غاب الكاتب والمفكر وعالم الاِجتماع الجزائري الدكتور علي الكنز، (1946/1 نوفمبر2020). بمدينة نانت غرب فرنسا. الراحل من أبرز المفكرين الجزائريين المغتربين المختصين في عِلم الاِجتماع، درس الفلسفة في جامعة الجزائر ونال منها شهادة الليسانس في بداية السبعينيات، ثمّ اِتجه نحو التخصص في عِلم الاِجتماع. إنّه السوسيولوجي القادم من عالم الفلسفة. سرقته وسرّبته وأخذته السوسيولوجيا من الفلسفة وعوالمها ليكون أحد أهم رواد وعُلماء عِلم الاِجتماع في الجزائر. ظلّ طوال مسيرة التدريس والكتابة يطرح الأفكار المُوَاكِبة لتطورات المجتمع الجزائري وتحوّلاته، ضمن دراساته وأبحاثه ومقالاته وحواراته ومؤلفاته. كما تناول في دراساته وأبحاثه التجربة التنموية في الجزائر.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
«كراس الثقافة» في عدده اليوم، يستحضر فقيد عِلم الاِجتماع في الجزائر. مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين المشتغلين في حقل السوسيولوجيا، ومن بينهم أصدقاء وزملاء الراحل. مثل الدكتور العياشي عنصر، أستاذ وباحث في عِلم الاِجتماع بجامعة الشارقة/الإمارات العربية المتحدة. وصديقه وزميله أستاذ الفلسفة بجامعة الجزائر2، الدكتور نور الدين محمّد جباب.
* العياشي عنصر أستاذ وباحث في عِلم الاِجتماع -جامعة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة
علي الكنز رائد السوسيولوجيا الجزائرية
يعتبر الكنز من رواد السوسيولوجيا في الجزائر والعالم العربي، وأحد أعمدتها الأساسيّة في إفريقيا والعالم. كان الأستاذ الكنز كما يدل اِسمه كنزاً من جهة دفء المشاعر والصداقة والوفاء، كما كان من جهة الفكر والعِلم، فهو باحث موسوعي بأتم معنى الكلمة. كان شغوفًا بدراسة المجتمع الجزائري على مدى عقود من الزمن جمع بين الملاحظة والنقاش، البحث والتأليف. عُرِفَ بطبيعته الوديعة والهادئة، التي بلغت أحيانًا حدود الخجل والعزلة. كان إنسانًا مسالمًا، لا يحب العنف بجميع أشكاله، ولا يُبادر به أبداً، لكنّه لا يقبله ويرد عليه بقوّة متى شعر أنه مستهدف. عُرِف أيضا باِبتعاده عن النقاشات الساخنة والمواجهة، وتفضيله للحوار العقلاني الرزين والهادئ المبني على الاِحترام المتبادل.
يعتبر علي الكنز من الجيل الأوّل لخريجي جامعة الجزائر بعد الاِستقلال الّذي ضم أسماءً لامعة معظمها رحل عن عالمنا مثل جيلالي اليابس، محمّد بوخبزة، فوزي عادل، شيخي السعيد، جمال غريد وآخرون ما زالوا على قيد الحياة. درس الكنز الفلسفة في جامعة الجزائر حيث نال شهادة الليسانس بداية السبعينات، ليتحول بعدها لدراسة عِلم الاِجتماع الّذي وضع أسسه عامل الاِجتماع الفرنسي بيار بورديو مؤسس الجمعية الجزائرية للبحوث الديموغرافية، الاِقتصادية والاِجتماعية، وإيميل سيكار أوّل رئيس لقسم عِلم الاِجتماع بجامعة الجزائر. لكن الكنز الطالب كان شغوفًا أكثر بفكر اِبن خلدون، وفكر المناضل فرانز فانون، وأطروحات المفكر سمير أمين الذي ترأس مجلس تطوير العلوم الاِجتماعية والبحث في إفريقيا CODESRIA (دكار عاصمة السينغال). وقد اِلتحق الكنز بهذا المركز المرموق وعمل به باحثًا مشاركًا لسنوات عديدة، ونشر أعمالاً مشتركة مع مديره سمير أمين، كما كان من الرواد والمؤسسين للجمعية العربيّة لعِلم الاِجتماع، وعضواً نشطًا بها على مدى أربعة عقود من الزمن. كان حضوره لافتًا في السنوات الأخيرة في المجلس العلمي لمركز البحوث في الأنثروبولوجيا الاِجتماعية والثقافية بوهران حيث كان عضواً في مجلسه العلمي خلال ثلاث دورات في الفترة (2003-2017)، وعضوا دائما في الهيئة الاِستشارية لمجلة المركز «إنسانيات»، ومشاركًا نشطًا في ندواته ومؤتمراته.
عُرِف الكنز (1946 - 2020) بكونه أحد الرواد الثلاثة الذين تركوا بصمة واضحة على عِلم الاِجتماع، وقد ضمت هذه المجموعة من الجيل الأوّل المؤسس لعِلم اِجتماع العمل في الجزائر بالإضافة إلى علي الكنز كلّا من سعيد شيخي (1944 - 1993) وجمال غريد (1943 - 2013). وكان لي شرف معرفتهم عن قرب، حيث اِلتقيت سعيد شيخي وتناقشت معه مرتين قبل أن تخطفه المنية، بينما ربطتني علاقة وطيدة اِستمرت سنوات مع كلّ من علي الكنز وجمال غريد من خلال اِنضمامي إلى مركز البحوث في الأنثروبولوجيا الاِجتماعية والثقافيّة بوهران منذ بداية التسعينات من القرن الماضي بصفتي باحثًا مشاركًا، ثمّ رئيسًا لقسم أنثروبولوجيا المؤسسة والعمل، وعضواً في المجلس العلمي، وعضواً في الهيئة الاِستشارية لمجلة إنسانيات خلال الفترة (1990-2002). ساهم هؤلاء الرواد الثلاثة بالإضافة إلى مجموعة صغيرة من الجيل الثاني الّذي أنتمي إليه، بتشكيل حقل سوسيولوجيا العمل في الجزائر من خلال أعمال مرجعية كانت بدايتها دراسة قام بها الثلاثي حول مركب الحجار بعنابة تحت عنوان: «الصناعة والمجتمع: حالة مصنع الصلب والفولاذ بعنابة»، (الجزائر1982). ثمّ تبعوها بأعمالهم الفردية على شكل رسائل دكتوراه الدولة، كانت الأولى مع علي الكنز برسالة عنوانها «منوغرافيا التجربة الصناعية في الجزائر: مركب الفولاذ بالحجار» جامعة باريس 1983، نُشرت فيما بعد بفرنسا تحت عنوان: «تجربة صناعية في الجزائر: مركب الفولاذ في الجزائر» 1987. ثمّ لحقه سعيد شيخي بتقديم رسالة دكتوراه بعنوان «المسألة العمالية والعلاقات الاِجتماعية في الجزائر: العامل، الورشة والبيروقراطي»، جامعة باريس7عام1986. وأخيراً جمال غريد الّذي قدم رسالة بعنوان: «التصنيع، الطبقة العاملة وعلم الاِجتماع: نموذج الجزائر» بجامعة باريس 1994. وقد كان لي الشرف أن قدمت رسالتي للدكتوراه بجامعة ليستر في بريطانيا سنتين قبل ذلك تحت عنوان: «سيرورة تشكيل الطبقة العاملة في الجزائر»1992.
كان أوّل لقائي بالأستاذ علي الكنز بداية الثمانينات من القرن الماضي (قبل حوالي40 سنة) عندما اِختار عنابة للقيام بدراسته بمصنع الحجار تحضيراً لرسالة الدكتوراه. زار الكنز معهد العلوم الاِجتماعية بجامعة عنابة أين كنتُ أستاذاً معيداً طلبًا للمساعدة من أجل تنفيذ العمل الميداني. كنتُ أوّل المرحبين بالفكرة فانضممتُ إليه مع مجموعة من طلبتي لمساعدته في توزيع الاِستمارات وإجراء مقابلات مع العمال لجمع البيانات، وقد اِستمرت العملية لعدة أسابيع. كانت تلك فرصة لإقامة علاقة صداقة متينة مع الأستاذ الكنز اِستمرتْ حتّى رحيله عن عالمنا قبل أسبوع. توالت لقاءاتنا بعدها سواء في عنابة أو في الجزائر العاصمة أو وهران كلما سمحت الفرصة بذلك مثل تنظيم أو المشاركة في الأيّام الدراسية والملتقيات العلمية.
ثمّ كان الفراق عندما أُجبر الكنز على مغادرة الجزائر إلى تونس أثناء فترة الإرهاب سنة 1993 ثمّ إلى فرنسا 1995. وجاء دوري لمغادرة الجزائر عام 2002 ما أدى إلى اِنقطاع الاِتصال المباشر بيننا منذ ذلك الحين، وبقيت المراسلات هي السبيل الوحيد للحفاظ على صداقتنا. إلى غاية 2010 عندما قمتُ بصفتي رئيس قسم العلوم الاِجتماعية بجامعة قطر بتنظيم مؤتمر علمي دولي تحت عنوان «المجتمع المدني في البلاد العربية». دعوتُ إلى هذا المؤتمر الثاني الّذي ينظمه القسم نخبة من الأكاديميين من بينهم الأستاذ علي الكنز، وبرهان غليون، عزمي بشارة، الزبير عروس وأحمد زايد ومحسن بوعزيزي بالإضافة إلى مجموعة من الأساتذة من بريطانيا والخليج العربي. كان هدفي منذ البداية هو تكريم الأستاذ علي الكنز الّذي قدم المحاضرة الاِفتتاحية للمؤتمر بورقة عنوانها «الشارع العربي كمكون للمجتمع المدني».في ختام المؤتمر كُرِم الكنز «بجائزة اِبن خلدون للعلوم الاِجتماعية»، وهي جائزة أنشأها قسم العلوم الاِجتماعية بجامعة قطر، وكان الأستاذ الكنز الشخصية الثانية التي نالت هذه الجائزة.لم تسمح لنا الظروف باللقاء بعد ذلك حتّى فيفري 2014 بمناسبة المؤتمر العلمي الدولي الّذي نظمته الجمعية العربية لعِلم الاِجتماع ومركز البحوث في الأنثروبولوجيا بوهران تحت عنوان «علماء الاِجتماع العرب أمام أسئلة التحوّلات الراهنة»، وكان ذلك آخر لقاء بيننا. بقينا بعدها في اِتصال دائم بالمراسلات والمكالمات الهاتفية، ولم تسمح لنا ظروفنا باللقاء مرّة أخرى رغم المحاولات المتكررة، وكانت آخر مرّة تكلمتُ فيها مع الكنز قبل وفاته بثلاثة أسابيع، حيث كان في المستشفى بسبب تدهور حالته الصحية. وقد كان رغم ضعفه البدني بكامل قواه الفكرية لكن شعوره المستمر بثقل الغربة التي أُجبر عليها كان قاسيًا جدا عليه، وقد كانت هذه القضية من أهم العوامل التي أثرت على صحته البدنية والنفسية منذ اِضطر إلى مغادرة الجزائر عام 1993 في خضم سنوات الدم والجمر التي عاشتها الجزائر وكان المثقفون من خيرة أبنائها وقوداً لها.
عُرِف الأستاذ الكنز بكونه مفكراً موسوعيًا غرف من مختلف أنواع الفكر من الفلسفة إلى عِلم الاِجتماع مروراً بالتاريخ والاِقتصاد والفنون الجميلة مثل المسرح والموسيقى. كما عُرِفَ بتفكيره النقدي، وتمسكه بحريته وابتعاده، بل رفضه القاطع والمستمر لأية محاولات لتدجينه أو اِحتوائه، فلم يقبل الاِنتماء لأية تنظيم أو هيئة سوى التنظيمات والهيئات العلمية والأكاديمية، محافظا بذلك على حريته الفكرية، ونقاء أفكاره من شوائب الاِنتماءات الحزبية والسّياسيّة والأيديولوجية الضيقة، مُفضلاً أن يكون مناصراً للفكر النقدي، ومدافعًا عن المُثل العُليا للحرية والكرامة والحق في العيش الكريم، ومُناصراً قويًا وفيًا لجميع الفئات الضعيفة، الهشّة والمُستبعدة أينما كانت.كان الراحل الكنز غزير الإنتاج رغم اِعتلال صحته في السنوات الأخيرة، حيث ترك كمًا هائلاً من الأعمال المنشورة في صيغة كُتب، أبحاث، دراسات، أوراق بحثية، مقالات علمية، فضلاً عن المقالات والمقابلات الصحفية. يمكن لمن أراد الاِطلاع عليها مراجعة سيرته الذاتية المنشورة على موقع جامعة نانت بفرنسا حيث عمل أستاذاً لعِلم الاِجتماع على مدى 23 عامًا من 1995 لغاية 2017 عندما اِضطر للتقاعد تحت وطأة المرض. كان الراحل دائم الحضور والمشاركة في حياة الجامعة وفي مراكز البحث والهيئات العلمية في مختلف بلدان العالم.
* عبد السلام فيلالي كاتب وباحث في عِلم الاِجتماع -جامعة عنابة
كرّس الدرس السوسيولوجي كوسيلة نقدية لقراءة الواقع الجزائري
يفقد عِلم الاِجتماع في الجزائر أحد أهم علمائه، علي الكنز. والنظر إلى النتاج المعرفي الّذي قدمه الأستاذ يجعلنا نطرح أسئلة حول حضور هذا الحقل العلمي ضمن المشهد الأكاديمي الجزائري بشكلٍ عام ثمّ مكانة عُلماء الاِجتماع أيضا. إنّ مُراجعة الأسماء الفاعلة فيه، تجعلنا نضع علي الكنز ضمن رواده في الجزائر، إلى جانب ثلة من المرموقين. وباِستطاعتنا القول أنّه كرّس الدرس السوسيولوجي كوسيلة نقدية لقراءة الواقع الجزائري العام، وخاصةً من خلال دراسته التي تناولت التجربة الصناعية في الجزائر وحالة مركب الحجار للحديد والصُلب (1987). كذلك يمكن وصف عمليه الأولين «الاِقتصاد الجزائري» (1980) و»الأساتذة المفكرون» (1985)، كمرحلة أولى.
المرحلة الثانية تميّزت بتغيّر محاور اِهتمام علي الكنز، مرافقة للتغيرات الجذرية التي شهدتها الجزائر في بداية التسعينات، حيث تناول مواضيع تتعلق بإشكاليّات المجتمع والاِنفتاح، يظهر ذلك من عناوين المقالات التي كتبها وضمت إلى أعمال جماعية (فينومينولوجيا الوعي الوطني)، (حرب الخليج ومُستقبل العرب)، (عِلم الاِجتماع في العالم العربي)، (المُثقفون في العالم العربي)، (الدّين والمجتمع)، (المجتمع المدني والديمقراطية في العالم العربي)، (صورة الآخر)، تناولت رهانات الحداثة والديمقراطية في الجزائر والعالم العربي.في نظري يبرز المؤلف الكبير الّذي أنجزه علي الكنز بمعية محفوظ بنون تحت عنوان «الصدفة والتاريخ» وهو عبارة عن حوار يخوض في مسار وتجربة أب الصناعة الجزائرية بلعيد عبد السلام، صدر سنة 1991. لقد نجحا في تسليط الضوء على عديد المواضيع التي تخص مرحلة حرب التحرير وفترة السبعينات بشكلٍ مُعمّق وسبَّاق، اِستطاعا أن يخضعا المسار النضالي والسياسي لرئيس الحكومة الأسبق إلى مقاربة سوسيولوجية عميقة.
للأسف لم تتم ترجمة هذه الأعمال إلى اللّغة العربية، ما ترك علي الكنز غير معروف لدى الجزائريين. وهذا ما يجعلنا نوجه الباحثين والمثقفين إلى الاِهتمام بها، ترجمةً ودراسةً، كجزء من التأسيس والتأريخ لعِلم اِجتماع، إضافةً إلى أعمال أخرى لعُلماء اِجتماع جزائريين كتبوا باللغات الأجنبية.ثمّة كسر في مسار تخصص عِلم الاِجتماع في الجزائر حدثَ في بداية التسعينات وتردي الأوضاع الأمنية، لقد تعرض بعض من هؤلاء الرواد إلى التصفية الجسدية، وقرر البعض مغادرة الجزائر. كان طريق المنفى هو أحد خيارات الراحل علي الكنز، حيث اِستقر به المطاف في جامعة نانت بفرنسا منذ منتصف التسعينات إلى غاية تقاعده ووفاته. كسرٌ هو بمثابة قطيعة ونزيف حصل في الجامعة الجزائرية، كان أحد عوامل تراجع مكانة عِلم الاِجتماع وتراجع الدراسات البارزة على عكس ما كان يشهده في السابق. ونستطيع أن نلاحظ تراجع الإنتاج الأكاديمي لعلي الكنز في هذه المرحلة، كما تدل على ذلك سيرته الذاتية. بيد أنّ الاِستقرار في فرنسا لم يُغير من اِهتمامات علي الكنز وهواجسه من أجل مجتمع منفتح وديمقراطي، مثلما يدل على ذلك عناوين الكُتب والمقالات التي نشرها: رفقة سمير أمين: (العالم العربي: القضايا الاِجتماعية، آفاق متوسطية.2003). (العلوم الإنسانية والاِجتماعية في الدول العربية وحوض البحر الأبيض المتوسط.2005). (العلوم الاِجتماعية في العالم العربي: إطار من أجل البحث. 2008).
كان لعلي الكنز نشاطٌ حثيث كأستاذ جامعي وباحث، ولكن أيضا كمدير لمركز البحوث في الاِقتصاد التطبيقي والتنمية، وكعضو في الجمعية العربية لعِلم الاِجتماع، ومجلس التنمية والبحث في العلوم الاِجتماعية بإفريقيا. وكلنا يتذكر قراءة اِسمه ضمن سلسة: «الأنيس» التي أشرف على إصدارها وتخص أعمالا فلسفية وأدبية عربية وعالمية رائدة. كان فقيد عِلم الاِجتماع يُلبي دائما دعوات المشاركة في الندوات والملتقيات التي كان يُدعى إليها في الجزائر، حيث كان يحظى الباحثون الشباب برعاية واِحتضان وتوجيه من لدنه. إنّ شخصيته الهادئة وتواضعه الكبير كان يزيد من محبة الطلبة والأساتذة له. مسارٌ حافلٌ وثري للراحل علي الكنز، نتمنى أن يكتشفه الطلبة والباحثون، لكي ينال التقدير الّذي يجب أن يحظى به نظير ما قدمه للجامعة ولتخصص عِلم الاِجتماع والثقافة في الجزائر.
* عبد الحليم مهورباشة باحث في عِلم الاِجتماع -جامعة سطيف2
جمع بين التفكير والدراسة الميدانية
رحل عنا عالم الاِجتماع الجزائري علي الكنز، بعد مسيرة مليئة بالإنجازات العلمية والفكرية والأكاديمية، جمع فيها الراحل بين التفكير النظري في الظواهر الاِجتماعية والإنسانية والدراسة الميدانية لها، وبين الكتابة العلمية الرصينة والاِلتزام السياسي بقضايا الأمة، وبين الاِنخراط في دراسة مشكلات الواقع المحلي والمساهمة في مناقشة المشكلات العالمية، وبين تخصصه في عِلم الاِجتماع وانفتاحه على التخصصات المعرفية الأخرى، كالاِقتصاد السياسي والعلوم السياسيّة والفلسفة. أسست أعماله الأكاديمية والعلمية لرؤية سوسيولوجية نقدية للظواهر الاِجتماعية والإنسانية، وكشفت الغطاء عن قضايا ومفاهيم وظواهر ظلت آليات الهيمنة تحجبها عن أعين الباحثين والدارسين. ترك لنا الكنز إرثًا معرفيًا ومنهجيًا مبثوثًا بين ثنايا الكُتب والمقالات العلمية التي ألفها على مدار أربعة عقود زمنية، نذكر منها: (اِقتصاد الجزائر سنة 1980، حول الأزمة سنة 1993، الجزائر والحداثة سنة 1989، غرامشي في العالم العربي سنة 1994، الجزائر والحداثة 1989،....).
من وجهة نظري اِشتغل الباحث السوسيولوجي علي الكنز على أربعة إشكاليات بحثية كُبرى، منها ما أنجزها بمفرده، وأخذت الطابع المحلي، ومنها ما أنجزها بمعية مفكرين آخرين (دراساته مع عالم الاِجتماع المصري سمير أمين)، وأخذت الطابع الإقليمي والعالمي، أوّلها إشكالية التنمية الصناعية في الجزائر، التي عالجها في دراسته الشهيرة حول المركب الصناعي الحجار بعنابة، والثانية إشكالية التنمية في الجزائر والعالم الثالث، والثالثة مسألة السلطة السياسيّة والتحوّل الدّيمقراطي في الجزائر والمغرب العربي، والرابعة سؤال الأنتلجنسيا ودور المثقفين في العالم العربي، التي بيّن فيها كيف يُؤثر الاِستهلاك المعرفي للمنجزات المعرفية الحداثية على فهم الباحثين والمثقفين في دول العالم الثالث للظواهر الاِجتماعية والاِقتصادية والسياسيّة، مع التذكير هنا، أنّ هذه الإشكاليات الأربعة لا يحكمها معيار التتابع الزمني، بمعنى أنّ الكنز كان ينتقل زمنيًّا من إشكالية إلى أخرى، بل في تصورنا يحكُمها منطق التوالد الإشكالي من جهة، وتفاعل الباحث مع السياق التاريخي والاِجتماعي الّذي يتطرق فيه لكلّ إشكالية على حِدةٍ، من جهة أخرى، فالرجل بحسه النقدي، كان يكتب وهو مسكون بقضايا المجتمع ومشكلاته، والتحولات الاِجتماعية التي يعرفها.
من الإشكاليات البحثية التي جذبتني إلى المنجز المعرفي لعالم الاِجتماع علي الكنز، إشكالية العلوم الاِجتماعية في العالم العربي، ودعوته إلى تأسيس عِلم اِجتماع عربي، أو عِلم اِجتماع الجنوب. نشر العديد من المقالات والأبحاث الأكاديمية التي عالج فيها هذه الإشكالية الشائكة، نُشير في هذا المقام إلى أنّ الكنز قام بفحص نقدي لخطابات العلوم الاِجتماعية، وكان على اِطلاعٍ دائم حول ما يُنتج من نظريات ومفاهيم ومناهج في مجال عِلم الاِجتماع، وهو ما قاده إلى اِتخاذ موقف نقدي من هذه العلوم، كاشفًا عن تحيزاتها ومركزيّتها، بالإضافة إلى دراساته الميدانية التي أجراها حول المجتمع الجزائري، ما مكّنه من الكشف عن محدودية المفاهيم والأدوات التحليلية والأُطر النظرية الغربيّة في تحليل وتفسير الظواهر الاِجتماعية التي عالجها أمبريقيا، كما قام بقراءة المنجز المعرفي السوسيولوجي في العالم العربي، ليخلص إلى فكرة جوهرية تتمثل في تبعية السوسيولجيا العربية للسوسيولوجيا الغربية، مُعتبراً هذه التبعية اِمتداداً للتبعية الاِقتصادية والتكنولوجية التي تُعاني منها الدول العربية ودول الجنوب عمومًا.
يعتقد الكنز أنّ التبعية الفكرية تُورِث لدى الباحث العربي التقليد والتكرار، حيث تحوّلت الجامعات العربية إلى مجرّد وسيط شارح للنظريات العلمية الغربية، وهذه الوضعية هي اِمتدادٌ لعملية الاِستيراد التي اِنتقلت من السِلع الاِقتصادية والتكنولوجية إلى الأفكار والنظريات في المجتمعات العربية، ويرى أنّ خطؤنا الجوهري ينبع من رؤيتنا الاِيجابية للنظريات الغربية، التي حرمتنا من فهم الواقع الاِجتماعي الجزائري والعربي، رغم تأكيد الكنز على أنّ العقم السوسيولوجي الّذي نعاني منه اليوم مرده علاقة الباحثين العرب بالأدوات المعرفية والمنهجية لا عقم الأدوات ذاتها، حيث تحكمنا علاقة ذرائعية-برغماتية بالمنجز السوسيولوجي الغربي، نسعى دون بذل أي جهد نقدي لتوظيفه في دراسة المجتمعات العربية، مِمّا أدى إلى إنتاج سوسيولوجيا هشّة، معرفيًا تفتقد إلى المَشكلة، ومحرفة للواقع الاِجتماعي والسياسي والثقافي.
يعتقد الذين يشتغلون في حقل العلوم الاِجتماعية في العالم العربي، أنّ عملية اِستيراد النظريات السوسيولوجية الغربية، بفصلها عن إطاراها الاِجتماعي التاريخي الّذي ولدت فيه، ومحضنها الابستيمولجي الّذي نمت داخله، سيُمكننا من إنتاج خطاب سوسيولوجي حول الظواهر الاِجتماعية والإنسانية في العالم العربي، إلاّ أنّنا اِكتشفنا بعد عقود من الممارسات البحثيّة، أنّ هذا المسلك مسدود، فالتنوع والتعدّد في النظريات الغربية محكوم بِمَّا أسماه الكنز: «قواعد اللعبة»، وهو ما يمكن أن نسميه اليوم بلغتنا بـــ»البراديغم المعرفي»، لذلك طريق نقل المعرفة الّذي اِنتهجه الباحثون العرب في عديد الحقول المعرفية في العلوم الاِجتماعية، لم يُثمر معرفيًّا، بل أدى إلى ممارسة اِنتقائية، يُسقط كلّ باحث ما بدى له صائبًا من مفاهيم ونظريات على الظواهر الاِجتماعية والإنسانية المحلية، وهو ما يُكرِس أكثر التأخر التاريخي في مجال العلوم، ويكون الحل في تصور الكنز من خلال تفكير ابستيمولوجي جديد يُؤسس لبراديغم معرفي، يقوم على قواعد معرفية ومنهجية، تُمكنننا من قراءة مختلف الظواهر الاِجتماعية التي يزخر بها الواقع الاِجتماعي العربي.
أشار الكنز إلى أنّ توطين العلوم الاِجتماعية في العالم العربي، يحتاج أيضا إلى بيئة سياسيّة واِجتماعية منفتحة، وحاضنة لهذه العلوم، فيرى أنّ السوسيولوجيا التي تُمارس داخل المؤسسات الجامعية، التي تُهيمن عليها النُظم السّياسيّة العربيّة، تحرمها من التنوع والتعدّد، وتقتل روحها الإبداعية النقدية، وتوجهها بِمَّا يخدم رؤيتها التسلطية نحو المجتمعات والجماعات الاِجتماعية في العالم العربي، وهكذا تصبح الممارسة السوسيولوجية شبه مستحيلة، وتتشكل الخطابات السوسيولوجية خارج أسوار الجامعات الحكومية، حيث تكون متحرّرة من سلطة الرقيب، ومُتجاوزة لممارسة التقليد والتكرار.
في الأخير، دعا علي الكنز الباحثين إلى الكف عن ترديد المفاهيم كشعارات مثل الديمقراطية والحرية ودولة القانون، وطالبهم بالاِنخراط في دراسة الواقع الاِجتماعي العربي، من خلال تقديم دراسات وأبحاث ميدانية حول ظواهر اِجتماعية مثل العائلة، والرابط الاِجتماعي، القيم الثقافيّة، وبنية النُظم السّياسيّة، آليات توزيع الثورة، والاِقتصاديات المحلية، وغيرها.
* محمّد نور الدين جباب باحث أكاديمي وأستاذ الفلسفة -جامعة الجزائر2
سعى لخلق مدرسة جزائرية في علم الاجتماع وأحبه المعربون والمفرنسون
كنتُ طالبًا في الجامعة وكان اِسم الأستاذ علي الكنز لامعًا في الجامعة وفي قسم عِلم الاِجتماع المُجاور لقسم الفلسفة. علي الكنز الفرانكفوني كان محبوبًا من جميع الطلبة وكان يحضر محاضراته جميع الطلبة، المُعرب قبل المُفرنس، ولما كان علي الكنز كبيراً ومن ثمرات الحركة الوطنية وقيم ثورة التحرير، لم يتردّد في تعلم اللّغة العربية التي سافر من أجلها وفي سبيلها إلى مصر، وكانت فرصة للاِطلاع على الحياة الفكرية في مصر والتعرف على النّخبة المصرية، كما كان علي الكنز الّذي كانت تجمعه الصداقة بالأديب الطاهر وطار، من مؤسسي جمعية الجاحظية، ومن مؤسسي الجمعية العربية لعِلم الاِجتماع. شاءت الأقدار وأصبحتُ زميلاً مجاورا له بقسم الفلسفة، لقد ظل علي الكنز عالم الاِجتماع يشده الحنين لأوّل منزل، لقد كان منزله الأوّل قسم الفلسفة الّذي تخرج منه وسعى لربط وشائج القربى بين عِلم الاِجتماع والفلسفة. لقد كان ينتمي مثل كثير من جيله، مثل الأستاذ «السعيد شيخي» رحمه الله والأستاذ «عمر لارجان» أطال الله في عمره، وغيرهم من ذلك الجيل الذين تحولوا من الفلسفة إلى عِلم الاِجتماع.
لقد كانوا جيلاً من الأساتذة الشباب الجامعيين، تأثروا بالمرحلة والتوجهات التي كانت سائدة في البلدان حديثة الاِستقلال وفي العالم الثالث، فقد شغلتهم مسألة التنمية والصناعة والتصنيع، فكانوا يرون الحداثة هي الصناعة، والتقدم هو التصنيع، فلا حداثة ولا تقدم خارج الصناعة والتصنيع، فوجدوا ضالتهم في عِلم الاِجتماع.
الأستاذ على الكنز، إضافةً إلى الدرس في عِلم الاِجتماع وإسهاماته الفكرية وإشرافه على الكثير من الدراسات والبحوث الميدانية حول الصناعة والتصنيع، ألقى بكلّ جهده الفكري وثقله العلمي من أجل خلق مدرسة جزائرية في عِلم الاِجتماع، وقد لمع وقتها قسم عِلم الاِجتماع بقيادة هؤلاء الأساتذة الشباب بخاصة في «عِلم الاِجتماع الصناعي» وهو ما جعل النظام وقتها لا يرتاح ويضع قسم عِلم الاجتماع تحت المجهر، بخاصة لما صدر كتاب «علي الكنز» خارج الجزائر حول «الاِقتصاد الجزائري» وهو كِتاب نقدي، وقد صدر باِسم مستعار «الطاهر بن حورية» الّذي لم يكن إلاّ علي الكنز. بعد رحيل بومدين وبداية نظام بن جديد والتحوّلات التي عرفتها الجزائر، كان علي الكنز من السبّاقين الذين نبّهوا إلى هذه التحوّلات وإلى ما هو قادم في مجموعة من المحاضرات والبحوث والدراسات التي نشرها في عِدة مجلات وصدر جزء منها لاحقًا في كِتاب «حول الأزمة». في هذا الكِتاب، وقبله كان يشرف على سلسلة كُتب «الأنيس»، بدأ علي الكنز الّذي لم يكن يومًا «دوغماتيا» ولا متصلبًا فكريًا، بدأ يتخلص من الكثير من المقولات القديمة بخاصة مع التحوّلات العالمية ومع «الغلاسنوست» و»البريسترويكا» التي تُوجت باِنهيار جدار برلين.
هذه التحوّلات البنيوية العالمية التي سقطت معها الكثير من السرديات وطرحت الكثير من الأسئلة جعلت علي الكنز الّذي كان منشغلاً بالصناعة وعالم الصناعة يبحث عن الأجوبة في الفلسفة وعالم الفكر وانكبَ على دراسة إسهامات الجابري ومحمّد أركون وهشام جعيط وعبد الله العروي وطيب تيزيني وحسين مروة، ومهدي عامل الّذي تعرف عليه بالمدرسة العُليا للأساتذة بمدينة قسنطينة. في هذه الفترة شغلته قضايا التاريخ والتراث والهوية والإسلام وكانت له إسهامات فكرية صدرت في كِتاب «حول الأزمة». لم يكن يخطر على بال عالم الاِجتماع وأستاذ عِلم الاِجتماع، أنّه سوف يأتي اليوم ويصبح رأسه مطلوبًا وأنّه سوف يخرج مكرهًا من داره ومن بلده، لا لشيء، فقط لأنّه عالم ولأنّه يُفكر ولأنّه يُنتج العِلم والمعرفة، خرج علي الكنز من الجزائر وهو يذرف الدموع، بخاصة بعد التصفية الجسدية لأصدقائه وزملائه منهم الرجل الطيب الأستاذ الجيلالي اليابس.
رفض علي الكنز أن يكون منفيًّا في فرنسا التي فتحت له ذراعيها وجامعاتها، وفضّل اللجوء إلى أشقائه في تونس، فقد يكون المنفى أرحم والغربة أقل وطأة على النفس بين أشقائه الذين اِستقبلوه بالترحاب وفتحت له الجامعة أبوابها، لكنّه لم يجد فيها الحرية العلمية قبل السّياسيّة وبعد تعرضه لمضايقات غير مباشرة من نظام «بن علي» أُجبر مرّة أخرى على الرحيل والمنفى، وبعدما ضاقت به السُبل وتقطعت، رحل إلى فرنسا حيث اِستقر أستاذاً بإحدى جامعاتها وحيث مات.