في هذا الحوار تتحدث الشاعرة والكاتبة نصيرة محمّدي، عن عوالمها الشّعرية التي تُشكل روحها وملامحها ومسراتها. تحديدا عن الشِّعر واللّغة والكتابة وحرية الكاتبة. الشِّعر الّذي ترى أنّ الإنسانية ستظل تتلقفه وتحتضنه وتقرأ فيه وجودها وخباياها، وتتأسى فيه عن فداحة مصيرها، لهذا زمنه مهما تعدّدت الوسائط ومهما أهملته المؤسسات، ومهما تقاعس النُقاد عن مجاراة نبضه سيظل يتربع على مملكة الكون والقلب. أمّا الكِتابة فستظل -حسب قولها- أقصى أشكال التحرّر والنّور.
حاورتها/ نـوّارة لحـرش
صاحبة «نسيان أبيض»، تتحدث أيضا عن مساحة الحرية التي تمارسها المرأة في كتاباتها، باِعتبار المرأة (حتّى وهي كاتبة) تبقى في الغالب محكومة بعدة سلط تمنعها من ممارسة حريتها في الكتابة كما يجب.
عمرٌ من الشِّعر والكتابة والسفر في اللّغة وباللّغة. برأيك، هل عبَّر الشّعر حقًا وكما يجب عن مآزق الفرد والحياة والإنسان، عن حاله وحالاته؟
- نصيرة محمـدي: يبدو لي أنّ الشِّعر في الوقت الراهن ظلَّ بعيداً عن الاِنشغالات الحقيقية والمآسي الكُبرى التي نعيشها خاصة في الوطن العربي كما لو أنّه يغرد خارج السرب، ربّما لأنّ هناك حالة إحباط عامة وفقدان للمعنى واِنهماكٌ في تفاصيل تبعدنا عن جوهر الأشياء وعُمق الوجود. وربّما هناك تسطحٌ عام أفضى إلى اِستبعاد قضايا خطيرة في عالمنا واِستسهال التعاطي معها والنظر من زاوية ضيقة لما يمور ويتحوّل وينكسر ويخرب في حياتنا. ينشغل الشعراء أحيانًا بتلميع أسمائهم والمتاجرة بكتاباتهم والركض وراء العابر والسطحي، وراء مظاهر كاذبة تقتل روح الشِّعر وتحطم سرّ العلاقة السامية بينه وبين الإنسانية. الشاعر الحقيقي مجبول على الإنصات لهذا العالم وكائناته لأنّه مجبرٌ على الاِنخراط في الحياة والتعبير عن الهواجس الكُبرى ومجابهة الأسئلة العصيّة.
ورغم كلّ هذا، كأنّكِ تقولين بشكلٍ أو بآخر: القصيدة قادرة على اِحتضان الذات والأشياء والعالم باللّغة. وإنّها تشكل حياةً ممكنة وموازية داخل الحياة العصيّة/العصيبة، أو المستحيلة، وأنّ الحياة بشكلٍ ما لا تكتمل إلاّ بالشّعر ومباهجه؟
- نصيرة محمـدي: تماما. نبدأ من الحياة لأنّها أكبر من الفرح والحزن، وأكبر حتّى من الشِّعر، ولكن الحياة لن تكتمل بدون شِعر. مثلما اِرتميتُ في الحياة، اِرتميتُ في الشِّعر. عشقتُ الأبجدية والألوان والصور والظلال والأضواء والعطور والأحلام، وآمنت بالشِّعر كجوهر يُشكل حقيقتي. ها أنا أمارس سفري اللذيذ المتعب إلى أراضٍ مجهولة، ومناطق بعيدة في الذات والعالم. أشعر أنّي خُلقتُ لهذا العالم، فيه أتنفس، وأحيا، وأكبر، أتعذب وأشفى، أنتشي وأتمتع بلذائذه وجمالياته. بنهم وجنون أُقبِل على الحياة والشِّعر، وأمتص رحيق الأشياء والبشر، ولا أرتوي. مزيداً من الحب، مزيداً من الحياة، مزيداً من الكتابة.
لا أعرف إلى أي مدى أنا مقنعة ومؤثرة وجميلة فيما أكتب، ولكن أشعر بجمال نصي حين أفرح به، حين أتحرّر معه، حين أومض به. لا يحصن القصيدة إلاّ قدرتها على الاِختراق والتجاوز والإضافة. القصيدة القادرة على اِحتضان الذات والأشياء والعالم باللّغة.
أنا كائن مليئ بالسؤال، مثخن بالسؤال، ذاتي ملغمة بالأسئلة، روحي قلقة ومعذبة بالشِّعر والكتابة. أتصوّر نفسي سليلة كائنات قدمت عصارة أرواحها وخلاصة فكرها للبشرية، وزرعت ضوءها ونارها في كينونتي اللاهثة وراء حدود السؤال وتخوم الأشياء. كيف لا يكون للشِّعر حضور، وهو هذه المكابدة العالية والحرقة المتوهجة، القوّة الصامتة والصارخة، الحقيقة العارية والجارحة؟. كيف نكون نحن بدون الشِّعر؟ وكيف يكون شكل العالم بغير سر الأبدية.
لم يتوقف الشِّعر يومًا عن أن يكون هامشيًا أو منسيًا أو قصيًا من حياتنا. تظل الإنسانية تتلقف الشِّعر وتحتضنه وتقرأ فيه وجودها وخباياها، وتتأسى فيه عن فداحة مصيرها، وتدغدغ فيه أحلامها ورؤاها، وتترقب ضوءه وحرارته وأنفاسه بلهفة وجمال وحرية مطلقة.
كيف ينتهي زمن الشِّعر مهما تعدّدت الوسائط ومهما أهملته المؤسسات، ومهما تقاعس النُقاد عن مجاراة نبضه ونزفه وحممه ونوره؟ سيظل يتربع على مملكة الكون والقلب، يشيد الحلم والحب والحرية حتّى يطبق السر على العالم.
على ذكرك للحرية. ما مدى مساحة الحرية المُمارسة في كتاباتك. ألا وجود لأي رقيب أثناء الكتابة؟
- نصيرة محمـدي: تظل الكتابة أقصى أشكال التحرر والنّور. لهذا سأكون أنا دائمًا ذاتي النازفة المتحرقة دومًا للحرية. كنتُ فوق الوصي والرقيب والمقدس والمبتذل لحياة لن تكتمل إلاّ بالحرية والكتابة هي شفاء الرّوح اللاهثة خلف معنى لا يمكن النهوض به.
الكتابة كما الحب لا تكون إلاّ في الحرية. عادةً ما يكون المظهر الخارجي للشاعر مسلكًا خاطئًا لدخول أعماقه، ومعرفة باطنه. قد تكون هناك بوابات أخرى لِطَرْق داخله واِستبطان ذاته. نصي هو إحدى البوابات التي يمكن العبور منها إلى ذاتي، وتلمس داخلي المتمرد القَلِقْ الثائر على كلّ ما يشوه إنسانيتنا، ويعوق حريتنا ورغبتنا في الكشف والإبداع. أنا كائن صامت مغلف بخجل الأنثى الهشّة والشرسة في آن واحد، هشّة أمام كلّ الأشياء الجميلة، والمشاعر المدهشة التي تعترينا في هذا الكون، وشرسة إزاء الألم والبشاعة والظلم والحروب والمآسي والشرور التي تحيط بنا من كلّ جانب.
لماذا علي أن أفتعل مظاهر ليست هي أنا، لا تقارب حقيقتي، ولا تنفتح على جراحي وأسئلتي، وعالمي المبهم الرحب. أكره الإدعاء في كلّ شيء، أكره أن أستفيق يومًا على صورة اِمرأة لا تشبهني، ولا تتواطأ معي، لا تستدرجها ناري، ولا تُؤمن بأنّ الشِّعر جوهري وكينونتي الباهرة؟ حين أعجز عن إيجاد لغة مشتركة بيني وبين الآخرين أصمت. حين تجرحني الحياة أصمت، حين يُطوقني الحب أصمت، حين تنتصر البهجة لي أصمت. أصمت لأرحل إلى أعماقي ولأستجيب لنداء الكتابة المُلتبس. أصمت وداخلي يصطخب بالحكي واللغات والثرثرة والهدير ووجع الكائن المنذور للموت.
ليس تبجحًا أن أكون هكذا في شِعري إنسانة جريئة ومتجاوزة للطابوهات، لأنّني أشعر باِنتصاري على الزيف، والاِزدواجية، والنفاق المتوارث في مجتمعاتنا العربية لأنّ المسائل حُسمت بشكلٍ تلقائي وواع أيضا في داخلي، ولم أعد تلك المرأة المُعلقة بين هاويتين، وجرحين. كسرتُ الكثير من الأصنام، وتصادمت مع ذاتي في مواجهات قاسية ومريرة مع مجتمعي الغارق في التقاليد والأوهام والمفاهيم المتخلفة عن المرأة والرجل، وكيف تكون الكتابة عملية تحرير مضنية. راهنتُ على قوتي الداخلية ووعيي بالأشياء والعالم. رفضتُ الجاهز والبليد والسطحي، ونذرتُ روحي للبحث عن حريتي وحقيقتي.
أنا أيضا مدينة لأصدقائي الروحيين، للكُتّاب والفنانين والفلاسفة الذين أضاءوا عتمتي، ونذروا حروفهم وإبداعاتهم لذواتنا الباحثة عن النّور. لم يكن بالإمكان أن أكون على ما أنا عليه الآن لولا هؤلاء، لولا تاريخ حياتي المؤلم، لولا عذابات الطريق، ولولا رغبتي الحارقة في الحياة والكتابة. ليس سهلاً أن تمنح داخلك الحميم للآخرين، لستُ مجبرة على إعلان فوضاي وحماقاتي وعُمقي ومباهجي السّريّة، وآلامي المستترة لمن لا يستوعب كلّ ذلك. صمتي الغامض أو غموضي الصامت مبطنٌ بصخب الحياة، والتوق إلى اِمتصاص رحيق الأشياء، والبشر، والعالم من حولي.
كأنّ الشّعر يفتح شهية الإقبال أكثـر على الحياة والحرية. هذا ما نستخلصه من كلامك مرة أخرى؟
- نصيرة محمـدي: تماماً. هذا هو. دائمًا، بجنون وظمأ أُقبل على الحياة والشِّعر، بشهوة وقوّة وحنان البحّارة والرحالة والعُشّاق أمارس هذا الترحال في ذاتي، وفي الآخر، وفي الحياة. إلى أي مدى أنا حرة؟، لستُ أعرف، فقط تظل رغبتي في الحرية لا حدود لها. في النّص كما في الحياة أبحث عن حريتي، حرية أن تحيا وتكتب، وتعشق وتتألم، وتكبر بلا أقنعة أو زيف. كيف لي ألاّ أتحدث عن كاتبة ملأت روحي؟ «غادة السمان» التي كتبتُ لها أنّني مدينة لها بالاِتساع الّذي بداخلي، بضوئها الّذي يبدّد عتمتي، بروحها وأنفاسها التي أنقذتني من الموت آلاف المرات. كنتُ أحتمي بها من الموت. كُتبها كانت ملاذي وسلوتي وأنسي وسعادتي وعذاباتي وأسئلتي في مراحل عمري، كانت صديقتي الرّوحيّة الأعمق والأجمل والأنبل. في حرب الجزائر الأهلية كنتُ أستعيدها، أستحضرها، أسائلها، أعيشُ ما عاشتْ في «كوابيس بيروت» ودمارها.
كيف كان لي أن أخرج بقدمين من حياة لولا «غادة السمان» التي وهبتني القوّة، وصيرتني كائنًا بعشرات الحواس والقدرات والأحلام؟، كيف كان لي أن أطير وأعشق وأتخبط في الحياة لولا تحريضها السّريّ والمُعلن على الحياة والحرية والضوء، الاِرتماء في الحياة وتجاربها وعشق الكتابة والفن، أبجديات لفهم عالم «غادة»، تعلمتها صغيرة منها، وشربت من نبعها أنا الظمأى دائمًا. ليس سهلا أن تكوني اِمرأة كاتبة في الجزائر، أتكبد ضراوة كلّ ذلك بِمَا تبقى في روحي من قدرة على التنفس والركض والعشق والكتابة. غجرية هكذا وعيت ذاتي التي لا تهدأ، روح قلقة لا تعترف بالحدود والموانع والأطر والسُلط والأمكنة. روح لا تهدأ، عشقها الترحال إلى اللانهائي. كيف لي أعرف الاِستقرار والسكينة وروحي المشتعلة بالحرية تطلق حممها في الكون؟ أعتقد أنّي اِمرأة بلا مكان ولا زمان، أنا عابرة في هذا العالم، ولكن هذا العبور يجب أن يكون ذا أثر، شرخ أو ضوء أو ندبة أو وشم أو حرارة أو رائحة لا تزول.
هل قدر الشاعرة أن تعيش الكثير من الترحال. ترحال في اللّغة، في الشّعر، في المفردات، بحثًا عن الحرية والمعنى والذات والآخر والحياة...؟
- نصيرة محمـدي: قدري كان دائمًا الترحال، في الترحال أعي الحرية والفقد، معنى الفقد الفادح. كان الموت دائمًا بالمرصاد لي، عرفته، تآلفت معه، صرتُ أنتظره عند كلّ عتبة، في كلّ مساء في سريري. أنا كبرتُ في ملحمة كاملة اِسمها المقبرة، مقبرة الأطفال في بيرين، المقبرة التي أثّثت طفولتي، وكبرتُ في مقبرة كبيرة صنعتها الحرب في وطني. وكبرتُ على وجعٍ ليلي دائم أنّي سأظل امرأة تنام بعيون نصف مغمضة، نصف مفتوحة، وأنّني في كلّ رحيل أنشد ليلة نوم أستغرق فيها شبه ميتة، ولكن عبثًا أنا التي تريد أن تنام وتهدأ، أنا المُنفلتة، التائهة، الموجوعة. أنا الذاهلة في سماوات الحرية، عبثًا تتلقفُ الأرض ذاتي، عبثًا يصير لجسدي سكنٌ غير قصيدتي. ليس ما يعذبني العابر والسطحي في حياة المرأة الكاتبة، وقشور الحياة الاِجتماعية العربية، وصخب اليوميّ، ووجاهة الأنثى، بقدر ما تعذبني أسئلة شائكة أخرى وأفكارٌ مضنية، كسؤال الحرية الكبير.
الشائع أنّ خطاب المرأة في الكِتابة، ظلّ محل تأويلات ومساءلات ومحاكمات أخلاقية. لماذا برأيك؟
- نصيرة محمـدي:مغامرة الكتابة بالنسبة للمرأة محفوفة دائمًا بالمخاطر والأسئلة، وعقبات الطريق. حيث تفسح هذه الكتابة حضور اللّغة الأخرى، والأنوثة المقصاة على مدار تاريخ الكتابة العربيّة بِمَا هي اِنفتاح على الرّوح المغيبة، والذات المُهمشة، التي كرستها ثقافة ذكورية مستبدة ومهينة لفكر المرأة وحضورها فكراً ولغةً وإبداعًا.
أن تمتلك جرأة الذهاب إلى الأشياء والنفاذ فيها بعُمق وشفافية، وأن تضع كلّ إرثك التاريخي في مواجهة صادمة ومفتتة للأصنام، والقلاع الحصينة التي تمنع تسرب الضوء والهواء إلى الأرواح العطشى للحرية والاِنعتاق من المعتقدات الراسخة والقناعات الجامدة المتكلسة التي لا تحيل إلاّ على الموت والجهل الّذي يتربص بالكائنات ويحيلها إلى رماد. أن تمتلك شرارة التمرد على السائد والجاهز والبليد فتلك معجزة تنفتح بها الحياة على اِحتمالات ومسارب ودروب أخرى علينا اِكتشافها وشقها بروح مُسائِلة، وقوية قادرة على اِجتراح الجمال والحق والخير والعدالة والحرية.
كيف للمرأة الكاتبة أن تواجه ترسانة من الأكاذيب التي عُبئت بها منذ الصرخة الأولى، ومنذ اللّغة الأولى التي تمارس عنفها على كلّ ما هو أنثوي، ومُصنّف ضمن خانة الضعيف والهش المُثير للشفقة والمنذور للعبودية والتبعية مدى الحياة؟ كيف تنحاز الكاتبة لحقيقتها الغائبة وصوتها الحر، ونبضها الحي في قول المسكوت عنه، وفضح المستتر والمهمل والمنسي في أقاصي الرّوح، وفي وجع الحكايات وظلام الأمكنة، وسطوة الزمن والقبيلة المهيمنة على ذرات الجسد والوجدان، ومساحات التفكير، وفلتات الحلم؟
كأنّ الأمر لن يتغير، وسيظل خطاب الكاتبة محل مساءلات؟
- نصيرة محمـدي:سيظل الوعي بجذور هذه المسألة أساسيًا لتفجير الأسئلة الشائكة، ومُناهضة عالم من الزيف والجبن والعُقد المتراكمة عبر تاريخٍ طويل من الألم والصمت والخضوع لمفاهيم متخلفة عن علاقتنا بالعالم والمرأة والرجل والكتابة باٍعتبارها أرقى وأخطر أشكال التعابير التي تُغير نظرتنا للأشياء، وتُؤسس لعلاقات مُختلفة قائمة على اِحترام الآخر ومُقاسمته الحياة في فضاءٍ يتسع للجميع ويحمل هوياتنا المتباينة وطُرق تفكيرنا الخاصة. الهوية بِمَا هي ثقافة وليست عرقا أو جنسًا أو دينًا، كلّ الخطابات القائمة على هذا الفصل العنصري ستفضي إلى الخراب، وإلى اِستعداء الآخر، وتأجيج الظُلم والحساسيات والفروق التعسفية في حق الكائنات. ولن نستطيع اِجتثاث هذه الأمراض من الذهنيات والعقول التي تُعيد إنتاج هذا الهراء إلاّ من خلال التربية، ونسف المؤسسات المُحرضة على إدانة الآخر، وملاحقة أفكاره وتوجهاته واختلافه عنا.