فراشـةُ قالمــة تطيـرُ إلى سمـاءٍ بعيـدة
* فريد غربيـــة
انطفأت شمعة أخرى من شموع الفن التشكيلي بالجزائر بعد رحيل الفنانة الألمانية بيتينا هاينن عياش مطلع جوان الجاري بمدينة ميونيخ الألمانية، عن عمر يناهز 83 سنة مخلفة إرثا فنيا ثريا يخلد تلك الريشة الذهبية التي ظلت تحاكي جمال الطبيعة و تفتن المشاهد بألوان الربيع الزاهية بسهول و جبال قالمة و صحاري و سواحل الجزائر الواسعة.
لها في كل شبر من الجزائر قصة مع الإبداع المستمد من الواقع الذي عايشته في ترحال لم يتوقف على مدى 65 سنة، قضتها كلها بقالمة و لم تغادرها أبدا إلا للمشاركة في المعارض الدولية بلوحات من البراري الجزائرية المترامية الأطراف، لوحات تجسد الجمال و السحر الفاتن و توصله إلى كل العالم حتى في أصعب المراحل التي مرت بها الجزائر، موطنها الثاني الذي اختارته للعيش وفاء لزوجها حميد عياش الذي يرقد بمقبرة بغدوشة، غير بعيد عن منزل بيتينا بحي الباطوار القديم، حيث عاشت حتى أيامها الأخيرة بعد أن رفضت العودة إلى موطنها ألمانيا وفاء لزوجها حميد، و لجيرانها و مدينة كالاما، و سهول سيبوس و جبال ماونة، من حيث تفجرت مواهب الشابة الألمانية ذات الشعر الأحمر المسدول، فرسمت أجمل اللوحات الفنية التي أخذت بيدها إلى العالمية، فكانت سفيرة للريشة الجزائرية على مدى نصف قرن من الزمن، قضته بين السهول و الاودية و الجبال تستنطق جمال الطبيعة و تحاور أعيان المدينة و مثقفيها بصورة قوية لا تترك أدق التفاصيل.
عندما كرمتها جامعة 8 ماي 45 بقالمة في عيد المرأة يوم 5 مارس 2014 بمناسبة مرور 50 عاما على تواجدها بمدينة قالمة و بداية مسيرتها الإبداعية مع الفن التشكيلي، كان التعب قد بدأ ينال من الجسد الأحمر المسكون بحب الطبيعة و معالم قالمة و الجزائر كلها، كانت يومها في السابعة و السبعين عندما كشفت عن سر بقائها بالمدينة التاريخية العريقة كل هذا الزمن المليء بالأحداث و التحولات، قائلة لطلبة جامعة قالمة و كل الحاضرين في حفل التكريم الكبير «لا استطيع ان أغادر حميد، إنه ينام هناك قربي، لقد زارني هذه الليلة، مازلت أراه حاضرا معي، إنني أشعر اليوم بينكم بسعادة كبيرة تغمرني ، هذا يشرفني كثيرا أشكركم جميعا من أعماق قلبي ، اعذروني أنا أتكلم بصعوبة و لا أستطيع أن أعبر لكم عن فرحتي و مدى احترامي و حبي الكبير لمدينة قالمة و سكانها ، لقد كبرت هنا و بقيت هنا سنوات طويلة، و لم أغادر رغم الصعوبات و الأحداث التي مرت بها المنطقة ، أشكركم كثيرا».
و منذ قدومها إلى قالمة في 3 فيفري 1963 اندمجت بيتينا هاينن بسرعة مع محيطها و واقعها الاجتماعي الجديد، و كان لمحيطها العائلي المثقف و المتفتح الأثر الكبير في مسيرتها الفنية، حيث كانت محاطة بالاحترام أينما ذهبت في رحلة البحث عن المواقع الطبيعية بسهول و جبال قالمة، و مدن الصحراء الكبرى و شواطئ الجزائر الجميلة، و من هذه المواقع شكلت بيتينا أجمل لوحاتها الفنية التي زارت أكبر المعارض و التظاهرات الفنية العالمية.
و لم تكن الطبيعة وحدها مصدر إلهام للمبدعة الألمانية، فقد رسمت بيتينا لوحات جميلة عن أبرز الشخصيات الاجتماعية و الفنية و الثقافية بمدينة قالمة، و معالم الحضارات القديمة، و المواقع السياحية الحموية، و تقاليد المرأة الجزائرية، فكانت بحق ريشة مبدعة شاملة جمعت بين مختلف مدارس الفن التشكيلي، لكن انجذابها إلى الطبيعة كان الأكثر حضورا في اغلب أعمالها الفنية.
كانت تركب سيارتها الصغيرة و تتنقل باستمرار بين سهول و جبال قالمة بحثا عن منظر طبيعي مثير، و عندما تعثر على صيدها الثمين تنصب خيمتها الصغيرة و تبدأ في محاكاة المشهد الماثل أمامها بكل ما يحمل من ألوان و تفاصيل قد لا يراها المشاهد العادي.
المسرح الروماني، شاعر عنونة، الشلال البديع، كاسي راسي، قمة لالة ماونة، نهر سيبوس الكبير، شقائق النعمان و حقول القمح كانت من أجمل ما رسمت ريشة الفنانة الألمانية بيتينا بقالمة، و لها الكثير من الأعمال الفنية المميزة من صحراء الجزائر و شواطئها الجميلة، أينما حلت تبدع و تعود بصيد نادر يدعم مخزونها الوفير من الإبداع الذي تجاوز حدود موطنها الثاني الجزائر و بلغ العالمية بكل جدارة و اقتدار.
و تأثر العديد من رواد الفن التشكيلي بقالمة بالفنانة الألمانية بيتينا هاينن عياش، و كانت بالنسبة لهم مدرسة عريقة تمدهم بأسرار الريشة و الألوان، و تدفع بهم إلى مزيد من البحث و العمل الجاد وسط بيئة معرضة عن الفن التشكيلي و كل الثقافة و الإبداع.
* الصحفي محمد مناني جار بيتينا بحي المذبح القديم
«قالت لي أنا كالنحلة.. عمل دؤوب و من كل زهرة رحيق مميز»
يقول الصحفي محمد مناني، جار الفنانة الراحلة بيتينا هاينن عياش متحدثا للنصر، «إن الساحة الفنية بقالمة و الجزائر قد فقدت مبدعة عالمية مميزة تخرجت من مدرسة الواقع بأحياء و سهول و جبال قالمة، فنانة مليئة بالإنسانية و الحب و الأمل و السلام، متفتحة بلا حدود، و ذات كرم و سخاء، تعين الفقراء و تكرم ضيوفها حتى عندما كان المرض ينهش جسدها ببطء، لكنها كانت شجاعة مقاومة مبتسمة حتى آخر أيامها بحي الباطوار قبل ان تغادر إلى ألمانيا حيث توفيت هناك، لها طفلة في ألمانيا و ولد طبيب بمدينة ميونيخ، كانت تحب زوجها حميد أحد كبار المقاولين بمدينة قالمة بعد استقلال البلاد، لكنه توقف بمنتصف الطريق بعد ان شعر بالتضييق مطلع التسعينات، كانت تعيش بمفردها في منزلها الجميل بحي المذبح القديم، أحد أقدم أحياء قالمة، كانت تسألني عن فقراء الحي في كل مناسبة، و تتصدق عليهم من مالها، اهتمت بكل أنواع الفن التشكيلي و قالت لي بأنها كالنحلة تعمل دون كلل و تجمع من كل زهرة رحيق مميز، رسمت المرأة في الحمام و المطبخ، و رسمت أبرز الشخصيات الشعبية و الفنية بالمدينة، و اهتمت بالطبيعة و الآثار، و نقلت صورة قالمة و الجزائر إلى كبرى صالونات و معارض الفن التشكيلي بألمانيا و أوروبا، كانت بحق سفيرة للريشة الجزائرية حول العالم، رسمت حي المذبح القديم من شرفة منزلها فأبدعت و كأنها مهندسة معمارية بكل التفاصيل، لم تتغيب يوما عن معارض دار الثقافة بقالمة، و كونت الكثير من تلاميذ المدرسة التشكيلية القالمية، و خلدت أحد تلامذتها و هو الفنان الراحل حسين حيمر بلوحة فنية جميلة ستبقى خالدة في مسيرة المدرسة التشكيلية المحلية و الوطنية، لم يكن المرض يمنعها من ان تقوم للضيف، و تعد له فنجان القهوة دون ان تتحدث عن مرضها أو تشكو منه، حتى ان بعض الجيران و الضيوف أصبحوا يشفقون عليها عندما يزورونها للاطمئنان عليها، كانت توصيني بالاستماع الجيد للناس و التحدث إليهم و مشاركتهم أفكارهم و آمالهم و أحزانهم بكل صدق و إنسانية، كانت امرأة حرة متفتحة، شجاعة مغامرة و مدركة لما يعانيه الناس في حياتهم اليومية، رحلت بيتينا و بقيت لوحاتها و إنسانيتها و حبها لموطنها الثاني، و وفائها لروابط الزوجية حتى آخر يوم في حياتها»
* الصحفي عبد الوهاب بومعزة
بيتينا مدرسة فنية رائدة و من لم يتعلم منها خسر فرصة لا تعوض
يعد صحفي جريدة الوطن المتقاعد عبد الوهاب بومعزة من أهم المقربين و المهتمين بحياة و أعمال الفنانة الألمانية بيتينا هاينن عياش، رافق مسيرتها الإبداعية سنوات طويلة، و قال في تصريح للنصر بان الساحة الفنية بقالمة و الجزائر كلها قد فقدت مدرسة عريقة رائدة، من لم يتعلم منها قد خسر فرصة لا تعوض.
«تلقيت خبر وفاتها منذ ساعات قليلة و أنا في انتظار رسالة من ابنها هارون الطبيب العامل بمدينة ميونيخ الألمانية، سمعت أنها جاءت إلى قالمة مؤخرا رفقة ابنها لتسوية بعض الأمور الإدارية ثم غادرت بلا رجعة، ظلت وفية لمدينة قالمة و قالت قولتها الشهيرة في زمن الجنون الإرهابي الدامي بأنها ستبقى هنا و لن تخاف من الموت، و لن تهرب كما فعل الآلاف من الأجانب الذين غادروا البلاد عندما اشتدت الأزمة الأمنية الطاحنة منتصف التسعينات، فتنتها طبيعة قالمة المميزة التي تجمع بين الساحل و الهضاب العليا، و كان جبل ماونة المنتصب جنوب مدينة قالمة الأكثر جذبا و تأثيرا في الحياة الفنية لبيتينا هاينن عياش، لقد رسمته 300 مرة، في كل لوحة تفاصيل مغايرة عن اللوحة التي تسبقها، كانت ترسم و الطبيعة أمامها، و تحث تلاميذها على العمل الميداني و عدم الاعتماد على الصورة الفوتوغرافية لرسم اللوحة الفنية، لان الصورة تكون ناقصة أحيانا و لا تقدم كل التفاصيل، أحبت الطبيعة حتي بلغت ما يشبه مرحلة التصوف، رغم أنها كانت ترسم مشاهد أخرى من الآثار و العمران و الصحراء و البحر و شخصيات اجتماعية و فنية و ثقافية بينها زوجها حميد و ابنتها ديانا و ابنها هارون و الشاعر احمد عاشوري و كاسي راسي و تلميذها الفنان التشكيلي حسين حيمر، حماتها و المتحدث عبد الوهاب بومعزة، لوحاتها موجودة اليوم في كبرى متاحف أوروبا و مصر، و لها جناح بقصر الثقافة بالعاصمة، لقد نقلت صورة قالمة و الجزائر إلى العالم، الفن التشكيلي خسر قامة كبيرة لن يعيدها الزمن».