جاءت جائحة كورونا لتضع المعمار والمُدن والفضاءات الحضرية في موقع اِتهام واستفهام، فقد صنف بعض الخبراء أزمة الوباء بكونها حضرية باِمتياز، لأنّ المُدن تُمثّل مراكز النشاط التجاري والاِقتصادي ومكان التجمّعات السّكانية الكُبرى... وقد ضاقت أغلب المُدن والشوارع على النّاس أيّام الحجر ولم تعد مُتاحة، كما ضاقت بهم أغلب المنازل والغُرف، ما جعل العديد من الدول تتحدّث حول مستقبل المعمار.
* إستطلاع/ نــوّارة لحــرش
كذلك المُدن بتنوع وظائفها وأحجامها ومواقعها الجغرافية وتخطيطها المعماري هي التي تفرض منطقًا معيناً وسلوكاً اِجتماعياً واِقتصاديًا للسُّكان، وتسيير وإدارة أي أزمة صحيّة تتطلب التكيّف والتحضير النفسي وتهيئة السُّكان لمثل هذه المجابهات للأزمات ضمن مُخططات لعديد القطاعات. فهل يمكن الحديث هنا عن ثقافة تَتَعَدَّد وتتوسع إلى ثقافات، منها ثقافة البناء الوقائي والعمران الصحّي اَيكولوجيًّا ومجتمعيًا؟
وهل يمكن القول أنّ زمن ما بعد جائحة كورونا سيُعجِل التفكير أو التخطيط لبلورة حلول أخرى للاِنتقال الإيكولوجي والمجتمعاتي وفق رؤية مستقبلية تتماشى ومختلف الكوارث أو الأوبئة؟ وهل يمكن أن نطمح إلى تصوّر جديد للتصاميم العمرانية لِمَا بعد الوباء تُراعي فيها الحاجات النفسيّة للإنسان في حياته الفردية والجماعية. وهل يمكن الحُلم بتصميم «مدن» من منظور صحي يُخفف من آثار الأوبئة والجوائح؟ هل يحتاج الأمر إلى إعادة بناء المُدن من جديد لتصبح قادرة على مواجهة الجوائح العالمية، أم أنّ بعض التعديلات الضرورية تكفي لتفي بهذا الغرض؟ وهل المُدن الذكية ستساهم في إيجاد أو خلق بعض الحلول لمكافحة أو للحد من اِنتشار الأوبئة مستقبلاً، وقت حدوثها؟ حول هذا الشأن «العمران والمُدن ما بعد جائحة كورونا»، كان ملف هذا العدد من «كراس الثقافة» مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين المختصين في الهندسة والعمران وتسيير المُدن والتقنيات الحضرية.
* خالد عبد السلام/ أستاذ وباحث أكاديمي -قسم عِلم النفس بجامعة محمّد لمين دباغين، سطيف2
الهندسة العمرانية لِمَا بعد كورونا تتطلب مراعاة كلّ أبعاد الصحة العقلية والنفسيّة
لا يمكن تصور وجود الإنسان خارج الفضاء العمراني، فالحياة في المدينة وهندسة العمران فيها كما تؤكدها الكثير من الدراسات العلمية تُؤثر في حياة الإنسان وفي طريقة تفكيره وسلوكياته وعاداته بشكلٍ مباشر وغير مباشر. حيث تُؤثر على العلاقات الاِجتماعية وعلى نظرة الإنسان لنفسه ولغيره. كما أنّها تعتبر مصدرا للكثير من الظواهر النفسيّة والسلوكيّة وحتّى أمراض الأوبئة المُختلفة، نتيجة العدوى التي تنتج عن التلوث ولامبالاة السُّكان بالجانب الصحي في الفضاءات العمومية، داخل العمارات والأحياء وفي الطرقات والإدارات وغيرها. فالكثير من الدراسات أظهرت العلاقة بين الضغوط النفسيّة: القلق الاِنهيارات العصبية والإحباط والقلق والغضب وغيرها من الاِنفعالات وبين الحياة في المدينة وما تتميز به من تسارع في وتيرة الحياة داخلها، خاصة المُدن الكُبرى والعواصم العالمية والاِزدحام بين الناس في الفضاءات العمومية والإدارات والمحلات التجارية إلى جانب الاِزدحام المروري والضجيج والتلوث وغيرها.
عِلمًا أنّ الإنسان من أجل صحته النفسيّة والعقليّة في حاجة إلى الراحة والهدوء والطمأنينة والشعور بالأمن والاِنتماء. وعليه، نرى تفشي وباء كورونا كوفيد19 بشكل لافت للاِنتباه داخل المُدن أكثر من الأرياف في كلّ دول العالم نتيجةً للأسباب السابقة الذِكر يجعلنا جميعًا نطمحُ إلى تصوّر جديدٍ للتصاميم العمرانية لِمَا بعد الوباء تُراعي فيها الكثير من الحاجات النفسيّة للإنسان في حياته الفردية والجماعية. وهنا نُؤكد على أهمية توفير المساحات الخضراء بين العمارات والأحياء لإشباع الكثير من الحاجات النفسيّة للإنسان، حيث أكدت الكثير من الدراسات أنّ عقل الإنسان في حاجة إلى الاِحتكاك بالطبيعة والتفاعل الاِجتماعي لإشباع الحاجة للفضولية الطبيعية. ونشير إلى تجربتين أوّلهما تجربة أجراها مخبرBMW قيجنهايم (Guggenheim) في نيويورك وبرلين ومومباي والتي أكدت أنّ الأشخاص تنتابهم مشاعر إيجابية على حافات المساحات الخضراء وفي الطرقات التي تتوّفر على واجهات مفتوحة ونشطة. وفي تجربة ثانية أيضا أُجريت من قِبل عيادة الحي السعيد (Cabinet Happy city) في فان كوفير (Vancouver)، أكدت أنّ الحدائق والفضاءات العمومية الأخرى عندما يتقاسمها السُّكان تُعزّز شعورهم بالرفاهية وتُقلل من الضغوط النفسيّة وتُضاعِف من الشعور بالاِنتماء وتُقوي الثّقة في الآخر.(Codra 28/02/2019). يُضاف إلى ذلك أهمية توفير فضاءات مفتوحة وشوارع واسعة داخل المُدن وبين الأحياء للعب ومُمارسة النشاطات الرياضية والترفيهية للسُّكان بِمَا يُحقق الشعور بالرفاهية والسّعادة أكثر فأكثر لديهم.
وبشكلٍ عام فالهندسة العمرانية لِمَا بعد وباء كوفيد19 تتطلب مراعاة كلّ أبعاد الصحة العقلية والنفسيّة للسكان بِمَا يضمن لهم التوازن النفسي والتفاعل الاِجتماعي والاِطمئنان الآمِن من كلّ الأخطار والتهديدات سواء كانت أوبئة أو كوارث طبيعية أو اِنحرافات سلوكية واِجتماعية.
إنّ وباء كورونا يجعلنا نُعيد النظر ونُراجع الكثير من القيم التي تتحكم في تصرفاتنا، لنجعل القيم الرّوحيّة والأخلاقية هي السيدة والإنسان هو المحور الأساسي في تفكيرنا، وسعادته ورفاهيته هي الهدف الأسمى في كلّ مشاريعنا التنموية المستقبلية إذا أردنا الخير للبشرية.
* عبد الرزاق أمقران/أستاذ وباحث أكاديمي –قسم علم الاِجتماع الثقافي، جامعة سطيف 2
على المُدن ألاّ تتجاهل ما حدث
تعدّدت التحليلات التي اِهتمت بمرحلة ما بعد جائحة كورونا في العالم وفي الجزائر واستندت على معطيات الراهن مستشرفة المستقبل، لكن في الوقت نفسه، الكثير منها يتجاهل الفترة الزمانية التي سبقت ظهور الوباء. مراحل ثلاث أراها ضرورية في دراسة أي موضوع يرتبط بجائحة كورونا، مرحلة قبلية ومرحلة راهنة ومرحلة لاحقة، أمرٌ يُتيحُ التتبع المُتدرج للعناصر البحثيّة التي نُخضعها للمراقبة.
وعليه، فإنّ التحليل الّذي يضع المدينة الجزائرية في قلب التعامل مع مرحلة ما بعد كورونا، يحتاج يقينًا إلى العودة إلى الماضي القريب ليُفهم ما يحدث راهنًا تمهيداً لاِستشرافٍ مستقبلي.
برأيي وعلى ضوء الأشهر الماضية القليلة، أفرز السياق جملةً من المناحي السلوكيّة في المجتمع أهمها عزوف شرائح عريضة من الجزائريين عن اِحترام شروط الحجر الصحي وقايةً من أثر الجائحة وكسراً لوتيرة اِنتشاره. ما معنى ذلك في حاضنة المدينة؟
تجاهل المخاطر التي يُمثلها الوباء المستفحل، يُجسد في اِعتقادي فِعلاً مُقاومًا هو اِمتدادٌ منطقيٌّ لأشكال المقاومة التي لازمت الساكن في المدينة تجاه قضايا مختلفة (ليس هنا مجال ذكرها). حاضنة المدينة عاشها الجزائري ماضيًا كعبءٍ يُثقل باِستمرار حياته ولم يعشها مُطلقًا (كمعنى حياتي)، وبحضور الجائحة تقوى لديه شعور العبء واِنتفاء متعة الحياة، فعدم اِحترامه للتعليمات الصحيّة هو في كنهه مقاومة رافضة لكلّ شيء.
المدينة بعمرانها وأنشطتها ومظاهر الحياة فيها، تُشعر الجزائري بأنّه ضيفًا وليس مالكًا أو سيداً للفضاء، وعليه يُقاوم هذا الوضع بشراسة كلما سنحت له الفرصة. مثلا، يستحوذ على فضاءات من المدينة مُلتفًا على القوانين، يُدخل تعديلات خطيرة على المساكن ولا يُبالي. مدينة يذوب فيها كلّ الجزائريين وتُصادر التمايز والخصوصية، فلا الشاب وجد ضالته فيها ولا الكهل وجد راحةً في فضاءات خاصة ولا المُتعلم وجد نوادي تُجدد طاقاته.. مدينة اِستنبتت مع مرور الوقت في نفوس ساكنيها تمثلات مُتجذرة تحوّلت إلى ما يُشبه مكتسبات صعب التخلص منها في سياق المخاطر. لا جسر إذن بين مرحلة قبلية للوباء ومرحلة راهنة، بل الزمن اِمتدادٌ لا تَقطع فيه، ومنه ينتج الفعل المُقاوم. المدينة الجزائرية بعد كورونا ستكون مُطالبة باِحتواء غضب الساكن فيها وإشراكه في بناء سيرورتها بغاية تهذيب تصوراته تجاه الخاص والعام، تجاه الحياة العادية والحياة الاِستثنائية وتجاه قضايا العيش المشترك. إخفاقات المدينة هي إخفاقات من يسكنها. الفِعل المُقاوم في المدينة مُستقبلاً قد تشتد دلالاته السلبيّة إن عادت المدينة إلى وتيرتها المألوفة متجاهلة ما حدث في سياق كورونا.
* أمير عمر/أستاذ وباحث في التخطيط الحضري والاِستشراف الاِستراتيجي، مخبر هندسة البناء والهندسة المعمارية -جامعة بجاية
الأزمة الوبائية فتحت باب التفكير على «المدينة الصّحيّة»
نعيش منذ أزيد من ثلاثة أشهر في حالةٍ من الخلوة والرعب جراء الأزمة الصّحية التي اِجتاحت العالم والتي أودت بالعديد من أرواح البشر على مستوى العديد من البلدان. ولقد فتحت هذه الجائحة بابًا كبيراً على إعادة النظر والتفكير في أسلوب حياة الإنسان الحديث ورفاهيته. ولقد أدى غلق المُدن الكُبرى والمراكز الحضرية على المستوى العالمي إلى إعطاء درس كبير جدا للسكان والمسؤولين وكذا المتخصصين في تخطيط المُدن. حيث كانت تجربة جد مزعجة سمحت برؤية المُدن في حلة لم يسبق رؤيتها على هذه الحالة من قبل.
كانت معظم الدراسات التي تُعنى بالمدينة، في السنوات الأخيرة، مركزة على ما يُسمى «بالمُدن الذكية» و»المُدن الإيكولوجية»، لكن هذه الأزمة فتحت باب التفكير على «المدينة الصّحيّة» التي يجب التفكير في تقنيات جديدة لإنشائها. لذاك وجب الأخذ بعين الاِعتبار العديد من الأفكار لإرساء هذا الفضاء المجتمعي الصحي.
أوّلاً: الاِنفجار الديموغرافي والقدرة الاِستيعابية للمُدن المستقبلية. فاِستنادا إلى تقديرات الأمم المتحدة، فإنّ عدد سكان العالم سيبلغ حوالي8,5 مليار نسمة مع حلول عام 2030، وأن يبلغ عام 2050 حوالي9,7 مليار نسمة. هذا الاِنفجار الديموغرافي يجعل الحكومات تتسارع إلى إيجاد حلول مستدامة بإبعاد الناس من المُدن وتهيئة الأرياف للحد من النزوح الريفي. تَركُّز السكان في المُدن يؤدي حتمًا إلى تفاقم الأمراض وصعوبة تطبيق سياسات الوقاية من الأخطار، خاصة الصّحيّة، والتدخل عند وقوعها.
ثمّ إنّ لحجم المدينة علاقة وطيدة مع اِنتشار العدوى. حيث يمكن التحكم في الوباء في القُرى والمراكز الحضرية ذات الكثافة السكانية الضعيفة وذلك بعزلها بسهولة. علاوةً على ذلك فإنّ التجمعات السكانية في هذه المناطق يمكن جدا مراقبتها.
ثانيًا: التكنولوجيا في خدمة المُدن الصّحيّة. وفي هذا السياق، لقد كشفت جائحة كورونا على مستوى العالم منذ بدايتها، وعلى طول فترة الحجر الصحي الّذي فُرض على العديد من المُدن، على دور وأهمية المنصّات الرقمية التي تقوم بأدوار ذات منافع على مستخدميها. فقد تمكنت بفتح أبواب الاِتصالات الصوتية أو المرئية، التعليم عن بعد وتنظيم العديد من المؤتمرات والندوات واللقاءات العلمية والعملية عن بُعد، وكذلك التسوق عبر الانترنيت. هذا بلا شكّ تحوّلٌ عميق في مفهوم الحركة حيث ستقل الحركة الجسدية في المستقبل لتأخذ مكانها المعاملات الاِلكترونية.
من جهة أخرى، فقد طال الحديث عن المُدن المستدامة متناسيين بذلك الجانب الصحي للمدينة. فالسعي إلى خلق «مُدن مستدامة» بالحفاظ على البيئة يمكن بشكلٍ أو بآخر المساهمة في الحفاظ على الصّحة العمومية. لكن وبشكل رسمي، لابدّ أن تصبح العناية الصّحيّة بالمُدن مستقبلاً «سلوكًا معتاداً للمواطنين» وليس فِعلاً آنيًا أو عملية تُتَخذُ للصد لحادث معين، كما حصل مع كوفيد19. ثالثًا: اللامركزية في اِستخدام الخدمات. فالتنظيم الجديد الّذي يجب أن يُعتمد في تخطيط المُدن المستقبلية، كما قال الخبير الدولي سليمان أبو خرمة، يجب أن يستند على قانون «اللامركزية في توزيع وإدارة الخدمات من خلال تقسيم المدينة إلى عدة نطاقات تكون فيها الخدمات والأسواق المحلية ضمن مسافات مطروقة للراجلين مِمَّا يُعزّز من مظاهر الصّحة العامة للسكان وتقوية الروابط الاِجتماعية بينهم». فكلّما تمّ توزيع هذه الخدمات بشكل يسمح لكلّ المستفيدين الوصول إليها بأمان وبدون اِختلاط ولا اِزدحام، يضمن الصّحة العمومية ويُساهم في تقوية الروابط الاِجتماعية.
* خالد فوضيل/أستاذ وباحث في معهد تسيير التقنيات الحضرية -جامعة قسنطينة3
لا يُمكن لمُدن الغد أن تبقى كما هي اليوم
تبدو فكرة العيش في كوخ بسيط وسط مزرعة فكرة رائعة فجأةً؟ ربّما يتقاسمُها ويتمنّاها الملايين اليوم. فطالما تبادر في الآونة الأخيرة إلى مَسامعنا ذلك في الشارع وفي التلفزيون. لكن ما الّذي تغيّر؟ يعيش أكثر من ثلثي سكان العالم في المُدن، ولم تعُد هذه الأخيرة مُهددة بالأخطار الطبيعية والأعمال الإرهابية فقط والحروب، بل أضحت مكانًا خصبًا لاِنتشار الفيروسات والأخطار البيولوجية. وذلك لكونها مُزدحمة بالسّكان ومكتظة بالوظائف المختلفة والخدمات التي يتدفّق عليها سيُولٌ لا متناهية من البشر. وقد شكّلت المُدن العالمية والتجمّعات الحضرية الكُبرى بؤرًا واسعة لاِنتشار فيروس كورونا (كوفيد19) وكانت عواصم العالم في القارات الخمس منذ نهاية سنة 2019 إلى يومنا هذا مسرحًا لتسجيل أكبر الإصابات وضحايا الجائحة. بل كانت المُدن حتّى في الماضي مكانًا خصيبًا للأوبئة واِنتشار الأمراض مثل الطاعون والكوليرَا منذ القرون الوسطى.
ولأنّنا اليوم، نعيش عصر الجوائح والأوبئة والفيروسات الفتّاكة، والخطر الصحّي الّذي يُضاف إلى قائمة الأخطار الطبيعية والصّناعية التي حصدت الملايين من الأرواح من سكان المُدن مثل الزلازل والأعاصير والفيضانات. تواجه المُدن تحدّيات (حياة أو موت) إذا اِستمر ظهور الأوبئة على غرار فيروس كورونا المستجدّ الّذي حوّل عواصم العالم إلى مدُن أشباح يكسرُ صمتها عويل سيارات الإسعاف، وأضحت أكبر الوجهات السّياحية في العالم في مُدن إيطاليا وفرنسا واليونان وإسبانيا مجرّد شوارع فارغة وحواضر خالية على عروشها. وتمّ إغلاق كلّ محطّات الميترو داخل المُدن والمطارات والمحطّات البرية والمراكز التجارية التي كانت تستقبل الآلاف يوميًا، وأطفأت ناطحات السّحاب ومكاتب الخدمات أنوارها وتحوّل موظّفوها إلى العمل عن بُعد، وأغلقت ملاعب كرة القدم مدرّجاتها وأوصدت أبواب قاعات السينما والمطاعم والفنادق وصالات الأوبرا والجامعات والمدارس وأماكن العبادة وتحوّلت ألعاب حدائق التسلية إلى هياكل ميّتة تحرّكها الرّياح وتداعبها أسراب الحمام وحيدة. كما توقّف شريان الحياة الّذي كان يُنشط التجمُّعات الحضرية... ثمّ خَفَت صوت المدينة التي كانت تتألم من فرط الوباء وتعدّ ضحاياها.
هذا المشهد يجعلنا نطرح أسئلة كثيرة بخصوص «مدينة» ما بعد كورونا وعمران ما بعد الوباء! أسئلة تتعلّق بمصير تصميم المدينة الحالي وبُنيتها الاِجتماعية ومعادلتها الاِقتصادية في مواجهة جوائح عالمية ورهانات صحيّة بحجم فيروس كورونا؟
فلا ينبغي ولا يُمكن لمُدن الغد أن تبقى كما هي اليوم، من حيث البُنى التّحتيّة والتصميم، ورغم ما تتوفر عليه المُدن من هياكل ضخمة إلاّ أنّها لم تجد في عزّ الوباء ما يمكن أن يُوازي مُستشفى، فاضطرت الكثير من الحكومات إلى تحويل هياكل أخرى مثل قاعات الأوبرا وملاعب كرة القدم وقاعات الرّياضة إلى مستوصفات لاِستقبال المصابين والمرضى. طبعًا لم يكن تصميمها مساعدًا على ذلك.
ومن وجهة نظر اِقتصادية، تسبّب توقف التجارة بسبب تبعات الحجر الصحي داخل المُدن في إفلاس الكثير من أصحاب المؤسسات الصّغيرة والمتوسطة كما تكبّدت كُبريات الشّركات خسائر فادحة، وأخرى هي الآن على حافة الإفلاس. كما تُواجه المدينة هذا التّحدي الجديد من الوباء، لا ننسى أنّها مُعرّضة في أي وقت لأخطار طبيعية وصناعية متراكبة تزداد خطورة، فيكفي أن نتصوّر تعرض مدينة لزلزال عنيف في وقت حجر صحّي تام، يعني كلّ سكان المدينة داخل البنايات سواء في المساكن بالنسبة للأصحّاء أو في المستشفيات بالنسبة للمصابين بالوباء.
المدينة اليوم، أمام رهان حتميّ وحقيقي لِمَا بعد كورونا، على الوباء ألاّ يغلق علينا مُحرّك الأفكار، بالعكس سيفتح تصورَات عميقة جادة في التفاعلات الاِقتصادية والديناميكية الاِجتماعية والنمو الحضري ومُراجعة مفهوم المكان والوظيفة والسّكن والعمل والتنقّل والتسلية في المدينة بمنظور صحّي وقائي. هل نحتاج إلى مُدن معقمّة فقط؟ لا طبعًا. المُدن عبر التاريخ نجحت في التغلب على ما اِجتازته من أزمات صحيّة كُبرى وأوبئة سوداء أسوء بكثير من تلك التي نعيشها اليوم، فقد تعدى عدد ضحايا وباء الأنفلونزا الإسبانية سنة1918 أكثر من50 مليون ضحية ولكن تعافت المُدن واستفاقت واسترجعت بريقها وجاذبيتها مع الوقت.
والمدينة والمعمار حسب المنظور الإيكولوجي هي السّكن الطبيعي للإنسان المتحضّر. وكما يقول (روبرت بارت) في مقال المدينة: «إذا كانت المدينة هي العالم الّذي خلقه الإنسان، فهي بالتالي العالم الّذي يتعيّن عليه العيش فيه، فالإنسان بشكلٍ غير مباشر، ودون إدراك واضح لطبيعة مهمّته، قد أعاد أثناء خلقه للمدينة تشكيل نفسه».
فالمدينة التي ظهرت فيها القيم والحضارة الإنسانية عليها أن تظل مكانًا لإيجاد الحلول لكلّ ما تجتازه من تجارب وأخطار وأزمات. نحن نواجه اليوم؛ (سواء سيّاسيين أو معماريين ومخططين وعلماء اِجتماع وفلاسفة) ثنائية المدينة والوباء ويُقابلنا أكبر تحدّي لإعادة تشكيل رؤيتنا للدور الّذي ستلعبه المدينة في عصر وباء قد يتكرّر كلّ مرّة. هو فرصة لإصلاح المِعمار والاِقتصاد والبيئة وأسلوب الحياة على المدى الطويل داخل المُدن، مِمَّا يؤهلها لاِكتساب المرونة والصمود والمقاومة الحضرية وقدرةً على البقاء والاِزدهار في مواجهة الكوارث.
* سليم براقدي/مدير معهد تسيير التقنيات الحضرية -جامعة صالح بوبنيدر قسنطينة 3
من الضروري وضع برامج مُجابهة المخاطر الصحيّة لضمان اِستمرارية المُدن
برنامج المدينة الصّحيّة من أهم البرامج التي أعدتها المنظمة العالمية للصحة أواخر الثمانينيات، وتمّ تطويرها وتعزيزها بشكلٍ دوريّ بمساهمات الدول التي اِنخرطت في البرنامج وبشكلٍ كبير هي المدن الأوربية، ويرتكز هذا البرنامج على جعل المُدن أكثر صحةً وأكثر توفيراً للرعاية الصحيّة وتحسين الشروط المعيشية فيها من خدمات مختلفة، كالنقل والاِقتصاد الأخضر والبُنى التحتيّة، وأن لا يكون فيها التمييز بمختلف أشكاله وأن تُحقق المساواة، وتمّ تعزيز ترقية الصحة بشكلٍ دوري من خلال إعلان أوتاوا «ميثاق أوتاوا لتعزيز الصحة»، ثمّ إعلان شنغهاي الأخير سنة 2016، بشأن تعزيز الصحة في خطة التنمية المستدامة لعام 2030. والّذي يرتكز على تحقيق الصحة بالتنمية، وكذا إعلان غوتن بارغ الّذي وضع دراسات التأثير على الصحة لكلّ البرامج أو السياسات أو المشاريع، كما نوّه ببرنامج تحقيق نقاوة الهواء في الفضاءات الحضرية، كلّ هذه البرامج هي بالأساس تهدف إلى تحسين الصحة في المُدن بالموازاة مع تحقيق برامج تنموية.
ولعلّ جائحة فيروس كورونا التي بدأ ظهورها في أحد أكبر المُدن الصينية وهي «ووهان» ومن ثمّ اِنتشر الوباء بشكلٍ متسارع وغير مسبوق، أين مس جُل دُول العالم، وهو ما لم تكن المُدن والبرية مُستعدة لمثل هذه الحالات والإجراءات، ففشلت مُختلف المُدن وتوقفت اِقتصاداتها وتأثّرت الحياة الاِجتماعية فيها، إذ لم تعتاد المُدن أبداً أن عاشت مثل هذه الوضعية. ومن خلال برامج صمود المُدن ضدّ المخاطر الطبيعية أو التكنولوجية في الأساس، وأصبح ضروريًا وضع برامج صمود ومُجابهة المخاطر الصحيّة لضمان اِستمرارية المُدن في أداء وظائفها واِستمرار الحياة فيها، وهذا ما نُميزه بين مُدن العالم المُتقدم ومُدن العالم الثالث، أين تختلف الأولويات وتختلف المطالب، ولعلّ وضع برنامج صمود المُدن مستقبلا يرتكز على: الرقمنة في التسيير الحضري بشكل واسع لكلّ القطاعات من أجل التحكم أكثر في تسيير الأزمات وفي نقطة ثانية وأساسية هي وضع وتعميم العمل بنُظم المعلومات الجغرافية التي تستند على جمع المعطيات ووضعها مجاليًّا وهي الأكثر فعّاليّة والأكثر أهميّة في مساعدة متخذي القرار المحلي في التجاوب مع الأزمات وربح الوقت واِتخاذ القرار الأمثل. وكذا توسيع صلاحيات الجماعات المحلية في التحكُم في فضاءاتها وتوفير الإمكانيات المادية والبشرية الخاصة بها، وتكييفها مع خصوصية كلّ مجتمع محلي وتقاليده وثقافاته.
ومن جهة، العمل على توفير التكنولوجيات الحديثة والبرمجيَّات الرقميّة والتطبيقات في الحياة الحضرية، وتمكين وتعويد السُّكان على اِستعمالها لِمَا لها من دور في التوعية والمساهمة الاِيجابية والفعّالة في إدارة الأزمات الصحيّة وغيرها، مثل الطائرات المُسيَّرة عن بُعد.
إنَّ تحدي وضع المدينة الصحيّة أو المدينة الصامدة أو المدينة الذكية، هي تشترك في نقطة اِرتكاز أساسية هي الاِرتقاء بالفضاءات الحضرية والاِرتقاء بحياة السُّكان وتسهيل الحصول على الخدمات المختلفة، وتحقيق سلامة المجتمع المحلي، وبعد جائحة كورونا أصبح البحث عن تحقيق كلّ هذه الأنماط في مدينة ما بعد كوفيد19، وهي أن تكون صامدة وتشتغل بمنطق رقمنة القطاعات الحيوية التي تضمن اِستمرار الحياة الحضرية وتُطمِئن سُكانها، وأن ترتكز على تحقيق أهم أهداف التنمية المستدامة 17 التي نصّت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في (جدول أعمال 2030 للتنمية المستدامة)، من أجل تحقيق تنمية مستدامة محلية وحضرية، كما أنّ توسيع القرار المحلي مهم جداً في تسيير الأزمات وإعداد مخططات المُدن الصامدة من خلال اِستحداث مدونات للمخاطر المُختلفة التي تُهدّد المُدن بحسب أنماطها وأشكالها وخصوصياتها.
* نور الدين متناني/ مسؤول خلية الجودة –معهد تسيير التقنيات الحضرية. جامعة قسنطينة3
الجائحة تُنبئ بإلزامية وضع معالم جديدة للمُدن
إنّ الأزمة الصحية العالمية الناجمة عن فيروس كوفيد19 تُنبئ بإلزامية وضع معالم إدارة جديدة للمُدن وتحضيرها مستقبلاً كأولوية للصمود أمام الأزمات والكوارث، مهما كان نوعها وحجمها، فصمود المُدن هو تحضيرها وتكييفها لِمَا بعد الأزمات والكوارث وجعلها تعود إلى الحياة الطبيعية ودورها الأساسي في التنمية.
إنّ الأزمة الصحية التي فرضها وباء كورونا من خلال تعليق مُختلف الأنشطة التي تستقطب السُّكان بشكل كثيف، قد أثّر على الحياة الاِقتصادية لها، وخلق اِرتباكًا في المجتمعات التي لم تعتاد مثل هذه الأزمات، ورافق إدارة الأزمة الصحيّة تعليق وسائل النقل المختلفة، وتعليق مختلف الفضاءات المُستقبِلة للجمهور ما جعل المُدن بالفعل تعيش في وسطٍ مغلق، ما عطَّل الأدوار الهامة لمكوناتها العمرانية والمعمارية.
كما هو معلوم فالجزائر مُهددة بعشرة 10 أخطار كُبرى منها التكنولوجية والطبيعية والصحيّة وغيرها، وعلى الرغم من وجود قوانين وآليات لمُجابهة المخاطر وصمود المُدن إلاّ أنّها في كلّ مرّة تفقد قدرتها على اليقظة والاِستجابة الاِيجابية لمُجابهة الأخطار أو إدارتها، وبالفعل هي نتيجة تراكمات عديدة لتكوين المدينة وتشكيلها في حد ذاتها.
إنّ صمود المُدن هو من المصطلحات المُتداولة عالميًّا والتي لها أبعادٌ اِجتماعيّة ونفسيّة وغيرها، وهي لا تقتصر فقط على الأخطار الطبيعية والتكنولوجية، وهي التي نرى ضرورة تعزيز التكوين الجامعي في التخصصات المرتبطة بالمُدن والهندسة المعمارية والإعلام وغيرها للعمل على إدراج الصمود للأقاليم الحضرية سواء من خلال التقنيات الحديثة أو من خلال تعزيز المنظومة القانونية أو تطوير الوسائل الإعلامية المُرافقة للتوعية والتحسيس بشكلٍ دوري بأهمية التقيد بإجراءات معينة من أجل حماية حياة السُّكان والتحضير للعودة السريعة للحياة الحضرية.
من وجهة نظري كباحث ومُشرف على العديد من المشاريع ذات الاِختصاصات المتداخلة من هندسة معمارية وتقنيات حضرية وإعلام تتطلب من الاِختصاصات المرتبطة بالتعمير وتسيير المُدن تطوير مناهج الدراسة والبحث من خلال اِستعمال الوسائط الرقمية المُختلفة والبرامج الخرائطية الحديثة التفاعلية منها أساسًا نُظم المعلومات الجغرافية عبر برامج gis التي ترتكز على وضع قاعدة معطيات حيوية وتفاعلية تُمكن من تطوير الأبحاث والدراسات، وكذا إدماج التكوين في البرمجيات bim وsketchup وغيرها كونها تُمثل أدوات تسهل العمل البيداغوجي والبحثي كما تُمكن من إجراء مُحاكاة لدى تصميم المباني أو المُدن أو الأحياء في أي بيئة فيزيائية أو مجالية، وكذا الاِستشراف في التخطيط.
كما أعتقد بأنّه من الضروري جداً الذهاب إلى نمط المُدن الذكية الّذي يسمح لنا برقمنة المعطيات وتقريب وإشراك المواطن في صنع القرار على المستوى المحلي، وأيضًا تسهيل المعاملات وتسريعها من أجل تحضير الصمود للمُدن والشروع في تحيين المنظومة القانونية وإشراك مُختلف الفاعلين والاِختصاصات في تصميم المُدن وتسييرها وفق نُظم الجودة العالمية ووضع ميكانيزمات لتشخيص المُدن من خلال الوقوف على الأضرار المُختلفة وعلى كلّ المستويات، والتي لحقت بالسُّكان والاِقتصاد والسلوكيات من أجل تحضير مخططات مستقبلية للصمود للمجالات العمرانية وهذا عبر خلق وإعداد مدونات خاصة بالأخطار المختلفة التي تُهدد اِقتصاديات المُدن وتُهدّد أمنها وحياة سُكانها، ومن هنا الشروع في البحث عن الوسائل المادية والبشرية والتكنولوجية لتُوضع تحت تصرف الجماعات المحلية المُشرفة المباشرة على تسيير الفضاءات العمرانية من أجل العمل بها وتنسيق جهودها وتحيين معارفها وغيرها. هذه بعض النقاط التي نراها أساسية وذأت أولية لتحضير صمود المُدن أمام مختلف الأزمات دون التفصيل في الخُطط الهندسية لها وتوزيع الكثافات السكانية والبُنى التحتية التي هي مكونات فيزيائية للمُدن.