ج/فوغالي
إليكَ سيدي الطاهر وطار، في الذكرى العاشرةِ منْ رحيلكَ إلى «مقامكَ الزكيِّ»، في الطهارةِ منَ الملكوتِ الرضيِّ، وأنتَ هنا بيننا، ولمْ تغادرنا أبداً، وكيفَ لكَ أنْ تتركنا وأنتَ في الأبديةِ الآبدةِ منَّا وفينا وفي هذي الأفئدة؟
وهذي كتاباتكَ نصبحُ عليها ونمسي، كأنما نحملها ذاتَ الشمال وذاتَ اليمين، لنحفظها بملءِ القلبِ:محبةً ووفاء،
ودونها الهباءُ الذي في الهباء...
وكتبتَ الروايةَ والقصةَ والمسرحَ:صدقاً وتجربةً ونضالاً:
فانهمرَ السردُ رقراقاً، في معمارٍ تجيدُ بناءَهُ، يقولُ الهمَّ الاجتماعيَِّ والسياسيَِّ، ويعانقُ الواقعيَّ والأسطوريَّ، ويكشفُ الأوبئةَ التي في القلوبِ والتي في الصدور، ويؤكدُ الحدْسَ العارفَ الذي فيكَ وفي الرؤيا منْ هاتيكَ الكتابة...
وقدْ قلتَ ذاتَ عامٍ، في بونة الحزينة، والدّمُ الحزائريُّ يُغتالُ اغتيالاً، يخضِّبُ الأرضَ البريئةَ، و«الشهداءُ يعودونَ» ليلاً مشعًّا، ونحنُ في غفلةٍ منْ سكرةِ النومِ نيامٌ في بُلَهْنيَةٍ:
•إنِّي أبداً، يا معشرَ الخلقِ، يا أحبائي، ويا أعدائيَ هنا وهناكَ،لا أكتبُ أبداً بماءِ الذهبِ،إنْ هو إلاَّ حريقُ الصدرِ في «الدخان منْ قلبي»، وقدْ كانَ كثيفاً، سميكاً، أما يزالُ كذلكَ؟
وحُرْقتي قالها «اللاز» وكانَ «زيدانُ»لها شاهداً وشهيداً...
و أهاتفكَ، منْ حينٍ إلى حينٍ، فترُدُّ عليَّ بما يفتحُ القلبَ على الحياةِ، وأنتَ في العرينِ منَ الجاحظية، في الكور منْ الزمنِ البونيِّ الذي تعرفهُ وعبرتَهُ وتخاطبني حفيًّا:
•جمالوڤ!
والصوتُ منكَ رذاذٌ مزيجٌ من الشيحِ والديسِ والعرعارِ والصنوبرِ والكليلِ وشجرِ البلُّوطِ السَّخيِّ،
فتنفتحُ السمواتُ السبعُ الطباقُ من الصدرِ،ويطيرُ النبضُ فرحاً إليكَ،وأنتَ تخبرُني بصدورِ مجموعتي القصصية»أحلام أزمنةِ الدَّمِ»، فيميسُ شجرُ الفيكوسِ في هذي الحنايا، تغني الطيورُ، هذا الفرحُ، ترقصُ النوارسُ، هذا الشطحُ، يفيضُ الحلمُ أحلاماً،هذا البهاء،تتَّسعُ الأشواقُ حتَّى أشفَّ،هذا الصفاء،هذي هشاشةُ الروحِ في حريرِ أجنحةِ الفراشة:
•هلْ أجيءُ،سيدي الطاهر؟
أردُّ مخطوفَ النبضِ، وقدْ علَّمتني السردَ من «تحولاتِ» السردِ لشيخِ السردِ «لوكيوس أبوليوس»؟
و»مادور» أعرفها، لعلَّها تعرفني، إنَّا أكرمناكَ بها، وقدْ مررتُ بها عندَ اليسارِ منْ طاغستَ باتجاهِ بونةَ قبلَ انفجارِ الباخرة، والدويُّ منها كانَ كالصاعقة،يحكي جدي الحكاية،نسكنُ أعالي المدينةِ العتيقة،المطلةِ على ساحة السلاح، والذاكرةُ تصيخُ السمعَ وتدسُّهُ دسًّا:
•وارتفعَ الموجُ في الميناءِ ارتفاعاً كأنَّهُ العاصفة، والجثثُ مشظاةٌ، والأيدي بلا أصابع، وزبر الحديد دون قطْر،والدماءُ سوداءُ عندَ الحافة،والرؤوس بلاَ أسماء في القلبِ منْ ساحةِ الثورةِ،والأغصانُ من شجرِ الفيكوسِ غرابيبُ، وامتدادُ العماراتِ بالشظايا محروقةُ الأعمدةِ الرافعة، والبكاءُ عويلٌ عندَ الشرفاتِ منها،والتكبيرُ في الأعالي من بيتِ اللهِ عندَ مقام أبي مروانَ الشريفِ،والنواقيسُ عندَ حدودِ الربوةِ من لالة بونة، أَلْيشْرئبُّ اخضرارُ زيتونها على بياضِ مقامِ سيدي ابراهيم بن تومي عند الطاحونة الهادرة...
يا سيدي الطاهر،إنِّي،وقدْ قلتُ لكَ، ليس لي في الحكايةِ غيرُكَ وجدي،وأنا ضيفكَ بالبيتِ،وقدْ حملتني بسيَّارتكَ منَ الجاحظيةِ، و»والأحلامُ»غادرتْ صدري، وهي الآنَ بين يديَّ،في المددِ منَ المدادِ وقدِ استوى على سوقهِ،فلهُ أنْ يطيرَ وأنْ يحلِّقَ، وأنتَ تقولُ»بيت سيدكْ الطاهرْ للحُرمةْ والدْفاءْ»...
ووقفتُ في القلبِ منَ المكتبةِ في تعاليها،ومددتُ يديَّ معاً لآلائها والنعماء:
أأنا هنا في المكانِ الذي تشكلتْ فيهِ جميعُ الشخصيات الورقية التي أبدعتها،والتي،كسوتها اللحم والدمَ والمواقف،أثارتْ بعدَ اكتمالها،شرقاً وغرباً،قراءاتٍ لرمزيتها ومساراتها والدلالات؟
ورأيتُ فيما رأيْتُ،ولمْ أكنْ قطُّ نائماً،عبدَ المجيد بولرواح،وقدْ تعدَّدَ في التعدُّدِ،والقلبُ واحدٌ،وقدْ تركَ «الزلزال» خلفهُ، هذي الشروخُ منهُ في القيمِ والأخلاقِ تزدادُ انهياراً، ولا يمكنُ لليدِ أنْ تغتسلَ بماءِ النهرِ لمرتينِ، ورأيتُ «الهُزِّيَّة»و«العنابية» يفرُّ أحدهما منَ الآخر، إلى أينَ؟
وأينَ «الحاج كيان»وهو عندَ المقبرةِ في كينونةِ المتصوفة،يريدُ»تجربة في العشق»؟
ولم أكنْ أدري!
و«رمانة»تنوحُ وتبكي،ودمعها دامٍ وازدادَ مرارةً،والجسدُ منها ترهَّلَ،و»الشمعةُ»تكادُ تنطفىءُ»والدهاليز»
تمتدُّ،والظلمةُ داكنةٌ،ولمْ أسْطِعْ قراءةَ»القصيد»و»التذلُّلُ»صارَ العقيدة،وأعرفُ الشاعرَ وقدْ دلني صدقي إليهِ والبراءة،وقدْ تركتُهُ لنار أحقادهِ التي أحرقتْهُ...
ألمْ تكنْ تحلُمُ، سيدي الطاهر، أنْ يكون َ«الربيعُ أزرق»؟
كأنِّي أراني أسعى إليكَ، وأنتَ هنالكَ «ترفعُ يديكَ بالدعاء» عائداً بعدَ عذاباتِ الجسدِ والروحِ في رحلةِ «الحواتِ والقصر» إلى «مقامكَ الزكيّ» في الملكوتِ البهيِّ:
هاتيكَ الكتابةُ، سيدي الطاهر، التي أحببناكَ بها واختلفنا، سيّان...
فأقمْ، حيثُ شئتَ، في المحبةِ والاختلافِ، سيَّان، وقدْ آمنتَ بهما معاً، وقدْ أسستَ لهما»بالجاحظية»، اعترافاً منكَ للعقلانيةِ،بما كتبتهُ، هذهِ المرَّة، بماءِ الذهبِ الخالص الذي سيظلُّ مشعًّا في الأقاصي منَ »الوكر» منَ الأبديَّة/الأدبيَّة:
•»لا إكراه في الرأي»...
•في محبةِ سيدي الطاهر وطار...
•منْ ذكرى رحيلهِ العاشرةِ في ملكوتِ الكتابةِ...