ترجمة:عبد السلام يخلف
في هذه المئوية التي نحتفل بها، اتصلت بها للنصر من أجل المشاركة في هذا الملف الذي يعده كراس الثقافة فرحبت بالفكرة وشكرت كثيرا الجريدة التي كانت دائما سباقة في الكتابة عن والدها. تقيم آسيا ديب بمدينة غرونوبل الفرنسية، هي رئيسة "المؤسسة العالمية لأصدقاء محمد ديب" (la Société internationale des amis de Mohammed Dib (SIAMD)) تحاول الحفاظ على الذاكرة، ذاكرة والدها من خلال الوقوف على كل ما ينشر من كتابات وصور حتى لا يقال أي شيء على لسانه أو يتم التجني على كتاباته. تقول إن هدف المؤسسة الأساسي هو نشر أعمال محمد ديب والتعريف بها لدى القراء في كل بقاع العالم باعتبار أن هذه الكتابات تمت ترجمتها إلى بعض اللغات المهمة وتحويل بعضها إلى مسرحيات أو عروض وقراءات في قاعات فنية. تعمل أيضا مع هيئة علمية نشيطة على رأسها "هيرفي سانسون" (Hervé Sanson). إنها تقول: "كان والدي شديد الحرص على تربية أولاده وكان يصر على تتبع كل التفاصيل وذلك بمعرفة ما نقرأه من كتب أو ما نستمع إليه من موسيقى. يحرص على تتبع كل شيء ويحس بمسؤولية كبيرة في هذا المجال لأنه كان يرى أن حياته وحياتنا جميعا تقوم على العمل والدراسة والنزاهة. كان يصر على دراستنا لأنها الوسيلة الوحيدة التي تمنح المرأة قدرة على الاستقلالية والحرية التي تبني بها حياتها ومستقبل أبنائها. لقد عاش ابي يتيما منذ صغره وعانى كثيرا ويبدو أن أمه (جدتي) قد عاشت صعوبات كثيرة للاهتمام بخمسة أطفال. لم يحدثنا أبي عنها أبدا ولكننا نجد بعض الإشارات لذلك في رواياته.
لقد كتبت آسيا نصا عن أبيها تلخص فيه رأيها في الكاتب الأب والرجل الذي عاش حياة كما تشتهيها الأيام، متقلبة في كثير من الأحيان تاركة الخدوش، راسمة المآلات والمصائر.
أمكنة الطفولة
إذا ما كنت أقرأ وأعجَب بكتابات محمد ديب باعتباري واحدة من بناته، فإنني قارئة من نوع خاص باعتبار أنه كان عليّ أن أذهب نحو كتابات والدي، أن أتعدى العتبة، لأن ذاك الفعل لم يكن سهلا أبدا وطبيعيا لفعل القراءة. كان عليّ أن أتخطى مرحلة التوجس الأولية التي كانت تتملكني.
في مرحلة المراهقة، جاءتني الرغبة في قراءة رواياته لكنني ومنذ الصفحات الأولى أحسست بنوع من الحرج. بدخولي إلى أعماله وجدتني أدخل عالمه الخاص، عالمه الداخلي، وأحسست كأنني أقرأ يومياته الخاصة. كان علي أن أنتظر مرور الوقت كي أستوعب كتابته وأصل إلى مستوى من النضج الكافي الذي يمكنني من تجاوز حياء البنت تجاه والدها.
هناك نقطة هامة صدمتني للوهلة الأولى في سرده وهي الإيقاع الذي نجد فيه مرجعيات لعبارات جزائرية وهذا ما يمنح كتابته موسيقى خاصة، شعرا طبيعيا. لقد وجدت الإجابة عن سؤالي في كتابه "شجر الكلام" حين يقول: "إن الفرنسية هي اللغة التي تبنتني ولكنني حين أكتب أو أتكلم أحس كأن فرنسيتي يتم تحويرها والتلاعب بها بطريقة واضحة من طرف اللغة الطبيعية. هل يعدّ هذا عاهة؟ أعتقد أن هذا بالنسبة للكاتب يعتبر ورقة رابحة إضافية هذا إذا ما تمكن من جعل اللغتين تستأنسان بعضهما ببعض".
حين يتحدث إلينا في البيت كان دوما يستعمل لغة فرنسية مهذبة وكان يحرص على الطريقة التي نتكلم بها ويقوم في الحالات التي تستدعي التدخل بتصحيح تركيب الجملة أو عدم وضع كلمة ما في غير مكانها الصحيح.
كان أبي حريصا جدا على السرية في المنزل داخل الأسرة ولم أكن في صغري أعرف عنه الشيء الكثير و لا عن حياته السابقة مع والديه في تلمسان. في أيام الأحد ساعة جلسة الشاي في المساءات، كان يحب أن يحكي لنا عن عادات مدينة تلمسان في زمنه وكان يمتلك قدرة فنية عجيبة على إعادة بعث تفاصيل ذاك المناخ، السهرات الموسيقية وحفلات الزواج في الصيف، الخرجات العائلية على بعد كيلومترات قليلة باتجاه شلالات الأوريط حيث كانت تسمع أصوات النساء وهن يدفعن الأراجيح.
أولى الأشياء التي جلبت انتباهي في كتاباته هي إشاراته إلى مرجعيات طفولته في تلمسان. لقد أهداني كتابه "تلمسان أو أمكنة الكتابة" وقد كتب: "إليك آسيا هذا الفُتات من الجنة الضائعة" والذي كان بمثابة الصدى لذكرياتي الخاصة حين كنت طفلة صغيرة بمدينة تلمسان، أرض أصولي أيضا، المدينة التي عشت بها حتى بلغت سن السابعة وما زلت أحتفظ بذكرى المنظر الداخلي الأول. يبدأ الكتاب بهذه الكلمات:
"في البدء كان المنظر الطبيعي الذي يجب أن يفهم على أنه الإطار الذي فيه يأتي الكائن إلى الحياة ثم إلى الوعي.
في النهاية أيضا.
ونفس الشيء فيما بينهما.
قبل أن يفتح الوعي عينيه على المنظر فإن علاقته به أصبحت مربوطة سالفا. إنه يكون قد توصل إلى الكثير من الاكتشافات التي تغذى عليها".
في روايات والدي يبقى المنظر "شاهدا على الأصول"- هذا تعبيره- دائما حاضرا في ذاكرة الشخصيات التي يمكن لجزيئة صغيرة أو ظرف ما أن يجعله يظهر من جديد. هذا ما يحدث للراوي في رواية "ثلوج رخامية" الذي يذهب على أعقابه إلى مدينة رينس، إلى تلك البقاع التي زارها سابقا رفقة ابنته الصغيرة "ليل"، بحثا عن الذكريات الجميلة التي عاشها معها. "أن تجد ليل من جديد. الحديقة. نعم، الحديقة أولا، على اليمين حين نخرج من الكاتدرائية.
في هذه اللحظة لم أصدق ما رأته عيناي. لاحظت عبر السياج بقع حبات التوت، بعضها بنفسجي وبعضها الآخر أبيض، فوق بساط حشيش الحديقة وجعلت منه سجادا شرقيا. استفاق الطفل الذي ينام بداخلي من نومه العميق، بعينين براقتين، ووجد في الطرف الآخر من الأبدية طريقا مغبرا وهستيريا الشمس الهائجة. كان يركض في ذاك السعير ولم يكن لوحده: كان رفقة ثلاثة أو أربعة أطفال مشاغبين، لك أن تسأل من يكون هؤلاء منذ ذاك الزمن. مشاغبون مثله. مثله أيضا يجرون باتجاه الأشجار الوحيدة المغروسة في الوهاد مثل قلوب من ظلال. أشجار شامخة يصلون تحت جذوعها ولكن لم يقصدوها من أجل ظلها قط. لا يهمهم الظل أبدا. كانت أشجار توت. كانوا يعرفون ذلك. أشجار توت تتمدد للسماء حين نكون تحتها. أشجار باسقة مثل الأشجار الموجودة في جنة آدم. كانوا يأتون من أجل ذلك. كانت الطريق مثل سرير من غبار مرشوش بنجوم من فاكهة حيث يختفي الأطفال المشاغبون النشطون. أتذكر أن الناس كانوا يقولون: "من أجل التوت ستموت ومن أجل حب الملوك سيقطع رأسك". كانوا يكررون هذا الكلام ويضحكون منه حتى العياء. كانوا يتمايلون من كثرة الضحك. كانوا ثلاثة أو أربعة عفاريت.
مثل ذاك المكان هناك، حبات التوت. أدخل الحديقة وبي رغبة واحدة هي أن أطعم "ليل" منها وتتذوقها.
في نفس اليوم تتلاقى طفولتان، طفولة "ليل" المنحدرة أو طفولتي التي تصعد نحوها...".
أعرف أن أبي تعرض لحادث في سن التاسعة وكان يعاني من إصابة بليغة في رجله كادت أن تودي بحياته. حدث ذلك قبل اختراع المضادات الحيوية. هناك حكاية مماثلة ترويها الشخصية المحورية في رواية "من يتذكر البحر". حين أقرأ هذا المقطع، أتخيل أبي طفلا محل الطفل الذي يحكي آلامه في حين تواسيه جدتي بحضورها المداوي.
"لا يغادرني الألم ليل نهار ويعذب الجهة اليسرى من جسدي ويشعل النار في رأسي. بهدف مراوغة هذا الألم، كنتُ أداعب قدمي بتأرجح لكامل جسمي وأطلق بعض الأنين الخافت دون توقف. عشت تلك الأيام في رعب من التواصل والانزعاج من كل حضور انساني وكل كلمة ترتفع بالقرب مني تضيّق على أنفاسي. إذا ما كنتُ سأنتهي، ألم يكن من الظلم أن يتم تحويل انتباهي لحظة عبوري هذه المرحلة العويصة؟
رغم ذلك كنت واعيا بالمدى الذي يمكن أن يكون حضور أمي مفيدا، بقدرة صوتها الحنون، الرتيب بعض الشيء، على تخفيف وجعي خاصة عند مجيء الليل حين تقف بجانب سريري في ظلمة الأصيل. حين تأتي أمي من الغرف المضاءة فإنها تعيد إليّ من جديد ساعات طويلة من السهر، كأنها تساعد المريض على مواجهة الليل. ما الذي لا أستطيع تحمله في سبيل ايجاد نفسي تحت هذا التأثير الصبور والحنون؟".
توجد الكثير من الأبعاد السيرة الذاتية في روايات والدي لكن الأحداث التي عاشها في الواقع تتداخل مع المتخيل الذي يقوم بتحويلها وإعادة تشكيلها إلى درجة تغيير ذكرياته ذاتها. لقد كتب مرة ملاحظة تحت عنوان "حول فعل الكتابة" يقول فيها:
"السيرة الذاتية؟ لقد سبق وتمت كتابتها. إنها كامل كتبي. تبقى فقط منقسمة وبها ثقوب سوداء كبيرة. منذ أن بدأت بتأليف الكتب، هناك شيء تجلى لي مع مرور الزمن أن العملية المستحيلة واللامتناهية هي أن يصبح الكاتب مؤلفا لحياته الخاصة. إنها عملية أكبر من لا متناهية، إنها عملية ميؤوس منها. هذا لم يكن لينطبق عليّ لأنني لم يراودني أبدا هذا الطموح الكبير والمجنون بالتأكيد. لا، أريد فقط أن أقول: أنا أتواجد داخل كل كتبي في مراحل مختلفة من حياتي في علاقة مع الأحداث التي حسب رأيي ميزت تلك المراحل ولكن كل تلك الكتب مجتمعة ليست هي حياتي أبدا. لم أجد أهمية أبدا لكتابة السيرة الذاتية بعينها. واليوم، بعد أن ألفت كتبي فإن هذه العملية ممنوعة علي بكل الأشكال بسبب أن الكثير من العناصر الشخصية التي دخلت في تراكيب كتاباتي قد غيّرت الأحداث الحقيقية وتمكنت من محوها من ذاكرتي ولم يرجع اليوم إليّ سوى التعبير الكتابي وهذه ثقوب أخرى لا تقل سوادا. إنه من المستحيل علي مثلا أن أتذكر بعض الأحداث التي عشتها دون أن يأتي كي يتدخل ما كتبته عنها ويعترض ويغطيها ويغلق علي سبيل الدخول إليها للأبد".
أما بالنسبة إلي كبنت له فإنه يمكنني القول، وهذا أبعد من الاهتمام الأدبي، فإن قراءة كتب والدي أصبحت بمثابة رحلة بحث وهذا من خلال المقاطع المؤثرة التي بدا لي أنه يتحدث عن نفسه حين كان صغيرا وهذا على لسان الراوي، بدأت أبحث في محاولة التعرف أكثر على "أماكن الطفولة" التي بنى ذاته من خلالها وهذا بهدف فهمه كأب من جهة ورجل من جهة أخرى.
مع هذا يبقى السر قائما لأنه في نهاية المطاف فإن الكتابة هي التي تقود. هذا ما كتبه الرجل في أحد المخطوطات: "إن الأحداث في الرواية لا تأتي بفضل الكاتب بل بفضل الكتابة ولكن في نفس الوقت كأن الحياة قد اخبرتها بذلك فتأتي كي تدخل الحكاية وهذا وحده كافيا لتبريرها.
الكتابة باستمرار من القريب إلى القريب مع وضع الثقة في الذاكرة في ذاك الذي مضى من أجل الذي يأتي ويتبع".