانية المسيطرة على المتخيّل الغربي في اِكتشافه للشرق، وهي عثور «جاك» على «ياسمينة»، أمّا لحظة الاِكتشاف الثانية فتدور في المقهى، وتعرية لحظة الضّعف، إذ ياسمينة حينها كانت مصابة بسعال مدمي، فلحظة المرض هي المستوى الّذي يبرّر به المخيال الغربي اِختراق المخيال العجائبي الشّرقي وشرعية اِحتوائه له، لأنّ اللقاء في المقهى تخلّله العتب، وشعر «جاك» بالذنب لكنّه حاول تعويض ذلك بالمال، فمدّ لياسمينة كيس منه فرمته به، ورمي المال يكثّف الدلالة في مقدّرات البلاد المهدورة من قِبل المستعمِر، ولعلّها لحظة وعي، لكن في دائرة المستعمِر الغالب، وتموت ياسمينة في «حي الزّنوج» غريبة تمامًا كما تحاول المدوّنة الاِستعمارية تغريب المستعمَر عن ذاته وهويته، إذ أنّ مسار السّرد لا يكشف سوى عن محو لهوية ياسمينة بتدرّج مميت وإظهار لهوية الغالب في عودته إلى مسرح الحكاية منتصرا لغربيته بتزوّجه من باريسية.