أظهرت الجائحة وفي مختلف بقاع العالم، مدى حاجة البشرية والدول إلى العِلم، والبحث العلمي بمختلف فروعه وتخصصاته، إذ في هذا الظرف الوبائي العصيب الّذي مر/ويمر به العالم، جاء العِلم والبحث العلمي ليؤكدا أهمية وتميز مكانتهما وبقوّة كأولوية إستراتيجية ذات قدرة لا يمكن الاِستغناء عنها في مواجهة مثل هذه الكوارث «الجائحة»، وقدرتهما على الاِستشراف والمقاربات واِقتراحات ومخرجات حلول علمية وعملية. فهل يمكن القول أنّ الجائحة، جاءت لتعلي من شأن البحث العلمي، ليس في المحيط الجزائري أو العربي فقط، بل في كلّ العالم، لكن وانطلاقا من السياق، والمحيط المحلي والعربي، هل سنشهد بعد كورونا مفهومًا آخر للبحث العلمي، واهتمامًا أكبر بالبحث العلمي، وإستراتيجية أخرى أكثر نجاعة وأكثر تقديرا للجهود البحثية ولمخابر البحث؟ فالدول المتقدمة كانت دومًا تُراهن على العِلم والبحث العلمي، فهل سنشهد في سياقنا العربي إعادة أو إيلاء المكانة المرموقة واللازمة للعِلم والبحث العلمي، واِعتبارهما كأولوية إستراتيجية؟ حول هذا الشأن «مستقبل البحث العلمي ما بعد الوباء»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
* عبد القادر رابحي/ كاتب وناقد وأكاديمي -جامعة سعيدة
البحث العلمي مجال للاِحتكار قبل وأثناء وما بعد الجائحة
ربّما كانت جائحة كورونا دليلاً قاطعًا على تجديد الوعي بحاجة الإنسان المُلحة إلى العِلم لتجاوز عوائق ما يمكن أن تضعه المعرفة من جُدر أمام قدرته على تخطي العقبات التي تعترض مساره الحياتي. وكذلك إلى إعادة طُرق مفهومه بالنظر إلى نوعية الممارسات التي طالته خلال فترة التسارع الرهيب التي أحدثتها فلسفة العِلم كتيار من تيارات فلسفة ما بعد الحداثة في ما حملته من ترسيخ رهيب للعدميّات الفكرية التي أنتجت عدميات علمية مخبرية لا تهمها إلاّ المصلحة الاِقتصادية والربح السريع على حساب المبدأ الأوّل الّذي اِرتبط بِمَّا حملته مواثيق الإنسانية القديمة والحديثة من تقيّد صارم بالأبعاد الإنسانية والأخلاق الكُبرى خاصةً فيما يتعلق الأمر بعِلم الصحة وبِمَا يُنتجه من إشكالات تتعلق بمصير الإنسان وبوجوده.
وعلى الرغم من أنّ الجائحة، بحالتها الراهنة وكما هي عليه اليوم من وضعية تحدٍ صارخ لقدرة الإنسان العلمية، لم تكشف بعد عن كلّ أسرارها الغامضة المتعلقة أساسًا بنشأتها وتطورها، إلاّ أنّها اِستطاعت أن تُعيد للعقل الإنساني بعض مرجعياته التي نسيها أو فقدها خلال أزمنة طويلة بالنظر إلى اِنشغاله بِمَا يُحيط بجوهر المُساءلات العلمية المُرتبطة بالمصلحة الاِقتصادية الربحية، واِبتعاده عن الجوهر المتروك للأسباب نفسها ألاّ وهو الاِشتغال بمأساة الإنسان في أطراف المراكز الحضارية والحضرية المتطورة، وبوضعيته الوجودية والصحية خاصةً.
لقد شكَّل الدافع الإيديولوجي عاملاً أساسيًا في توليد وصناعة مقاربات علمية تستأثر بها الدول الكُبرى المتطورة علميًا دون غيرها في كلّ المجالات لترسيخ عامل الهيمنة وسلطته الحاسمة كشكلٍ مُتجدّد من أشكال المحق الكولونيالي المتواصل بطرق أكثر براغماتية وأكثر سلالة، ولكنّه أشدّ وقعًا، على الشعوب المُستعمرة قديمًا. ولا يبتعد مجال الصحة وما يُسخّر لها من إمكانات بحث ضخمة ومخابر متطورة عن معركة الهيمنة المستمرة هذه، بل يكاد يصبح هو المجال الأكثر خطورة، وربّما أخطر بكثير من مجال تطوير الأسلحة، نظراً لتداخل المجالين في تخصصات عديدة من جهة، ونظرا لِمَا يُدِّره كلاهما من ربح ماديّ وقدرة اِقتصادية بالنسبة للدول المتطورة علميًا، ومن تبعية وضعف لا تزيد المجتمعات الضعيفة إلاّ ضُعفًا وتبعية بالنسبة لهذه الأخيرة.
لا يختلف اِثنان في أنّ البحث العلمي في المجال الصحي، كما في غيره، هو من الأهمية بمكان، وذلك نظرا لترسّخ فكرة كونه من الأولويات الإستراتيجية بالنسبة لصيرورة الدول وقوّتها في راهن وجودها وفي مستقبلها، وأن أيّ تأخر في هذا القطاع، إنّما يكشف مباشرة عن التأخر الفادح في ركب الدول الساعية إلى الوصول إلى قمة التطور الحضاري الّذي مفاده وغايته الهيمنة على العالم والسيطرة على حركاته وسكناته.
من المُؤكد أنّ المجتمعات المُتخلفة يغيبُ عنها ما يمكن أن يكون تصورا اِستراتيجيًا في تعاملها مع المجال العلمي بهذا المستوى من الطرح الّذي تستحوذ عليه الدول الكُبرى في معركتها في تحديد مصيرها أولاً داخل معركة المصير الإنساني ككلّ مع ما تجود به الطبيعة والواقع من مستجدات. وذلك نظراً لاِختلاف الأولويات التي تحتاجها المجتمعات المتخلفة التي لا تزال تجد مشاكل كُبرى في القضاء على أمراض لها لقاحات وأدوية وتنتمي إلى أمراض القرن الماضي. ولذلك، فإنّ المقاربة التي تحملها المجتمعات المتخلفة عن البحث العلمي تختلف اِختلافًا جذريًا عمّا تحمله الدول المتطورة. فالسياسيات البحثية ليست هي السياسات، والقدرات العلمية ليست هي القدرات، والمخابر العلمية ليست هي المخابر. وبناءً عليه، فإنّ النتائج ليست هي النتائج. وذلك على الرغم مِمَّا يمكن أن تحمله العديد من الدول من إمكانيات تجاوز لجدار الهيمنة التي لا ينفك يعلو برغبة من بأيديهم تحويل التكنولوجيا أو عدم تحويلها إلى هذه الدول.لقد أصبح اِصطياد المادة الرمادية في الدول المتخلفة من طرف الجامعات والمخابر الغربية الكُبرى عاملاً أساسيًا في إعلاء هذا الجدار بوصفه وجهًا ثانيًا لوجهِ منعِ تنقل التكنولوجيا من البيئات التي تعوّدت إهمال جوهر العِلم، والحرص على اِستجلابه إلى البيئات التي تعوّدت على تطويره وتسخيره لمصالحها السياسية والإيديولوجية. لا تحتاج الهيمنة العلمية، في نهاية الأمر، إلاّ إلى الاِستدعاء الطبيعي للعقول الرمادية التي تولد في المجتمعات المتخلفة لتلتحق بالمخابر الغربية لتزيد من قدرة البحث في دول المنشأ على ترسيخ الرؤية العلمية المهيمنة على المجامعات المتخلفة التي يزداد وضعها العلمي والبحثي رداءةً نظراً لِمَا أصبح يحتاجه من إمكانات مالية وتكنولوجية كبيرة لا يستطيع توفيرها وهو لا يزال يجد صعوبة في توفير أدنى الضرورات الصحية في القُرى البعيدة والمداشر المنقطعة والتجمعات العشوائية المكتظة بالسُّكان.
* محمّد داود/ ناقد وباحث أكاديمي ومترجم -جامعة وهران1
الوباء أظهر أهمية البحث العلمي وضرورة وجود مخابر دائمة ومتطورة
كلّما اِجتمع البشر في مكانٍ ما واختلطوا ببعضهم البعض إلاّ وانتقلت العدوى إلى الآخرين، وللتذكير فقد عانت البشرية من هذه الظواهر المرضية القاتلة منذ الأزمنة الغابرة. وسعى الإنسان في مواجهته مع الأمراض والأوبئة لإيجاد أحسن السُبل والوسائل للوقاية والعلاج. واجتهد العُلماء والأطباء لتخليص البشر من الآلام والمتاعب الصّحيّة منذ ما قبل التاريخ مع الفراعنة بمصر وحضارة بابل والهند والصين واليونان (ابيوقراط) والحضارة الرومانية من ثمّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة التي برز فيها الكثير من العُلماء على غرار اِبن سينا والرازي واِبن باجة واِبن البيطار واِبن الهيثم وغيرهم كُثر، وقد أسهم هؤلاء في عمليات التشريح والجراحة والصيدلة وتحضير العقاقير وكذلك في البحث عن أسباب المرض والوباء، وانتشرت أبحاث هؤلاء وأولئك الأطباء والعُلماء في العالم واستفاد منها الكل. وكان لابدّ من اِنتظار ما يُسمى «بالثورة الباستورية» التي قام بها الطبيب الفرنسي «لويس باستور» في أواسط القرن التاسع عشر لتعرف الأبحاث قفزةً نوعية وتدرك البشرية أنّ وراء هذه المصائب والمتاعب الصحيّة عوامل حيوية وعضوية تتمثّل في الجراثيم. مِمَّا دفع بالتفكير في اِبتكار المضّادات الحيويّة واللقاحات واِختراع الأجهزة الكاشفة للأمراض ومن ثمّة علاجها والتخفيف من معاناة المرضى.
وتدلُ هذه الجهود التي لم تتوقف منذ تلك الفترة على ضرورة مواصلة البحث في أسباب ونتائج الأمراض والأوبئة التي تفتك بالإنسان وفي كلّ مكان. ولعلّ المجيء المُفاجئ لوباء كوفيد19 وتفشيه بهذه السرعة في كامل أرجاء المعمورة قد جعل المُختصين في الطب وفي عِلم الجراثيم والأوبئة يدخلون مرحلة من الاِرتباك والقلق الكبيرين ومعهم جميع الفاعلين الاِجتماعيين والسياسيين، مِمَّا يُبرز أهمية البحث العلمي وضرورة وجود مخابر البحث التي تدرس هذه الظواهر وتُتابعها بكلّ جدية وتُراقب التحولات العضوية في جسم الإنسان بسبب المرض أو لأسباب أخرى، كون المورفولوجية البشرية تتغيّر وتتطوّر وفق شروط العيش والتغذية. ولا يتوقف الأمر عند دراسة وتحليل هذه الجوانب البيولوجية فقط، بل يتعداه إلى الجوانب الاِجتماعية والثقافية والتنظيمية للمجتمع، وهنا يقتضي الظرف تدخل العلوم الاِجتماعية والإنسانية لمقاربتها وفهمها وإيجاد أحسن الصيغ لتجاوزها. ولا تقتصر أسباب المرض واِنعكاساته على الجوانب العضوية فحسب، بل تمس كلّ الجوانب ومنها التمثلات الثقافية والمعتقدات الشعبية في التعامل مع الوضع الصحي، وما نشاهده من حيرة اِجتماعية وتردّد وتشكيك في التعامل مع وباء كورونا وتحدي للإجراءات الحكومية والتحايل عليها لدى جمهور واسع من السُّكان (خرق للحجر الصحي، تنظيم تظاهرات عائلية من أعراس وحفلات وعدم اِحترام التباعد بين الناس،...) إلاّ دليلٌ على ما نقول.
يبقى أنّ وباء كوفيد19، أنصفَ مكانة البحث العلمي، وأظهر وأبرز أهمية البحث العلمي وضرورة وجود مخابر دائمة ومتطورة تدرس هذه الظواهر، وتُتابعها وتقاربها، وترسم خارطة حلول، أو علاجات، أو اِقتراحات لكلّ ما يمكن أن يطرأ فجأةً على الإنسان من أزمات وأوبئة وكوارث.
* حكيم بوغازي/ أستاذ وباحث أكاديمي ورئيس فرقة بحث -جامعة مستغانم
من الضروري حسن التدبير العلمي وإعادة النظر في المشروع البحثي
عرّت جائحة كوفيد19 العالم من طريقين: الأوّل إستراتيجية تتبع المعلومة وسرّيتها، والثاني سرعة التعامل مع المعلومة وجدّية تطبيق ضوابط علمية وطبية واِجتماعية على ذلك، وهذا الأمر كما ينطبق بدرجات متفاوتة على الدول العشرين العظمى ينطبق بدرجات أكبر على الدول السائرة في طريق النمو والنامية والضعيفة. ولو تحدثنا عن طبيعة التلازم بين البحث العلمي في إطاره العملي التنظيري ثمّ البحث العلمي المُعلّل داخل المخابر البحثية، سواء تعلق الأمر بمنهج البحث العلمي البيولوجي والبيوتكنولوجي، أو البحث في العلوم الإنسانية وما يتصل بموضوع (كوفيد19) على المستوى العربي عامةً، نقول إنّنا لم نستطع ولو بالقدر اليسير مُواكبة نظام العالم الجديد بكلّ الأُطر لعدة أسباب نختصرها في ضعف ميزانيات البحث العلمي والمخابر البحثية وقدرات الإنشاء العامة، إضافة إلى السباق نحو التسلح العربي عربي والاِنقسامات القومية والعرقية، ناهيك عن هجرة الأدمغة واِحتكار المعلومة.
ولذا فإنّه من الضروري على العالم العربي والجزائر خصوصًا حسن التدبير العلمي وإعادة النظر في المشروع البحثي في جميع التخصصات وفقًا لرزنامة معينة تحتكم إلى: التمويل والمُراقبة، -تكييف البحث العلمي وفقًا للنوازل، -ضمان اِستمرارية البحوث العلمية داخل وخارج الوطن الواحد، -وضع إستراتيجية تقوم على التعضيد المعرفي بين مخابر البحث (بين العلمي والإنساني)، -الاِلتزام بنشر الأبحاث العلمية والشراكة مع المؤسسات الاِقتصادية التي تُمَوِّن وتنتج وتُسوِّق وتُصدِر العلامات.إنّ العالم اليوم وبعد جائحة كوفيد19 يتجه نحو إعادة النظر في الكثير من السّياسات التي تمّ تكريسها منذ الحرب الباردة، كما يتجه نحو إعادة الهيمنة التكنولوجية التي عرّتها جائحة كورونا والتي تركت العالم يتيه علميًا ولا يعرف كيف يتحكم على الأقل في اِنتشار الفيروس، الّذي يتخذ كلّ صبيحة ومساء شكلاً من أشكال التحدي للعالم.ولو سلمنا جدلاً بأنّ الحرب البيوتكنولوجية التي بدأت مطلع هذه الألفية مصطنعة أو تسربت بشكلٍ أو بآخر، على غرار ما تصدّره لنا معامل الإشاعة بكلّ أصنافها، لقلنا إنّ هذا لهو البلاء الكبير، وهذه الطامة الكُبرى التي ستُعجّل بفناء البشرية، إذ يَتبيّن من وراء هذا أنّنا علميًا لا نتحكم فيما نصنع، وإذا تحكّمنا فإنّنا تأخرنا في علاج من مسّته الجائحة، وهذا أمر وجب الاِنتباه إليه منذ زمن، فالحرب اليوم وغدا ستكون حرب مياه ومعلومات تكنولوجية. وحرب المعلومة، ها هنا لابدّ أن نُحدّد لها مفهومًا اِستراتيجيًا، فهي تنحصر في البحث العلمي التقني والبكتيريلوجي والبيوتقني والطبي كما تكون حول التحليل الاِجتماعي والنفسي الّذي يتأثر به الفرد والمجتمع، اِنطلاقًا من معرفة الجواب عن: كيف ولماذا ومتى وما هو العلاج، وهذا أمرٌ تُساهم فيه مخابر البحث العلمي والمنتديات العلمية والجامعة والمؤسسات الاِقتصادية العلمية، ولن يتأتى لنا ذلك إلاّ بإعادة رسم خارطة الطريق التي تُبنى على توقعات الغد إحصاءً وتحليلاً.
ما نريد أن نرسمه من ملامح للبحث العلمي ما بعد الجائحة هو عملٌ جبَّار لا يتأسّس على التوقع ولا على التسويف، بقدر ما ينهض على اِستثمار العنصر البشري وعامل الوقت وسرعة التنفيذ وجدية المؤسسة، وإرساء دعائم البحث العلمي المخبري على نوافذ جديدة تسمح بالاِطلاع على المُستجد والمُستكشف وربطه بالسياقات الظرفية المحلية والعالمية، إذ المفاجأة ستكون عواقبها وخيمة إن لم نتدارك الأمر بقدر سرعتها، فالقادم مجهول جهلنا بمصدره وشدته.
* عبد الملك بومنجل/ أستاذ جامعي ومدير مخبر المثاقفة العربية
التطوّر العلمي المادي وحده لا يكفي لتحقيق السلام والسعادة للبشرية
حين الحديث عن دور المخابر العلمية في رعاية الحياة البشرية من الأخطار المُختلفة التي تهددها لا بدّ من تفريق مزدوج بين طائفتين من المخابر: -مخابر علمية تنتمي إلى الدول المتقدمة التي يحتل فيها العلم والبحث العلمي دور الصدارة في إدارة الحياة وتوجيه السياسات وربّما في ضمائر الناس وثقافة المجتمع. ومخابر علمية تنتمي إلى الدول المتخلفة، فهي تعكس الثقافة السياسية والوعي الحضاري لتلك الدول غارقةً في أمراض حضارية عِدة أبرزها الفساد والاستبداد والانشغال بصناعة الجهل والتخلف عن صناعة العِلم والرفاهية.
-مخابر مختصة في العلوم التجريبية والتطبيقية الصلبة، تُعنى بالجانب المادي البحت من الحياة والأحياء، ومخابر مختصة في العلوم الإنسانية التي تُوصف بالمرنة، وتُعنى بالجانب العقلي والنفسي والروحي والوجداني والذوقي من الحياة الإنسانية.
فعن أي المخابر يتعيّن الحديث حين يتعلق الأمر بأثر هذه الجائحة العالمية في توجيه البشرية إلى مزيد اِهتمام بالعِلم والبحث العلمي، ومزيد العناية بالمخابر التي تُعنى بذلك؟
أعتقد أنّ الجائحة لن تُؤثر كثيرا في مستوى الوعي القائم بهذه القضية. إنّ الحضارة التي تحكم زمام العالم الآن، بإيجابياتها وسلبياتها، هي حضارة مادية قامت أساسًا على تقديس العِلم بمفهومه الوضعي المادي، ووطّدت أركانها وهيمنتها بقوّة الثورة العلمية التي اِنفجرت وما تزال في كلّ اِتجاه خادمةً مصالح البشرية أحيانًا وهادمةً قيمها ومصالحها أحيانًا أخرى. إنّ الدول التي تنتمي إلى مركز هذه الحضارة غربية كانت أم شرقية (آسيوية) ظلت عنايتها بمخابر البحث العلمي عاليةً قبل اِنتشار جائحة كورونا وستظل كذلك، ولن يحصل تحوّلٌ لافتٌ في هذا التوجه. أمّا الدول التي تنتمي إلى هامش هذه الحضارة، وتقع، بطريقة أو بأخرى، ضحيةً لها، فإنّ لها من كوابح نهضتها وعوائق اِنتشار الوعي الحضاري لدى ساستها وشعوبها، ما سيظل يحول دون إيلاء العلم والعلماء والبحث العلمي وحتّى التعليم ما تستحقه من الرعاية والاِهتمام والدعم والتقدير المادي والمعنوي.
ينبغي صرف النظر إلى مسألة أخرى يجدر أن تكون محلَّ عناية من مركز الحضارة المادية المُهيمنة وهامشها، ويجدر بهذا الّذي يحتل مركز الهامش خاصةً أن يكون له الدور الأكبر في معالجتها ولفت النظر إليها: إنّها مسألة الإنسان، ماذا يريد؟ وماذا يحتاج؟ وما هي القيم العُليا الضابطة لمساره؟
هنا يجدر اِستحضار التفريق الثاني بين طائفتين من المخابر، وهنا يجدر بمخابر العلوم الإنسانية أن تجتهد أكثر، وتنظر أعمق، وتُدلي بدلوها في توجيه الحياة البشرية وإنقاذ الإنسانية من المخاطر المختلفة التي حدقت وتحدق بها، ومنها هذه الكارثة الصحية.
سواء تعلق الأمر بِمَا بعد هذه الجائحة أو بِمَا قبلها فإنّ الإنسان محتاجٌ إلى العِلم الّذي يُدرك بهِ حقيقته الإنسانية التي لا تُشكّل منها المادة سوى جزئها الأدنى، أكثر من حاجته إلى العِلم الّذي يكتشف به الداء والدواء لبدنه دون روحه. إنّ جائحة كورونا أثبتت أنّ التطوّر العلمي المادي وحده لا يكفي لتحقيق السلام والسعادة للبشرية، بل ربّما كان من أقوى عوامل اِضطراب حياتها واعتلال وجودها، ولا ننسَ أنّ هذا الفيروس –سواء استبعدنا نظرية التدخل البشري أم اِستحضرناها- هو ناتجُ بيئة مظلومة مقهورة فقدت نقاءها، وعقلية مادية تجارية فقدت إنسانيتها، ونمط إنتاج وتفكير وسلوك فقد القيم الأخلاقية الضابطة للسلوكات والخيارات والأولويات، الرابطة بين أبعاد الإنسان المادية وأبعاده الروحية.
لقد ذكر أحد المفكرين المستنيرين الناجين من مادية الحضارة الغربية –وهو ألكسيس كاريل- فكرة عميقة في هذا السياق: إنّ حاجتنا إلى معرفة متكاملة بـ»الإنسان، ذلك المجهول» هي أقوى وأولى من حاجتنا إلى مزيد تطور في علوم الجماد. ومن وحي هذه الفكرة نقول ختامًا: إنّ الدور الآن، سواء في مخابر الدول المتقدمة أو مخابر الدول المتخلفة هو دور مخابر العلوم الإنسانية بالدرجة الأولى. إن عليها أن تتعمق فهم الإنسان، ذلك المقهور الّذي قاده التطور العلمي المجرّد من القيم إلى ألوان من الغبن.
* عبد الرزاق بلعقروز/أستاذ ومُحاضر وباحث أكاديمي -جامعة سطيف2
الجائحة كشفت عن قيمة العِلم كثقافة داخل المجتمع
من سمات هذه الجائحة أنّها اختبرت وكشفت عن قيمة العِلم في سياسات الدول والمجتمعات، ليس العِلم كجهود في المختبرات أو مراكز الأبحاث فقط، وإنّما العِلم كثقافة داخل المجتمع أيضا، ومن المُؤسف أنّها أبانت عن هشّاشة منظومات البحث العلمي لدينا، ويظهر ذلك من خلال محدودية تأثير مؤسسات الأبحاث العلمية في المسار العام لعلاج الوباء الّذي بين أيدينا، فضلاً عن الاِنتظار بِمَا تجود به مؤسسات الأبحاث العلمية في الدول التي تعطي للعِلم قيمته ودوره. وأمام هذا الواقع فإنّ سؤال المُستقبل وكي نتحقّق نحن من الأثر الإيجابي للجائحة أو حتّى تُحدث فينا التَّنبيهات اللاَّزمة وتُوقظنا من غفلتنا اللاَّعلمية لابدّ لمؤسساتـنا البحثيّة من أن تراعي ما يلي:
أوّلا: إعادة بناء رؤية سديدة لأجل تطوير الأبحاث العلمية، هذه الرؤية تقوم على منظور تحديد أولويات البحث، فالجائحة فرضت هذا التوجه لأجل إعطاء أمر الصحة وتحديات علوم الصحة وعلوم المحيط الأهمية الحاسمة.
ثانيًا: زيادة حجم الإنفاق على مؤسّسات الأبحاث تكوينًا وتطويراً وانفتاحًا، لأنّ ميزانية الأبحاث العلمية لدينا جد هزيلة بالمقارنة مع ما تقدمة الدُّول التي تجعل من العِلم قطب اهتمامها. فضلاً عن أنّ المعرفة باتت اليوم في حُكم السّلعة، فمن يبتكر المعرفة والمعلومة هو من يسود ويهيمن، ومن لا يبتكرها يبقى تابعًا مجرّد زبون أمام هذه المؤسسات. ومشكلة بعض الذين يُمسكون بدوائر المؤسسات في الدولة، هذا الفراغ من الوعي بأنّ المعرفة هي العنوان الّذي بات أداةً للهيمنة، ومؤسسات الدولة إذ لم تـتشرّب المعرفة وتكون وفق متطلّباتها الجديدة، تجد نفسها متأخرة عن مسيرة الحركة العلميّة في العالم وبالتالي لقمة سائغة للتصرف فيها وفي ثرواتها واستخفاف عقول أبنائها.
ثالثًا: إنشاء أقطاب علمية متخصصة، وعدم الاِكتفاء بالمراكز الموجودة التي سادت فيها ثقافة الجامعة، أي الاِهتمام بِمَّا هو موجود في مجال العلوم من غير تدريس أساليب الإبداع وتطوير العلوم. هذه الأقطاب تضم النَّماذج المبدعة والطَّاقات الرائدة في ميادين العلوم. وهنا لابدّ من توفير الظروف العلمية للاِستفادة من العقول الجزائرية الموجودة في الخارج، لأنّها مستعدة للإسهام الحقيقي في تطوير المؤسَّسات العلمية الجزائرية. وهي نفسها تمثل رأسمالاً علميًّا يمكن التواصل معه أو حتّى البدء معه في رسم سياسة علمية جديدة.رابعًا: الاِنفتاح والتفاعل الإيجابي مع المؤسسات العلمية المتطوّرة، لقياس مستوى العلمية والإبداعية في مؤسساتنا العلمية، وروح هذا الاِنفتاح قوامها الصدق والرغبة الأخلاقية في البناء والتّطوير، وليست مجرّد علاقات شكلية لا أثر لقوّة العِلم فيها.خامسًا: التَّجديد في برامج التربية والتعليم، فليس القصد من المعرفة هو حشو الأذهان، وإنّما تنميّة الملكات الإبداعية والإدراكية للباحثين، وتعليم فنون التَّفكير الإبداعي وحل المشاكل، فالناظر في برامج مؤسّساتنا، يجدها تكتفي بهذه المنهجية التقليدية، أي منهجية حشو الأذهان بالمعارف السائدة والبائدة، وقد تكون مقصودة إذا تعلَّق الأمر بإخراج العِلم من الوعي العلمي وإقحامه في دوائر السّياسة، لكن إذا تعلق الأمر بالرغبة الصادقة في تطوير الأبحاث فلا مسلك يعين إلاّ تجديد البرامج التعليمية وفي طليعتها فنون التفكير الإبداعي وحل المشكلات.إنّ هذه الجائحة قد حسمت أمر مستقبل الإنسان إن هو أراد أن يسكن في هذا العالم وأن يعيش فيه بأمان وتوازن، العِلم هو مفتاح هذا الباب، والميزانيات الضَّخمة التي تُصرف في مشاريع خارج العِلم لابدّ أن تعود إلى مكانها الحقيقي، وأن يكون الباحث هو محور الدائرة ومركز المحيط، وأي مجتمع تسود فيه ثقافة العِلم وتقدير العلماء والباحثين هو مجتمع يضع أركانه على أسس صلبة، وأي مجتمع لا يُقدّر البحث العلمي فسوف تأتيه الأزمات والنَّكبات من كلّ مكان.
* محمّد بن ساعو/ أستاذ وباحث أكاديمي –جامعة سطيف2
ستكون حافزا ودافعًا للتوجه نحو العناية بالبحث العلمي
تعكس الدراسات التي حاولت تقييم واقع البحث العلمي في العالم العربي عامةً والجزائر على وجه الخصوص إلى أنّه يعيش وضعًا مَرَضيًا، ومظاهر ومؤشرات ذلك كثيرة، سواء على المستوى النظري أو من خلال تتبع اِنعكاساته على الإطار الاِجتماعي والاِقتصادي... ومع اِجتياح وباء «كوفيد19» اِزدادت هذه الصورة قتامةً، إذ اِستفاق الجميع على حقيقة قاسية مفادها أنّنا فشلنا في مواجهة هذه الجائحة ليس فيما يتعلق بالمنظومة الصحية والهياكل الطبية فقط، بل على مستوى الوعي أيضًا. ومن هذا المنطلق، فإنّ الجائحة كشفت بأنّنا لسنا بحاجة فقط إلى العلوم التقنية والتجريبية، بل إنّ العلوم الإنسانية التي ظلت مهمشّة ومنظوراً إليها بعين الاِستصغار-وهي التي تشتغل على الإنسان- بحاجة إلى إعادة الاِعتبار والنظر إلى البحث العلمي ككل مركّب، تمامًا كما يُنظر إلى الإنسان.
وعلى إثر هذه الجائحة، يكاد يجزم بعضنا بإمكانية حدوث اِستفاقة قوية في ميدان البحث العلمي، بحيث تكون الجامعات ومراكز البحث عقولاً مُفكرة مُنتجة للمعرفة والرفاهية، تسعى لخدمة الإنسان وتقترح الحلول لمشكلاته التقنية والمادية والاِجتماعية والنفسية والثقافية، وهي وظيفتها في الأصل، ولعلّ هذا التفاؤل والاِعتقاد الجازم بقيام الجامعة بدورها المُفترض عزّزه حدثان مهمّان في السياق العربي: الأوّل سياسي، عندما شهدت بعض الدول العربية تغييرات –شكلية غالبًا- في بعض مؤسساتها السياسية أنتجت خطابًا يحاول أن يقنع المجتمع والأسرة الجامعية بمحورية دور الجامعة في رؤية التغيير المنشود. والثاني هو جائحة كورونا التي تُعتبر مبدئيًا حافزا مهمًا ودافعًا قويًا للتوجه أكثر نحو العناية بالبحث العلمي وإعادة هيكلة المخابر العلمية وتفعيل دورها، وتوطين التكنولوجيا محليًا، ودعم الإنسانيات الرقمية وتجارب التعليم الإلكتروني.
لكن، وبالعودة إلى الإجراءات الترقيعية والمؤقتة، المُتسمة بالاِنفعالية أحيانًا والتردّد في أحايين أخرى، يكاد يتأكد لدينا أنّ هذه التمنيات تبقى مجرّد تصورات تتشكل في مخيلتنا ومن الصعب ترجمتها في الواقع، ذلك أنّ تحقيقها يتطلب جملة من الشروط، أريد أن أركز على شرطين أساسيين منها، الأوّل هو دعم ودمقرطة الجامعة: بِمَا يُتيح تحرير البحث العلمي ومنح الحرية للباحثين، ويدفع إلى الاِنفتاح على المخابر العالمية وتبادل المعارف والاِنخراط في البرامج والمشاريع الدولية، وتحسين التسيير على مستوى الجامعات بدايةً بإعادة مناصب التسيير في الجامعات لتكون علمية غير سياسية، فضلاً عن دعم الجامعة ورفع ميزانية البحث العلمي. أمّا الشرط الثاني فهو التوجه نحو اِقتصاد المعرفة، بحيث تصبح مؤسسات ومراكز البحث العلمي شريكًا في صناعة الاِقتصاد غير التقليدي والمساهمة في التنمية، وهي فرصة للتحرّر من الريع الّذي يطبع اِقتصاديات الأنظمة العربية، وفي هذه المرحلة تصبح الجامعة مُنتجة للثروة المبنية على المعرفة.والحقيقة أنّ البحث العلمي في العالم العربي لا يُعاني أزمة تشخيص واقتراحات، والطبيعة لم تبخل عليه بالظروف المُحفزة، كمَا أنّ الريع لم يكن يُشعره يومًا بالأمان، وبالتالي فإنّ ما يُعانيه البحث العلمي حقيقةً هو غياب إرادة حقيقية وإستراتيجية نابعة من صميم حاجيات المجتمع والدولة.
وعليه، فإنّنا نخلص إلى أنّ جائحة كورونا كانت لتكون «صعقة قوية» تُحقِّق العلاج بالصدمة والحاجة التي تستلزم الفعل، تماشيًا مع ما يذهب إليه الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزي «أرلوند توينبي» في قوله أنّ: «الظروف الصعبة –لا السهلة- هي التي تستثير في الأمم قيام الحضارات»، إلاّ أنّ تحقيق الإقلاع الحقيقي يتطلب تهيئة الأرضية المُناسبة وتوفير الشروط الضرورية، وإلى ذلك الحين يبقى التفاؤل المُقترن بالعمل والاِجتهاد ملمحًا إيجابيًا، ومسلكًا اِختارته الكفاءات الجامعية المُؤمنة بمسؤوليتها التاريخية.