ترجمة وتقديم: عبد السلام يخلف
بيار مارسال مونموري Pierre Marcel Montmoryشاعر وممثل وموسيقي فرنسي مولود ببارس عام 1954 يقيم بكندا، ينشر أشعاره منذ سبعينيات القرن الماضي وينشط في وسائل التواصل الاجتماعي وفي يوتيوب وحاصل على الكثير من الشهادات والجوائز العالمية آخرها الحصول على المرتبة الثالثة في جائزة توماس سانكارا للشعر في 2020. يقول في فلسفته الشعرية مخاطبا ذاته: «أيها الشاعر! أنت تصغي إليّ وأنا أجلسُ بالقربِ منك في ضوء اللهب وأتكلمُ وكأني أثبت وجودَك لي لأن حزني هائلٌ ويهدِّدُ بغرقي في البُعد أكثر. في نهاية أنفاسي، هل سيوجد هناك فرح؟ نعم، أنت تقول لي نعم، نعم، في نهاية القصيدة ستكون قد أنشأتَ كونًا حيثُ تذهبُ الدولُ الأجنبية معًا لتصنعَ أرضًا للمنفى لأولئكَ الذين فشلوا في الصمتِ المطلق للحداثة بينما سينهض الشعراءُ بعدما جنحتْ سفينتُهم، بعد أن يكونَ شعورُهم قد هاجر إلى قصيدتهم. يشعل المكتشفُ غليونَ الحشيش ليختبئَ خلف ستار الدخان في قرنه. قرنُه الذي عَبَرته الأضواء التي لا تلمع سوى على نجوم الأبطال المستحقين. ليلة بيضاء إلى الأبد حيث يحافظ الحارس - الشاعر على نار الصداقة مشتعلة، النار التي حوْلها يتم تشاركُ الماء والخبز والثوب والنوم».
لقد نشأت في عائلة كبيرة من فناني وتقنيي المسرح، تلقيت تعليمي على يد أولئك الذين أنشأوا المسرح الوطني الشعبي ودور الثقافة ومراكز الدراما. قدمت أول عرض في عام 1964. ومنذ سنة 1970 وأنا أكسب رزقي كفنان مستقل من خلال القيام بعمل الإدارة الفنية واللوحات الزيتية والصور والأشعار وعروض التمثيل والرقص والعروض الصامتة ومغني موسيقي مع شركتي المسرحية الخاصة. نشرت كتيبا صغيرا عنوانه «مسرح محمد ديب» أحكي فيه مغامرتي مع هذا الرجل العظيم.
الحديث عن محمد ديب هو 25 سنة من مغامرة مسرحية وموسيقية..
المرة الأولى التي سمعت فيها عن محمد ديب كانت من خلال أصوات ممثلي رافائيل رودريغيز الذين أعدوا انطلاقا لقراءة مسرحية «ألف مرحى لمومس» في القاعة وهذا في أكبر مهرجان مسرحي في العالم وهو مهرجان أفينيون عام 1977. خلال العرض عمّ القاعة صمت غريب يابس تقريبا يقترب من المعاداة صادر عن الجمهور. لثلاث ساعات ونصف لم يطلع صوت واحد لكن هناك وجود بشري منكمش. فكرت على الفور أن «هذه المسرحية لها تأثير القنبلة» وكنت الحاضر الوحيد الذي صفق في قاعة تسع مائتين وخمسين مقعدا. غادر الناس في صمت، حتى من دون التصفيق على الممثلين وخاصة الممثلة الرائعة «بيا كولومبو» التي لعبت دور «عرفية» الرئيسي.
عندما أنهيت قراءتي الأولى للمقاطع الخمسة لمسرحية «ألف مرحى لمومس» محاولا القيام بقراءة أولية، وجدت ذهني وقد دخل عالما دائريا. كانت «الحلقة» بحيث المكان يقيد العمل بالإيماءة وبواسطة الصوت. لكن أين الوجود؟ « من نحن؟ «. عاد السؤال يطاردني ولم يكن يحدد نوعا من مشكلة الهوية. بدلا من ذلك، كان ردا على «العدوان» و»المنفى» و «الضياع». قلت في نفسي:»عليك أن تعض على أسنانك» والتكيف مع الوضع. مهما تكن التكاليف سنصنع أدواتنا الخاصة من الأجسام والأصوات. من الممثلين المحنكين القادرين على لعب هذه الكوميديا الإنسانية العميقة. هذا عمل محمد ديب وأنا مستعد لأمثله طوال حياتي.
كنت دوما أرى أن أجمل المسارح هي الساحات العامة. لقد كسبت رزقي لفترة طويلة بالتنقل من مكان لآخر ولعب هذه الشهرزادات. لقد مثلت أعمال محمد ديب أمام الآلاف والآلاف من المتفرجين وذلك يتطلب صفات بشرية وفنية كبيرة من محترفين استثنائيين. شخصيا، لم أختر قط أن أكون فنانا. أنت لا تصبح فنانا. أنا مكتشف. أنا أجد. تأتي الكلمة من جذر لغوي هندي أوروبي: «تروبار» التي تعني «ذاك الذي يجد». من نفس الجذر هناك المكتشفون (شمال فرنسا) والتروبادور (جنوب فرنسا). بالفرنسية الحديثة: أنا مكتشف.
اللعب في الهواء الطلق هو أداء بدني وصوتي حقيقي بحيث يتطلب ذلك تحضيرا كبيرا قبل مواجهة الخارج لجذب انتباه الكثيرين، المئات من الناس الذين سوف يدورون حولك والاستماع إلى لغة محمد ديب المشاغبة التي تعلو مع أصوات الممثلين من خلال أقنعة المسرح.
عمليا، إن الموسيقى حاضرة باستمرار ويتم الاشتغال على صوت الشخصيات وفقًا لوقع الموسيقى حتى أنه يمكننا القول أن الممثل يغني طوال الوقت. الإيماءات دقيقة ومصممة. يجب أن تعرف أننا نلعب دائمًا باللغة الفرنسية ، ولكن غالبًا ما نلعب أمام جمهور، وعندما يكون هناك الكثير من الناس فمن الواضح أن هناك مجموعة لا تفهم ما يقال من كلمات. ولكن لماذا يبقى هذا الجمهور المتفرج ؟ بسبب العمل في المسرح الذي يتجاوز الكلمات لأن ذلك ليس أدبا، هو نتيجة الكلمات المكتوبة وليس لديك سوى أن تتمسك بالخط والكلمات والمقاطع والحروف. رموز مكتوبة يكون قد صاغها الكاتب المسرحي.
الحياة ليس لها معنى. نحن الذين نصر على منحها ذلك. اذهب وحاول أن تجد معنى لهذه المسرحية لمحمد ديب! ستجد أنه من المستحيل، لأنك تركض خلف المعنى لكنك ستفهم بسرعة أنه من الأفضل أن تترك جميع حواسك تتمتع بما تراه وتسمعه في اللحظة السحرية للحكاية، حيث تجد نفسك رغما عنها راكبا في زورق يقود للأسئلة.
التقيت محمد ديب عندما قرأت لأول مرة عمله. أردت أن أعرض مسرحيته «ألف مرحى لمومس». كان ذاك النص أول دليل على ما كنت أبحث عنه.طريقة جديدة للرؤية والتفكير في المسرح. مع الفكرة القديمة «للحلقة»، فجأة كان بحوزتي جهاز أساسي غير قابل للتدمير لأنه يقوم على المبادئ الأساسية للحياة. في الوسط يوجد الشاعر وحول الدائرة هناك الجمهور، بحيث أن كل فرد يمثل نقطة من الدائرة. كل النقاط هي وجهات نظر مختلفة، قراءة مفتوحة لعمل يقوم فيه الممثل بدور الوسيط«.
مقابلة مع محمد ديب بـخصوص «رقصة الملك»
سؤال: أخبرنا عن سياق روايتك «رقصة الملك» التي أخذت منها مسرحية « ألف مرحى لمومس»؟ أخبرنا كيف يهمنا ذلك في عملية التمثيل؟
محمد ديب: بادئ ذي بدء، لا يمكنك القول أنني استخرجت مسرحية «ألف مرحى لمومس» من رواية
«رقصة الملك». قد يمكنك القول كذلك أنني أخذت الرواية من تلك المسرحية وهذا يعني أنني قمت بتأليفهما عمليا في نفس الوقت ولكن في شكلين مختلفين فقط. إنه نفس الموضوع ونفس الأطروحات التي وردت في الرواية تتم ترجمتها أكثر دقة في النموذج المسرحي مما أدى إلى ولادة «رقصة الملك» أي أنني في نفس الوقت رأيت المسرحية تتشكل لوحدها. هذا من أجل تحديد مواقع الأشياء فقط.
بالمناسبة، السياق هو نفسه، بحيث ظهر الكتاب في 1968 وكنت كتبته بعد السنة الأولى لاستقلال الجزائر، إذ تم تقديم هذا الاستقلال رسمياً على أنه ثورة. ملاحظاتي للوضع في تلك اللحظة والتفكير الذي تمكنت من القيام به حول المرحلة، قادني الوضع إلى التفكير أن ما يحدث كان ثورة فاشلة. وتكملة لما زال يحدث اليوم فإنه يثبت أنها كانت كذلك. هذا هو الدرس الذي تعلمته من الأحداث والوضع في تلك اللحظة بالذات في الجزائر أي السنوات الأولى من الاستقلال.
كيف يمكن لهذا أن يعني بعض الأشخاص الآخرين وما هي الأشياء بالضبط التي قد تهمهم؟ الواقع أن هناك دروس تهم بشكل عام الكثير من الناس فيما يتعلق بحقيقة أو واقع محدد، محلي، إلخ. قد يمس المعنى الناتج من ذلك الوضع أشخاصا غير الأشخاص المعنيين في أول الأمر، وهذا الشعور هو الذي يمكننا من القول أنه يهمك أيضا ويهم الآخرين ويهمني أنا أيضا.
مسرحية رقصة الملك
«رقصة الملك» هو تركيب مسرحي مأخوذ من رواية «رقصة الملك» ومسرحية «ألف مرحى لمومس» لمحمد ديب. أنا لست جزائرياً ولم أزر الجزائر قط. كنت مهتمًا (1988-2000) بإعادة تفسير تلك الشهرزاد من خلال شخصيات فرنسية نموذجية مثل «غافروش» الذي تخيلت له تكملة لحكاية «البؤساء»: لم يمت غافروش بشارع رامبوتو في الحاجز بباريس بل هو نائم فقط. يستيقظ غافروش اليوم ويلتقي بشقيقته في البؤس: شيفون (المولود في الثمانينيات).
يحدث عملنا بين القرنين 18 و 20. غافروش شخصية «مسيسة»، متبجح، قاسي وحزين، مريض في حين أن «شيفون» تعتبر لغزا؛ ما سر بهجة الحياة لديها؟ غافروش «الروح العظيمة « يؤدي دور باباناغ في المشهد الثاني من «ألف مرحى لمومس» حيث تتدخل شهرزاد بطريقة كوميدية، كما يؤدي دور «سْليم» في المشهد الثالث، حيث تتدخل شهرزاد بطريقة مأساوية.
«شيفون» تلعب دور عرفية، تقلد عرفية وتقوم بتدوير الأحداث. يقول غافروش أنه لقيط أيضًا وهو جاهز للثورة، يقول: «نحن الفرنسيون اخترعنا الثورة لكننا لم نقم بها بعد».
غافروش وشيفون هما شخصيتان من الكوميديا الفرنسية الحديثة وجدتا لهما طريقا في حكايات محمد ديب: هناك، هنا، الآن، في الأفق. القراءة مزيج من وجهتي نظرنا حول التاريخ الحقيقي والتاريخ المكتوب (الخرافة)؛ التاريخ الاجتماعي للشخصيات البروليتارية. من سر الإيمان / وفرح العيش، من عرفية/ شيفون التي تتلاعب بكل الرجال في دور المرأة/الحياة.
للحصول على التماسك في هذا الاضطراب الكامل في الرغبات، حرصنا على استخدام المسرح كمشهد كلي. اللعب، أغنية الالتفاتة، الصرخات الغامضة، الرقص، بانتوميم من أجل الوصول للتعقيد الكلي لآلة المسرح الفاعل. بطريقتهم الخاصة وحسب نوعهم (طابع الشخصية)، يقوم الممثلون بدور الرواة، بحيث يدمِجون في اللعبة بعض صور الوقت الحاضر للحياة في تنقلاتها. يعيدنا هنا نص محمد ديب إلى واقع أعمق يحرك الظلال الحارسة للذاكرة. (نسخة 1988).
تعليق محمد ديب على نص المسرحية:
«أقول بشكل عام أن غافروش وشيفون قد حصلا على أفضل النتائج لممثليْن اثنين فقط (مما يتطلب عددا محدودا من الممثلين لهذه المسرحية) وحصلا على أقصى ما يمكن الاستفادة منه في هذه الحالة. إنه طريقة لأخذ الأحسن فيما يخدم كلا من المسرحية والممثلين. رأيت كيف فهم غافروش وشيفون كل ذلك ولا يمكنني أن أكون سوى راض عن النتيجة بحقيقة أنها ليست نتاج إخراج مسرحي وتمثيل تقليديين لأن ذلك يتخطى الطرق المعروفة وقبل كل شيء، بالنظر إلى هذه المرحلة وطريقة التمثيل، فإن غافروش وشيفون لديهما قدرة كبيرة للعب في الساحة العامة. إن هذا يعطي تعبيرًا مفتوحًا عن المسرحية. هذا رأيي».
مقتطف من رسالة من محمد ديب إلى بيار مونـموري:
«يا لك من مؤلف مذهل ... تنفجر مسرحياتك في كل الاتجاهات وهذه هي الطريقة التي يجب- حسب رأيي- أن يقدم بها المسرح. أنا لست كاتب مسرحية ولست بالقاضي الجيد في هذه المسألة ومع ذلك يبدو لي بالفعل أن ساحة المسرح ليست المكان الذي تقدم فيه الموسيقى الكلاسيكية، موسيقى الهمس، ولكنه مكان حيث يجب الصراخ، وهذا يحدث لأن المسرح يتطلب منك بالضرورة إعطاء الأشياء بُعدًا إضافيًا وكل هذا أعتقد أنه متوفر في مسرحياتك، يضاف إليه ذلك الجنون الذي لن أتردد في تسميته «شكسبيري»؛ هذا النوع من الجنون،وأنت تعرف بالتأكيد ما أعنيه، من أقصى حدود الإغواء ولكنه إغواء لا نعرف له مصدرا؛ إن لم يكن هكذا فقط. هذا هو المؤلف وهو يرى الأشياء بتلك الطريقة ... أنت مبدع حقيقي».
هذا الكلام لخصه كاتب ياسين مرة حين قال لي: «هذا بالذات هو ما يجب أن نقوم به».
مني لمحمد ديب الكاتب الكبير
لقد ولدنا أنا وهو وسنموت فوق نفس الأرض: المنفى. واحد مستقر مثل شجرة غيورة على منبعها العميق والآخر يجر خلفه بلاده/أرض المنفى في حذاء مسحور لشرور غريبة، دوار الحركة على كوكب المنفيين. لقد فقدت شريكا جيدا لكنه ترك لي عمله وأنا الآن هنا مرة أخرى ودائما لجعله يعيش في الدائرة السحرية. قمت بتأليف الموسيقى للأغاني التالية المكتوبة من قبل محمد ديب. أقول لنفسي: «بيار، لقد وجدت الموسيقى الأكثر مناسبة لك». كانت في عيون ديب دموع الفرح وهو يسمع الغناء: نصوص هي مقاطع مأخوذة من رواية الدار الكبيرة، أومنيروس، وموسيقى رواية رقصة الملك.
آخر الكلمات
رسالة إلى محمد ديب في 2017 وهو هناك
عزيزي محمد ديب
أفتقدك كثيراً ومنذ رحيلك أصبحت وحدي أكثر فأكثر. أدركني المرض بعد كل هذه السنوات من العطاء الأكثر مني. أود أن أطرح عليك بعض الأسئلة لأنني أعلم أن إجاباتك ستمنحني دائمًا المزيد من القوة حتى وإن كان عليّ أن أضم أسناني لابتلاعها. كما تنبأت لي فقد حدثت أشياء لا يمكننا تخيلها أبدا.
مع مسرحك - الذي كنت الوحيد الذي أمثله كثيرًا ولمدة 25 عامًا تقريبًا في جميع ساحات حينا الذي هو الأرض كاملة، كما هو الحال مع مسرحياتي وموسيقاي وأغاني، أنا هنا على الأرض في شرفة تحت الرصيف. ما أدهشني هو أنني ما زلت أغني وكأن شيئا لم يكن، لا مبال مثل العندليب - الذي يبدو متجاهلا لمسألة أنه مهدد بالانقراض لأن البشر يفضلون المال على الحياة.
ربما كنتَ على حق في المغادرة. بعد كل شيء، للموتى حججهم في التغيب لأن هناك المزيد والمزيد منهم. لكن الغائبين أقل عددًا من المفلسين في الحياة، التافهين، الذين صورتهم جيدًا في «رقصة الملك». يبدو أن الملك يرفض التنازل عن العرش لأنه معتد للغاية بنفسه ومثابر جدًا في انحرافه.
الوحيدون المتبقون هم إخواننا وأخواتنا الذين يستمرون في التحدث عن الحب خلال فترة المنفى الدنيوي. معهم أطير فوق حواجز الثقافات ونجمع الديدان لنصيد رغباتنا في المياه الصافية. تثير الألحان المغرية حناننا الهادئ في الصراع الشرس بين الضوء والظل.
يا محمد ديب يا صديقي! أستعيد الآن صفائي بعد أن أخبرتك بما يحدث لي.
بيير مارسيل مونموري عام 2017
موقع الشاعر:
http://www.poesielavie.com/