الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

مقطع من رواية "مذاق الريشة"

بيتنا
حاول الكثير من سماسرة العقارات والمستثمرين شراء بيتنا  لتحويله إلى مطعم حوت أو فندق أو سوبر ماركت  ، لكن أبي رفض أن يبيع . بعد وفاته أعادوا الكرّة معنا فرفضنا التفريط في إرث الأب والجد . قالوا لنا أنتم شباب والمستقبل أمامكم  وبيتكم هذا متهالك ، نخرته رطوبة البحر ومضى زمان طويل على بنائه  ، سنمنحكم بدلا منه دارا أنيقة في حي الدولار  ، أو مزرعة نموذجية في منطقة القوارشة  أو سيدي فرج ، مع مبلغ مالي محترم تفتتحون به مشروعا تجاريا  يدر عليكم أرباحا بالهبل . لكننا رفضنا بحزم . حاولوا بعدها إرهابنا بطرق جدا قذرة كي نرضخ لهم ونبيع ، فصمدنا  أمامها أيضا ولم نتزحزح عن موقفنا .
يقع بيتنا على شاطئ البحر ،  يمينه منارة سيدي خريبيش ،  يساره ميناء بني غازي البحري ، و أمامه شاطئ الكورنيش العتيق ، حيث الكراسي الصخرية والأحواض المرمرية المليئة بالزهور .
 الأرض المشيد عليها البيت هبة من الولي الصالح سيدي خريبيش ، ضريحه ومنارته قربنا   ، يقول أبي  لا ينبغي التفريط   في بيت عتبته مباركة.
تناقشت مع أبي كثيرا في موضوع الانتقال من البيت  دون جدوى ، ذات مرّة  قلت له:
كل جيراننا تركوا وسط البلاد  ، وانتقلوا للعيش في بيوت حديثة في أحياء الفويهات وطابلينو والقوارشة وبوعطني ، و بيوتهم التي على يميننا ويسارنا تحولت  كلها إلى متاجر ومطاعم وبنوك ومقاهٍ وفنادق ووكالات سفر ، فكيف يمكنا أن نبقى هنا  دون جيران ندخل إلى بيوتهم ويدخلون إلى بيتنا مثل زمان ؟ . يبتسم أبي ابتسامة خفيفة مع هزات رأس لا أدري هل تهتز مؤيدة لكلامي أم معترضة عليه وأنتظره أن يفصح عن رأيه فلا يتكلم  فأوكّد  :  نعم  كل جيراننا رحلوا عن المكان ، لم يتبق  منهم  سوى بيت  سي عثمان و زوجته الحاجة خديجة وابنتهما  فطوم الملاصق لنا من الخلف .  تتسع ابتسامة أبي عند ذكر شريكه وأسرته ويقول:
عائلة سي عثمان هم الخير والبركة ، الله الله لا تتركوهم يحتاجون أي شيء ، بيننا عيش وملح ،  يكفي أنه رفيقي وأخي وشريكي في المركب ، نعيش معا ونموت معا ونحن نسعى لرزقنا في عرض البحر . ويستغرق أبي في حكاياته عن مآثر شريكه سي عثمان منتقلا من حكاية  إلى أخرى  بحماس . يقول :
ذات مرة غرق وأنقذته بأن تنفست في فمه ، وذات مرّة غرقتُ وأنقذني بأن تنفس في فمي . يضحك أبي ثم يواصل كلامه :   يعني هواؤنا واحد . وعندما قال الطبيب : جميل أنقذته بعملية تنفس صناعي . قلت له : يا رجل قل تنفس طبيعي ، فالهواء واحد ورئاتنا واحدة ، وحتى قلبنا لعلمك واحد  .
يسحق أبي عقب السيجارة في المنفضة  ويزيحها بهدوء إلى أقصى طرف من الطاولة ثم يهمس :  والآن دعنا من الجيران الذين غادروا إلى الأحياء الأخرى ، يكفي أنّ جيراننا  الآن سيدي خريبيش ، والمنارة ، والميناء ، وشاطئ الكورنيش الطازج  الذي نشاهد فيه كل عشية وجوه أهالي بني غازي الطيبين ، بمن فيهم جيراننا المنتقلين إلى مساكن في أحياء راقية  ، لكن عجزوا أن يستقروا ويهمدوا هناك ، فنراهم يوميا صباحا وعشية ومساء يحومون ذاهلين حول الكورنيش و ميدان سوق الحشيش وميدان البلدية وميدان سوق الحوت وشوارع بني غازي العتيقة الأخرى التي ولدوا وترعرعوا فيها كشوارع العقيب ، فيا تورينو ، قصر حمد ، مصراتة ، الشويخات ، عمر المختار ، المهدوي ،  توريللي  ، سوق حداش ، دكاكين حميد ، السكابلي وغيرها .
كنت أنصت لأبي بتركيز احتراما لذكرياته التي أحاول برأيي أن اقتلعه منها وأغرسه في مكان غريب عنه ، يحمر وجه أبي وينز من جبهته عرق وهو يتحدث بحزم :
دعنا يا رجل نواصل عيشنا  في وطننا هنا  ، ولا نتحوّل إلى حوّامة حول المكان  نعيش حنينا يخلف لنا ألما لا يطاق ، وربما سنسمع من المكان أو البيت الذي بعناه أو استبدلناه عتابا غير محتمل ، مثل  كنت أحبكم وعشنا معا سنوات طويلة فلماذا تركتمونني للغير ليهدمني ويغيّر ملامحي ويصيّرني مسخا لا يروق لي ؟ ، وقد يكون الطقس حارا والشمس في كبد السماء ، ونضطر آنذاك أن نلجأ إلى ظل بيتنا القديم الذي بعناه مثلا وتحول إلى شركة أو فندق أو حتى ملهى ليلي أو مذبحة دواجن  ، وما نكاد نهنأ بالظل وننتعش و نلتقط أنفاسنا قليلا ، حتى يأتي من يقول لنا : عفوا الوقوف هنا أو الجلوس هنا ممنوع ، وقد يكون وغدا وجلفا جدا فيطردنا  بعبارة استفزازية وقحة مثل : “ ترى ورّونا عرض أكتافكم “  “ هيا تفضلوا من غير مطرود “ .
 يضرب الطاولة بقبضته غاضبا وكأن العبارتين الاستفزازيتين قد قيلتا له فعلا ثم  يهدأ و يبتسم ، وبعد أن يرشف من كوب الماء عدة رشفات يرفع سبابته إلى أعلى متحدثا بصوت واطي لا يكاد يسمع  :
 بإذن الله الواحد الأحد لن نترك هذا الجرم يحدث ، لن نفرط في بيت البركة هذا  ، لكن  يا ابني لن نكون متزمتين أو غير مواكبين لتطورات العصر وعمليات التحديث والتنوير التي تقترحها الحياة في سعيها الدؤوب  نحو ضوء أنقى و أعمق ،  فمثلا لو أتى من يطلب تحويل الدور الأرضي من البيت إلى مكتبة ، فربما بعد دراسة الموضوع واستشارتكم سأوافق . لكن للأسف ، لم يأت أحد  ليطلب مني ذلك  وربما لن يأتي بالطبع ،  فعصر المعنى قد ولّى ، وكل الذين يطاردونني الآن كي أبيع أو استثمر معهم ، يريدون البيت برمّته لمشاريع تجارية ، تبدأ بهدم العقار وطمس تاريخه وذكرياته  ، وتنتهي بسكب الخرسانة المسلحة في جوفه ، والارتقاء به في غباء عدة طوابق   ، فبالله عليك كيف أتواطأ معهم ، لتنفيذ جريمتهم  في حق حضن احتوانا وسترنا العمر كله  . قلت له :
 وقد أقنعني كلامه إلى حد ما : صدقت يا أبي ، مشاريع هدفها كسب المال وليس إثراء المعنى . قال أبي  :
نعم هذا ما قصدته بالضبط ونطقت به أنت الآن . وبعد لحظات صمت وهو مغمض العينين وكأنه يتخيّل مشهدا ما  ، فتح عينيه ببطء وأضاف :  أمنيتي أن يتحول جزء من المبنى ذات يوم إلى مكتبة ، أنت تعرف ولعي بالكتب والورق ، وحتى الأوراق والقراطيس  وصفحات الجرائد أو المجلات التي تصادفني في الطريق أجمعها وأقرأها ثم احتفظ بالذي يعجبني منها ، حتى صار الأمر مع الوقت  هواية ، بل قلْ إدمانا لذيذا فرض علي أن أهتم بالأمر أكثر ، فخصصت للقراطيس والأوراق والقصاصات ملفا تطوّر فيما بعد إلى إضبارة منظمة مبوّبة ذات فهرست مؤبجد .
مع ذكر أبي للمكتبة والأوراق والإضبارة والمنارة والكورنيش والبحر  اقتنعت تماما برأيه و تخليت نهائيا عن طرح فكرة الانتقال إلى حي آخر ، بل ازداد تشبثي بالمكان الذي ولدنا وعشنا فيه .
مات أبي غريقا صحبة شريكه جارنا سي عثمان ، انقلب بهم مركب الصيد  فجأة حسب ما سجله رادار خفر السواحل ، كان الطقس عاديا ساعة الإبحار ، وحتى النشرة الجوية لم تخبر عن عاصفة أو إعصار أو تقلبات خطيرة قادمة  ، لكن للبحر جنونه وأسراره ، خرجا بالمركب عشية  لكن لم يعودا للميناء كالعادة فجرا محملين برزقهما من خيرات الماء  ، في المساء عرفنا من ريّاس الميناء أن المركب غرق ، وفي اليوم الثاني قذف البحر جثتيهما إلى الشاطئ .
كان يوما حزينا ، كل بني غازي بكت الشهيدين ، أما نحن فلم نعد نشعر بوجودنا ، لكن أمي كانت صابرة محتسبة ، عملها في المستشفى ورؤيتها لحالات الموت بين حين وآخر  جعلها قوية صامدة .
 بعد دفن أبي وشريكه سي عثمان في مقبرة الهواري ارتدت أمي بياض العدّة وجمعتنا معا وصبّرتنا  بكلمات دمعها أكثر من حروفها ، وعندما عانقتها مع إخوتي و أختي شعرنا أن أبي لم يمت ، شممنا رائحته فيها ، ملح بشري سرى في عروقنا ، بكاء بحر حنون بللنا وواسانا  . قالت لنا أمي : لا تنسوا مواساة جارتنا الحاجة خديجة ، فسي عثمان  الله يرحمه مثل أبيكم بالضبط . وفعلا قدمنا لجارتنا التي اتشحت هي الأخرى بالبياض واجب العزاء وشعرنا أن سي عثمان فعلا مثل أبينا وزوجته مثل أمّنا وابنته فطوم مثل أختنا فعلا .
يقع بيت عائلة سي عثمان  خلف بيتنا بالضبط ، بابنا يفتح على البحر والكورنيش و بابهم يفتح على شوارع وسط المدينة ، ابنهم قبض عليه في تظاهرة سياسية قام بها الطلبة  وقضى نحبه في السجن تحت التعذيب  ، وابنتهم فطوم فتدرس مع أختي نورية في المعهد ، لكن معظم وقتها تقضيه في بيتنا  وكأنها تسكن معنا ، وقد حرص أبي وسي عثمان على فتح باب صغير يربط البيتين ببعضهما البعض ،  أي يمكننا نحن العبور إلى وسط المدينة من خلال بيتهم و يمكنهم هم العبور إلى الكورنيش والبحر من خلال بيتنا.
• رواية قيد الطبع

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com