الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

ما لا يُقال –عادةً– في الحروب أو السيرة المُتخيّلة لحرب حقيقية

قراءة في رواية - عمتِ صباحاً أيتها الحرب - للروائية مها حسن
«فالرغبة تُحيط البطل بعالم كعالم الأحلام تُسقطه عليه. ولا يفلت البطل، في الحالتين، من قبضة أوهامه إلاّ في سكرة الموت»/رينيه جيرار
لونيس بن علي
في السنوات الأخيرة، وبعد نشوب الحرب في سوريا، تحوّلت الروائية السورية مها حسن إلى الكتابة عنها، لتوثّق فنيًا لهذه المأساة الإنسانية. مها حسن روائية سورية، وُلدت في مدينة حلب عام 1966، درست الحقوق قبل أن تتفرغ للكتابة؛ من أعمالها الروائية: «اللامتناهي: سيرة الآخر» 1995، «جدران الخيبة أعلى» 2002، «حبل سري» 2010، «الراويات» 2014، «حي الدهشة».
في رواية «عمتِ صباحًا أيّتها الحرب» التي صدرت عن دار المتوسط، كتبت مها عن قصة عائلة سورية (كردية) شتتها الحرب، فالأم تقضي نحبها تحت القصف، أمّا أبناؤها فهاجروا وتشتت شملهم في بقاع عِدة من العالم. جاءت الرواية لتطرح أسئلة عديدة، لا تتعلق بالحرب فقط، بل بآثارها على السوريين، وبعلاقتها بالكتابة. وزعت الروائية سردها على عدة أصوات: الساردة مها التي هاجرت إلى أوروبا واستقرت بباريس وهي كاتبة روائية قررت كتابة سيرة عائلتها. حسام أخوها الّذي استقر في السويد، بعد أن عاش تجربة سقوط الأوهام التي حملتها رياح الربيع العربي، قبل أن يتحوّل إلى حرب عمياء، يتقاتل فيها الجميع ضدّ الجميع. ثمّ شخصية الأم، التي نعتبرها أهم شخصية في هذه الرواية، والتي عادت إلى الحياة بفضل الكتابة.
الحرب والفاعلية الأدبية:
تقول يمنى العيد: «فالدمار الّذي يعيشه الواقع يطول أيضا الثقافي، بمحو معانيه، ويدمّر قيمه ويهدم بناءه. وبذلك تعيش الكتابة، جذريًا، صراع القيم التي تشمل الفكر والفن والسياسة والإبداع»(01).
هل تدفع التحوّلات التاريخية الكُبرى بالكتابة إلى ولادة جديدة؟ «ولادة قادرة على اِستنطاق التاريخ وحقيقته في لحظة دماره، وتمزقه، واِحتمال تحوّل هذه الحقيقة في أكثر اِتجاه (...) وذلك كي تتمكن الكتابة من صوغ قولها، وممارسة فاعليتها في الثقافة»(02).
تتحدث يمنى العيد عن «الفاعلية الأدبية» كأحد تمظهرات تحوّل الكتابة زمن الحروب، والتي تتجلى على صعيد اللّغة، ومدى قدرتها على ممارسة تفكيك البنيات السابقة. «بنية الواقع، بنية الكتابة». فالمقصود بالواقع المرجعي هو الحرب في سوريا، في حين أنّ المرجعية الأدبية: هي الخطاب الأدبي عن الحرب في سوريا. «السجل الأدبي عن هذه الحرب».
لم تقدم مها حسن سرداً تقريريًا، فقد قالت في حوار لها بأنّ روايتها قائمة على مجموعة من الثيمات النفسية والفردية التي على القارئ تفكيكها لأجل فهم أبعادها العميقة. «أنا أدعو إلى تفكيك العمل الروائي عبر ثيمات الكاتب النفسية والفردية، أكثر من الذهاب لقوانين عامة. أي أنّه برأيي، لم أستجب في هذه الرواية لنداءات جماعية ولأصوات ضحايا الحرب، بل انسحبت نحو عالم صغير ومغلق، أتكوّر فيه لأحمي نفسي وذاكرتي وكتاباتي من رعب الحرب».( 03)
إذ نفهم بأنّ الحرب هي شأن شخصي أيضا، قبل أن تكون حدثًا جماعياً؛ فكلٌّ يعيش مأساته الخاصة، التي ليست بالضرورة تتقاطع مع مآسي الآخرين.
حملت الرواية الكثير من العناصر السيرية؛ خاصة وأنّ شخصية الساردة مها، تتقاطع في عناصر كثيرة مع الروائية نفسها، بدءاً من تشابه الأسماء، وتعلقهما بالكتابة، ونشرهما لروايات تحمل العناوين نفسها. لكن على الرغم من كلّ هذه التشابهات، فالرواية اِشتغلت على عناصر تخييلية كثيرة، ولعلّ أهمها على الإطلاق، هي شخصية الأم التي قتلت في الرواية، قبل أن تستعيد روحها من خلال الكتابة، فتروي ألمها واغترابها. يتجلى المتخيل في الرواية، إذاً، في سرد الأحداث من العالم الآخر (شخصية الأم) فالروائية لجأت إلى التخييل الغرائبي لأجل إعادة بناء فني للواقع المرجعي المُتمثل في الحرب في سوريا. لهذا فإنّ الحرب عند مها حسن ليست حدثًا تاريخيًا عنيفًا، بل هي مجموع الآثار التي تخلفها في الإنسان، في شكل دمار نفسي وروحي واجتماعي. وعن سؤالها: ما الحرب؟ تجيب عبر إبراز علاقة الحرب بالكثير من الدواليل: البيت، العائلة، الوطن، المنفى، الكتابة... إلخ. لا تبدو مها مُكترثة بالحرب كحدث تأويلي، يدفع القارئ إلى البحث عن المعاني الخفيّة في حكايات شخصياتها، بل رسمت لنا لوحات شخصانية عن تجربة الموت والفقدان والتهجير والمنفى، وإذا كان لابدّ للقارئ أن يكون طرفاً في الرواية، فأكبر الظن أنّه سيكون حضوره هو حضور المعايشة وليس حضور التأويل. فالحرب لا تمنح وقتًا لتأويل علاماتها.
أقنعة الأحلام:
عادت مها حسن إلى بدايات الحرب في سوريا منذ 2011، عبر شخصية حسام –أخ مها الساردة– الّذي عاش الثورة في شكل حلم جميل، فقد «بدأ الأمر ما يشبه اللعب»(04). أليست الحروب في آخر المطاف هي «لعب» بعد أن فقد قواعده فأصبح الذين كانوا يلعبون يبيدون بعضهم البعض؟ لم يكن أحد يدري أنّ تلك المظاهرات التي رفعت شعارات السلمية، والتي كثيرا ما تتخللها مناوشات مع قوات حفظ الأمن، ستتحوّل إلى شرارات لاِندلاع أعمال عنف، قبل أن تتخذ شكل حرب ضارية أتت على الأخضر واليابس. لكن كانت الأيّام الأولى حالمة، بحيث «سيبدأ الشباب بتذوق نكهة الحرية».(05). حيث عاش حسام الأيّام الأولى من الاِنتفاضة الشعبية كلحظة فرح، واستعادة روح الفرد داخل الجماعة. من خلال العمل الجمعي، وتعزيز المشاعر والروابط الجماعية. فـ»هرمون الجماعة يفرز اِنتصارات، تشترط التواجد داخل الجماعة ذاتها، يضخم التفوّق، ويُقلل من الخسارة والخوف، ويمنح بعض التهور».(06). لكن سرعان ما تحوّل هذا الشعور إلى كابوس حقيقي. بسبب ردة فعل النظام من المتظاهرين، ثمّ ظهور الحركات الجهادية والتكفيرية التي لم تكن أقل سوءا من النظام نفسه. في هذه الحرب، يموت الناس بالصدفة، دون أن يروا حتّى وجه قاتلهم، فقط لأنّ أحدهم خرج إلى الشارع فتلقفته رصاصة قناص. الحرب عمياء، ومجنونة، لا تفرق بين ضحاياها، عندما يتحوّل الضحايا إلى مجرّد أرقام فقط. صُدم حسام أمام هول التحوّلات التي أصابت الثورة، فظهرت جماعات معارضة اِتخذت من الإسلام هوية لها، فتشددت، فجعلوا للثورة مرجعيات دينية، يحتكمون إليها: «اِنصدمتُ بفقدان الثورة، هذه الثورة التي خرجتُ فيها، واشتغلت بإنسانية ومبادئ راقية، فقدتها»(07).
كان حسام شاهداً على تحوّلات الثورة من لحظة ميلادها كحلم مشروع بالحرية حرّك قطاعًا من الشعب يُطالب بإسقاط النظام، إلى أن صارت حربًا أهلية ودينية عبثية، أصابت الجميع بالجنون. فالذين كانوا رفاق المدرسة والحارة تحوّلوا إلى آلات باردة للقتل. فقدت الثورة هويتها، فأصبحت مزيجًا من النهب والثأر والاِنتقام.
سيرة البيت زمن الحرب:
يكتسي فضاء البيت موقعاً مركزيًا في هذه الرواية، فهو الفضاء الّذي يحمل دلالات الحميمية والألفة والدفء والطمأنينة والسعادة...إلخ لكنّه أيضا المكان الّذي يكون هدفًا سهلاً لصواريخ المقاتلين، لقتل الحياة التي تزخر بها هذه البيوت. فليس البشر من يموت فقط في الحروب، فبيوتهم أيضا تموت، لما تتحوّل إلى كتلة من الأنقاض غير المنسجمة، والمتناثرة، التي تطمس كلّ أثر لحياة سابقة.
ما هي الحرب؟ سؤالٌ يتكرّر كثيرا في رواية صاحبة «ميترو حلب»، لكنّها لا تحشو عقل القارئ بالتعريفات التي تزخر بها كُتب التاريخ والسياسة العسكرية؛ فالحرب بكلّ بساطة هي أن تفقد بيتك، بسبب قذيفة تأتي من مكان ما، ألقاها مقاتل مبرمج على القتل، فتحوّله إلى حطام. وفي تعريفٍ آخر، فالحرب هي المنفى، بِمَا هي الهروب الاِضطراري من البيت. أو هو فقدان البيت إمَّا مُؤقتًا أو إلى الأبد.
يحضر فضاء البيت في هذه الرواية على نحو لافت، وحضوره تجاوز وظيفته كعنصر في التأثيث للفضاء السردي، بل هو حضور مشحون بالدلالات، بل يدفع القارئ إلى تأويل البيت كمعادل موضوعي للوطن، وللهوية. ومن بين الدلالات التي سيستشفها القارئ هي دلالة الأمان: «ولكن ظل إحساسي بالأمان قائمًا، حين أغلقُ باب البيت، كأّنني أغلق على الخوف والخطر اللذين يبقيان خارج الباب، وأبقى داخل البيت محمية من أشباح الحرب».(08).
تظهر قيمة البيت في كونه فضاءً مغلقًا على حميميات من يقطن فيه، فجوهره هو أنّه يفصل الإنسان عن العالم الخارجي، ويحميه منه فيشعر بالأمان حتّى لو أنّ الخطر يتهدّده في أي لحظة. يوم بدأت الحرب في سوريا، اتخذت الأم قراراً صعبًا بمغادرة بيتها، فالإحساس بألم الفراق لا يختلف عن الإحساس بمرارة الحرب. لأنّ منزلها يمثل جزءاً كبيراً من حياتها، وخزانة أسرارها وذكرياتها. فالبيوت تنتمي إلى الجزء الحميمي في الإنسان، لذا فإنّ تدمير «بيت» هو تدمير لذاكرته. إنّ ما يمنح الألفة لفضاء مثل البيت هي ذكرياتنا. نحتاج هنا إلى قراءة ظاهراتية مثل تلك التي قدمها غاستون باشلار لأجل أن نتجاوز وظيفة وصف البيت إلى ما هو أهم منه، وهو إبراز البيت بوصفه مكانًا حميميًا، أو «قوقعة أصلية». يقول باشلار: «يجب أن أُبيّن أنّ البيت هو واحد من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وأحلام الإنسانية».(9). ويضيف: «الكثير من ذكرياتنا محفوظة بفضل البيت».(10).
وإذا عدنا إلى الرواية، تتضح لنا مكانة البيت عند شخصية الأم، فيوم عادت إلى بيتها، بعد هروبها من القصف، كانت كمن يدخل الجنة: «ما إن دفعت باب البيت، ولمحت أريكتي هذه حتّى أحسستُ بأنّ الدنيا تدور بي، كأنّني أدخل الجنة».(11).
لقد وفّر لها البيت الشعور بالسلام الداخلي، على الرغم من أنّها أصبحت وحيدة بعد هجرة كلّ أبنائها، فالشوق إلى المكان الّذي يحمل ذكريات الماضي، أعلى من الشوق إلى البشر. وبتعبيرها فإنّ البيت مُخلّص من الضجر الّذي يُحدثه البشر. ومن جهة أخرى، فقد اِنتبهت الساردة مها إلى وجود علاقة بين الكتابة والبيت؛ فقد اِكتشفت أنّها اِكتسبت ثقافة كبيرة عن البيوت في حارتها، ما أهّلها للكتابة عنها؛ فالبيوت عامرة بالقصص والحكايات والأحداث: «اِكتشفتُ أنّني أكتبُ طويلاً عن البيوت. حتّى إنّني أملك المشاريع العديدة عن لوائح بيوت صديقاتي الكاتبات، وعلاقة الكتابة بالبيت، وبيوت أخرى ألهمتني الكتابة، وبيوت منحتني الحلم».(12).
الكتابة والحرب:
قدمتْ مها حسن نوعين من الخطاب: خطاب عن الحرب وعن آثارها، وخطاب عن الكتابة وعلاقتها بالحرب. فهذا الخطاب الأخير، ينتمي إلى ما يُسمى بالخطاب الواصف، ويدرج بعض منظري الرواية هذا النوع من الخطاب في دائرة رواية ما بعد الحداثة. في سياق تحليلنا لا يهمنا هذا النوع من التصنيفات، بقدر ما يهمنا الكشف عن الوعي الفني داخل الرواية بالكتابة ودورها، وبأهمية الحكاية في زمن الحروب.
تقول يمنى العيد: «غير أنّ رواية الحرب الموضوعة أمام واقع قوام حكايته التفكك والدمار، وأمام بناء شخصية لشخص مرجعي يمارس القتل ويغرق في ضياع الهوية الواضحة، أو في الاِختلاف عليها، رافضًا الاِنتماء القومي الشمولي... مثل هذه الروايات بدت، ومن حيث علاقتها بحكاية الحرب، مدعوة لتجاوز الرواية السابقة، أو الخطاب الّذي ينبني بمنظور البطولة الشمولية، أو الشخصية النامية بإيقاع الزمن في التيه، أو الزمن المولد، بخطيته وبإطراده، لدلالات التمسك البطولي، ووضوحه».(13).
لقد تجاوز دور الكتابة وظيفته التقليدية المتمثلة في التوثيق للحرب، إلى دور أكبر، وهو بعث الحياة في الأشخاص الذين قُتلوا في هذه الحرب؛ وقوّة بعث الحياة، تكسي الكتابة القوة على تجاوز القوانين الطبيعية، وبذلك تمنحها سلطة اِختراق الواقع المرجعي.
وتضيف يمنى العيد: «تبدو مشكلة الكتابة في زمن الحرب مشكلة شائكة، لأنّها قائمة في لحظة مفارقة حادة بين المرجعي (الواقع) والأدبي (المتخيل».(14).
لقد تمكنت مها (الشخصية في الرواية) من بعث أمها من عالم الموتى، فعالم الحكايات هو أقوى مضاد للخوف من العالم المجنون الّذي تُمزقه القنابل خارجًا، ثمّ بالكتابة كانت مها تُقرِّب المسافات بين منفاها الباريسي وموطنها الأم الّذي يحترق تحت نيران الحرب، ليُخفِّف داخلها آلام الفراق والفقدان والغربة والاِغتراب. لقد مارست مها الكتابة في عز الحرب، فكانت تُواجه أسئلتها الكبيرة، سواء التي لها علاقة بالحرب أو بالاِنتماء، أو بالدين أو بالهوية بشكلٍ عام. فكانت تُفكك هذه المقولات بشجاعة، حتّى تصفي حسابها معها: «عبر الكتابة رحتِ تُفككين اِنتماءاتك، وتحللينها، وتقتربين مني خطوة إثر خطوة».(15). لكنّها في الوقت نفسه، اِكتشفت إلى أي مدى كانت الكتابة شاقة. ففي زمن الحرب، تفتح الكتابة صندوق باندورا الأسطوري.
صورة الأم في الرواية:
ما يُثير في حضور الأم هو الطابع الغرائبي لهذه الشخصية، إذ بعثتها الساردة من قبرها، حتّى تروي يومياتها عن الحرب: «منذ بداية الكتاب وأنا أروي لكِ من قبري».(16).  
لا تنتمي الأم، إذاً إلى الشخصيات المرجعية التي تنتمي للواقع (وإن كانت تجربتها تتقاطع مع تجربة أي أم في الحرب)، بل هي شخصية غرائبية، لأنّها لم تعد تنتمي لعالم الأحياء. يُمكن أن نُشبهها بشخصية أنكيدو في ملحمة غلغامش الّذي عاد من عالم الموتى. فكيف يكون العالم بعيون شخصية فارقت الحياة؟
لقد قدمت الأم سرداً حميميًا ومُوجعًا، يترك في القارئ مرارة –على الأقل هذا ما حدث لي– إذ ننصت إلى صوت قادم من عالم آخر، عاد إلى الحياة عبر السرد، لأنّ ثمّة ما يجب قوله، فالحرب لا تمنح الوقت الكافي لسرد الحقيقة، لهذا يموت البشر وفي قلوبهم غصّة كبيرة، وهي: أنّ لديهم ما يمكن لهم قوله. نتـتبع يوميّات هذه الأم، قصتها مع الحرب، وتعلقها الشديد ببيتها الّذي هو جنتها، لكن ما يهم هو ذلك الموقف من الحرب. كيف يعقل لميت أن يخاف من الموت مرةّ ثانية؟
«نعم، نحن متنا، وما نزال نخاف من سقوط القذائف فوقنا».(17). لقد بلغ السرد في الرواية مستويات عالية من التراجيديا في هذه الجملة «نحن متنا، وما نزال نخاف من سقوط القذائف فوقنا). إنّ الحرب التي تُخيف الموتى هي حرب قاسية، ولا مثيل لها. لذا فإنّ خطاب الأم يضعنا أمام الصورة العبثية للحرب في سوريا، حيث حتّى الموتى يموتون أكثر من مرّة، ويتعرّضون للقصف، فتقذف جُثثهم من تحت الأرض. «حين نسمع القصف، نخاف على أماكننا، نخاف أن تنبش القذائفُ التربةَ، وتقلبَ قبورنا صوب السطح، فتتعرى أجسادنا وأكفاننا».(18).
الآخر الّذي لا يشبه ذاته المتخيلة:
حين وصل حسام (أخ مها) إلى السويد، كان يحمل صورة إنسانية عن أوروبا التي تحترم حقوق الإنسان وتدافع عنها، لكن بمجرّد وصوله إلى دائرة الهجرة اِكتشف الحقيقة، وسقطت تلك الصورة المثالية التي طالما صدّقها. ما حدث لحسام، أنّ «لا شيء يشبه ما تخيله».(19). أمّا تينا السويدية، التي كانت هناك لاِستقبال الهاربين من الحرب، فلم تعد ذلك الملاك الحارس الّذي سينتشله من محنته، بل كانت أقرب إلى صورة مديرة سجن. «فهي غير مبالية باللاجئين، وتنظر إليهم على أنّهم كائنات بحاجة إلى الطعام والسكن فقط، وعليهم أن يأكلوا ويناموا بصمت».(20).
قد ينجو اللاجئ من الموت تحت أنقاض بيته، لكنّه لن ينجو من برودة المنافي، ومن قسوة المحتشدات التي تُذكّره أنّه مجرّد ذلك الغريب المنبوذ الّذي يبحث عن الشفقة. لم تعد أوروبا التي رآها حسام تشبه تلك التي كان يحلم بها، أو تلك التي كان يحمل عنها صوراً جميلة وإنسانية عن الأوروبي الإنساني الّذي يفتح ذراعيه للأجانب. لم يجد أي شيء من تلك الصورة الوهمية، بقدر ما كانت الحقيقة قاسية. لقد كان اللجوء مجرّد شكل مخفف من الاِعتقال: «سيبقى اللاجئ محكومًا بالاِعتقال داخل حياة ضيقة، لا أحلام ولا إذن بالعيش خارج مجتمع صغير، مجتمع له قوانينه التي لا تشبه قوانين السويديين. هنا لستَ في أوربا، ولا في اليونان، ولا في تركيا».(21).
تتحدث الساردة عن تجربة أخيها حسام، الّذي وصل إلى السويد، لكنّه وجد نفسه في ملجأ، مُنع من الاِتصال بالعالم الخارجي. فقد أُستقبل حسام في منطقة عزل، لا هو في السويد ولا هو في موطنه الأصلي. يعيش حالة اللامكان، واللاتحديد. هل يستطيع الأجنبي الاِندماج بسهولة في المجتمع المستقبل؟ الطريف في قصة حسام أنّه وجد نفسه في ملجأ كان يرى في الآخر صورة الأجنبي. الأجنبي بالنسبة للسويدي هو «تقويم أدنى من المواطن».(22). والعكس يحدث في الأوطان العربية بحيث يرفع من شأن الأجانب حد التقديس: «نحن محكومون بالترتيب الأدنى، سواء كنا في بلادنا، أو في بلاد الآخرين».(23).
خاتمة
حرصت مها حسن في روايتها «عمتِ صباحًا أيّتها الحرب» على تقديم شكل روائي يتوزع بين السيرة الذاتية والتخييل الروائي، من خلال سرد تتناوب فيه شخصيات مختلفة، غير أنّه كان يتقطّع بسبب قذيفة أو غارة جوية أو اِنفجار مدوّ. كان السرد قلقا، متشظيًا، معبّرا من خلال توتره عن تجربة الحرب؛ فالشكل الّذي جاءت عليه الرواية كان مناسبًا للتعبير عن الحالات النفسية والاِنفعالية التي صاحبت عملية التذكّر. فالرواية، وإن كانت عملاً تخييليًا، فهي بنت متخيلها السردي على ذاكرة الحرب بِمَا هي ذاكرة الإنسان وذاكرة المكان. وكما قال باشلار، فالمكان يمثل لحظة تكثيف زمني للتجربة الإنسانية، لذا حضر البيت بكلّ حمولته الدلالية في الرواية.
إحالات:
1)–يمني العيد، الرواية العربية: المتخيل وبنيته الفنية، دار الفارابي بيروت، ط01، 2011، ص32.
2)-المرجع نفسه، ص32.
3)–حوار أجراه مصطفى ديب في موقع ألترا صوت.
4)-مها حسن، عمت صباحا أيتها الحرب، منشورات المتوسط ميلانو،ط01،ص105.
5)-الرواية،ص105. -6)-الرواية،ص106. -7)-الرواية،ص183. -8)-الرواية،ص21.
9)-غاستون باشلار، جماليات المكان، تر: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 1984، ص38 .
10)–المصدر نفسه،ص39.
11)-الرواية، ص22. -12)-الرواية، ص26.
13)- يمنى العيد، الرواية العربية: المتخيل وبنيته الفنية، مرجع سابق، ص39. - 14)-المرجع نفسه،ص32.
15)-الرواية، ص142.- 16)-الرواية، ص137. - 17)– الرواية، ص 80، 81. -18)-الرواية، ص120.- 19)-الرواية، ص56.- 20)-الرواية، ص56. -21)-الرواية،ص68. -22)-الرواية، ص77.- 23)-الرواية، ص77.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com