ثورتنا لا تسعها المنظومة المدرسية وحدها بل يُفترض أن تُجند لها إستراتيجية كاملة
في هذا الحوار، يتحدث الباحث الأكاديمي والناقد والمؤرخ الدكتور محمّد بشير بويجرة، عن ثورة التحرير ومدى حضورها في الكِتاب المدرسي وفي المنظومة المدرسية ككلّ. خاصةً وأنّ الكِتاب المدرسي أداة رئيسية لتلقين تاريخ الأمة للأجيال. كما يتحدث عن مدى نجاح النص المدرسي في تقديم صورة الثورة بكلّ أبعادها وحقائقها ووقائعها، وخلفياتها المعرفية والتاريخية كموروث رمزي يُلهم الطفل/التلميذ والطالب الجزائري ويقوي اِعتزازه الوطني وفخره بهويته؟ ومن جهة أخرى هل اِرتقى النص المدرسي إلى مستوى التبليغ الجيد لحدث الثورة بأبعادها الرمزية والمعنوية والبطولية. الدكتور بويجرة يرى أنّ ثورة التحرير في الكُتب المدرسية الجزائرية، تعيش حالة من الغربة وتعاني. مؤكداً أن ثورة مثل ثورتنا المجيدة لا تسعها في التقديم المنظومة المدرسية وحدها، بل يُفترض أن تُجند لها الدولة إستراتيجية كاملة من أدوات الاِتصال والتلقين والتبليغ المختلفة، زيادةً على اِنخراط الفضاء والمؤسسات الاِجتماعية بكلّ أطيافها. كما يتحدث عن شؤون وأمور أخرى ذات صلة.
* حاورته/ نـوّارة لحــرش
- الجزائر تعيش هذه الأيّام اِحتفالات ذكرى أوّل نوفمبر (عيد الثورة). برأيك كيف حضرت ثورة التحرير في الكِتاب المدرسي وفي المنظومة التربوية ككلّ. كيف كانت صورتها ومستويات أحداثها وتاريخها؟
* محمّد بشير بويجرة: إنّ القاصي والداني يعرف ما لثورة التحرير الجزائرية من سماقة ومن عظمة على جميع المستويات. ويبدو لي أنّ ذلك التعدّد في مستويات القوّة والصدق هو الّذي جعلها تمتد إلى أطراف المعمورة كاملة ولدى الغالبية الساحقة من سكانها. كما أجد أنّ ذلك الاِنتشار في مستويات التقييم ليس لدى الجزائريين فحسب، بل لدى الأمم والأجناس المُختلفة يُصَّعِب نوعًا ما من مهمة تقديمها على أحسن وجه وفي أحسن صورة من الشعب الجزائري الحديث العهد بالاِستقلال وبكيفية التعامل مع التراث ومع كلّ ما هو قيم وجميل ورائع ومُبهر. ولعلّ أولى دلائل هذا العجز نجده مُتمثلاً في فشلنا في كيفية تقييم ثورة التحرير إبداعًا وكتابةً وتسويقها سياسيًّا والحفاظ عليها، ثمّ تقديمها للأجيال اللاحقة، أدبًا وسينما ومسرحًا وتلفزيون، ناهيك عن تسويق قيمها عن طريق الإعلام وبواسطة سفاراتنا عبر عواصم العالم.
فشلنا في تقييم الثورة إبداعا وكتابة وتسويقها سياسيا و في تقديمها للأجيال الجديدة
أمّا الكارثة الكُبرى في كلّ ذلك فأجدها تتمثل في كيفيات تقديمها لفلذات أكبادنا في المدارس وفي الجامعات. وحتّى أبقى في ما تبتغيه منظومة الأسئلة المطروحة، والتي يشملها، كيف تمثلت ثورة التحرير المجيدة في المنظومة التربوية، وفي الكِتاب المدرسي خاصةً. فأرى بدايةً بأنّ ثورة مثل ثورتنا المجيدة لا تسعها في التقديم المنظومة المدرسية وحدها، بل يُفترض أن تُجند لها الدولة إستراتيجية كاملة من أدوات الاِتصال والتلقين والتبليغ المختلفة، زيادةً على اِنخراط الفضاء والمؤسسات الاِجتماعية بكلّ أطيافها، مِمَّا يجعلني أتصور كلّ ذلك وفق الاِفتراضات التالية: أولاً: موقف الوالدين من الثورة والتحدث عنها بإعجاب أمام أبنائهم عبر مختلف الأعمار والسنوات التعليمية وفي تعاملاتهم المختلفة. ثانيًا: تقدير مسابقات وجوائز يتنافس عليها الأطفال والتلاميذ والطلبة، لأنّ المُنافسة تخلق نفسيًا كومة من الحب حول الموضوع وتدفع إلى البحث فيه وإلى القراءة حوله. ثالثًا: اِعتماد النصوص الأدبية الفنية الراقية في تقديم ثورة التحرير، في الكُتب المدرسية وفي وسائل الإعلام، مِمَّا يدفع بالأدباء والفنانين إلى الاِشتغال على حقول الثورة وإبراز معالمها الإنسانية الخالدة.
- هل هذه العناصر كفيلة بتقديم الصورة المشرقة والمشرفة لهذه الثورة للأجيال المتعاقبة؟
* محمّد بشير بويجرة: يبدو لي أنّ هذه العناصر لا مناص منها لتقريب الصورة المشرفة عن ثورة التحرير للطفل/للتلميذ/للطالب، الذين يعيشون جميعًا تحت وطأة سيولة الواقع المُفترض بالوسائط الإعلامية الكثيرة، وهو عالم تتغلب فيه البطولة والقوّة وفرض الذات على المحيط، وهي العناصر التي تغري الفئات السابقة بتمثلها وبحبها، وبخاصة الأفلام السينمائية والتلفزيونية الراقية. أمّا عن تحيين ثورة التحرير في الكِتاب المدرسي فحدث ولا حرج، حيث يجب أن نأخذ عليه الملاحظات التالية: -على مستوى النص، نجد ثورة التحرير في الكُتب المدرسية الجزائرية تعيش حالة من الغربة وتعاني من وضع يُشبه كثيرا ذلك الإنسان المغضوب عليه من جماعة دعته إلى مأدبة رغم أنفها، أي وجوده غير مرغوب فيه لكنّه موجود على أية حال، حتّى لا يُلام أهل المناسبة بعدم دعوة هذا الشخص. وأجد تلك الغربة متجلية في صغر الفضاء المُخصص لهذه الثورة في الكُتب المدرسية، والّذي غالبًا ما يكون في أسطر أو صفحات قليلة جدا لا تُسمن ولا تُغني من جوع. وكان من المفروض أن تُدمج في البرنامج حصصًا لمادة القراءة وتُخصص فقط لثورة التحرير.
rوماذا عن مضمون النصوص؟ بمعنى آخر: كيف تجسدت هذه «الثورة» كمعطى نضالي وبطولي في النصوص المدرسية؟
* محمّد بشير بويجرة: مضمون النصوص غير معجب وغير مغرٍ بالقراءة من المُتعلم. كان يجب هنا أن تختار مضامين هذه النصوص وفق العمر الدراسي، فلا بأس أن تكون مضامين الكُتب المدرسية للتلاميذ الصغار تدور حول أعمال حربية قام بها الثوّار بواسطة وصف تلك المعارك وصفًا جميلاً مغريًا للصغار ودقيقًا في تفاصيل المعارك، لأنّ نفسية الطفل تحب البطولة والفعل والعمل الخارق للكائن والمفارق للمُتعارف عليه. ثمّ تختار مضامين نصوص مرحلة المتوسط بالمزج ما بين المضامين البطولية والمضامين الفكرية، وهكذا حتّى نصل إلى مرحلة الجامعة التي يجد فيها الطالب نفسه مُمتلئًا بمفاخر الثورة وبعجائبيتها.
ومن جهة الاِبتعاد عن كتابة النص الّذي يتحدث عن الثورة بأسلوب بارد جاف، بل يجب أن يُكتب بأسلوب أدبي شاعري فني فيه رواء، حتّى يشعر الطفل أو التلميذ أو الطالب كأنّه يقرأ نصًا روائيًا أو شِعريًا أو قصة قصيرة. وأعتقد أنّه بهذا الأسلوب نستطيع أن نتقاطع مع مخيالهم جميعًا، فيتلذذون هم بِمَا يقرؤون ونسعد نحن بتلقينهم أمجاد ثورتنا المجيدة. زيادةً على أنّ مثل هذه الأساليب تمتلك قوّة تبليغية رهيبة عن أحداث الثورة رمزيًا ومعنويًا وكذا الإشادة بمعالم البطولة فيها. وتلك مسألة اعتقدها مهمة جدا من الناحية البيداغوجية.
المؤرخ الجزائري الشاب أمام وضع مُعقد يتداخل فيه الاِنتماء العرقي والأيديولوجي
- هذا يقود إلى سؤال آخر ذات صلة، لكن عن نوع آخر من الكتابة. إنّها الكتابة التاريخية عند جيل الشباب. فكيف –برأيكم- كتب الجيل الجديد من المؤرخين الشباب، تاريخ الجزائر، بما فيه تاريخ الثورة؟ وهل هذا الجيل من المؤرخين لم يستطع أن يخرج من عباءة التاريخ الرّسمي ومن عباءة المؤرخين الأوائل؟
* محمّد بشير بويجرة: أرى بأنّ الجزائر البلد الوحيد في العالم المظلوم في تاريخه وذلك للأسباب التالية: تاريخ الجزائر ما قبل الإسلام كتبه الإغريق والرومان وفعلوا بالجزائر ما شاء لهم في تشويه الشخصية الجزائرية بداية من اِسم «البربر»، وقد تبعهم بعد ذلك كلّ المؤرخين في الغرب، حتّى أنّ فرنسا عندما اِحتلت الجزائر كانت تسعى إلى إحياء مجد وحضارة «روما». تاريخ الجزائر في العهود الإسلامية كتبه مؤرخون عرب ومسلمون اِجتهدوا في تاريخهم على إغراق الفضاء الجزائري ضمن الخريطة التاريخيّة العربية تارةً والإسلامية أخرى، مِمَّا جعل الفضاء الجزائري وما أُنتِج من منظومة تاريخيّة مهمة وقوية جدا لا يستقيم أمر المغرب العربي ولا الأندلس حسب ما روته المصادر التاريخية دون تنويه ودون الرفع من قيمة هذه المنجزات التاريخية، بل بالعكس إنّ الكثير منهم اِجتهد في تشريد عمالقة من الفكر والثقافة الجزائريين إلى مُدن وفضاءات غير جزائرية مثل «ابن رشيق المسيلي» الّذي يصر كلّ المؤرخين على نسبته إلى القيروان.
أمّا تاريخ الجزائر أثناء ثورة التحرير المجيدة، فأجد بأنّ كتابة تاريخ هذه الفترة الزمنية، وبخاصة ثورة التحرير المجيدة غاية في التعقيد بدايةً من لغة الكِتابة التاريخية، عربية فرنسية، التي أجدها ذات أهمية قصوى في صناعة خطاب تاريخي جاد ومتميز، لأنّ التاريخ في أساسه على الرغم من أنّه رواية لأحداث ولوقائع ضمن رؤية شمولية للشخوص فإنّه أيضا يمثل خطابًا لغويًا مهمًا جداً، لأنّ المؤرخ، حتّى وإن حاول أن يتمظهر بالصدق وبالحياد فإنّه يجد نفسه متورطًا في الاِرتماء ضمن أحضان أيديولوجية ما، وبخاصة أيديولوجية السوق والتجارة والشهرة.
إذا تقربنا من هذه الإشكاليّات فإنّنا نجد المؤرخين الشباب من الجزائريين أمام وضع مُعقد يتداخل فيه الاِنتماء العرقي والأيديولوجي وتتصادم على ضفافه الأهواء النفسيّة وتتعاوره مآرب ومصالح شتى يصعب تحديدها أو البوح بها في الوقت الراهن. ولعلّ من أبرز ما أشرت إليه ما نقرأه الآن في مذكرات المجاهدين وقادة الثورة من أحداث ووقائع قلما يتفق عليها اِثنان، حيث نلاحظ كثيرا، التقليل من البعض في صدق ما يرويه من وقائع الثورة تارةً، بل يذهب حتّى إلى تكذيب مشاركته في الثورة.
وحين أقول ذلك، لا أحسب أنّ كلّ هذا يحدث من تلقاء نفسه، بل يحدث تحت مظلات مختلفة الألوان والزوايا، ولعلّ مشكلة أرشيف ثورة التحرير المحجوز من طرف عدو الأمس يبرز رأس هذه المخبآت والمقاصد.
وفي هذه الحال أرى، حسب رأيي المتواضع أنّ كُتَّاب تاريخ الجزائر والثورة من الشباب يمكن أن يُنظر إليهم من زاويتين اثنتين هما: أوّلاً أنّ هؤلاء الشباب تتملكهم، بدون شك روح صادقة في كتابة تاريخ صادق ومعبر فعلاً عن الحقيقة التاريخية لمكانة الجزائر ضمن المنظومة الحضارية العالمية ومرجعية البحر المتوسط، لكن الأماني كبيرة والأيادي قصيرة، حين نجدهم يفتقدون إلى المصدر الحقيقي الصادق، وثيقةً أو أقوالاً وتدعيمًا ماديًا ومعنويًا.
ثــورة التحريــر تعيـش حالـــة عزلـــة في الكُتـب المـدرسيــــة
ثانيًا: أنّ هؤلاء الشباب أحسوا بعدم أهمية الكتابة عن تاريخ الجزائر والثورة من جميع الأطراف، حيث أعرف كثيراً من هذه الفئة كتبوا أشياء مهمة جداً عن تاريخنا الثقافي، لكن كتاباتهم لم تُثمن من طرف مختلف المؤسسات، حتّى أنّهم وجدوا لاعب كرة القدم الشاب يتقاضى مرتبات بالملايير ويتحدث عنه في اليوم عشرات المرات من طرف وسائل الإعلام الثقيلة، بينما هو يستجدي ليكسب قوت يومه.
أمّا في ما يخص التاريخ الرسمي، فأعتقد أنّه لم يكن للجزائر أبدا كُتًّابا للتاريخ الرسمي، لأنّه لو كان لنا كُتّاب وكتابة رسمية للتاريخ لما قحطت الساحة التاريخية الآن من المصادر ومن المراجع، ومن هنا لا أحسب أنّ الجزائر تكتب تاريخًا رسميًا الآن.
- تحدثت في جوابك السابق عن لغة كتابة التاريخ: (العربية والفرنسية). وأكدت أنّ «التاريخ في أساسه على الرغم من أنّه رواية لأحداث ولوقائع ضمن رؤية شمولية للشخوص فإنّه أيضا يمثل خطابًا لغويًا مهمًا جداً». لكن الملاحظ أنّ السِجال والصراع اللغوي في الجزائر، يعود ويتجدّد في كلّ مرّة. كيف تقرأ هذه الإشكالية؟ وكيف تنظر لقضية اللّغة في الجزائر وسجالاتها وصراعاتها وكذا التباسات الهُوية اللغوية؟
* محمّد بشير بويجرة: بدايةً، يجب أن نُقر صراحة بأنّ الجزائر دون غيرها من الدول تعرضت عبر تاريخها الطويل وحتّى الآن إلى كثير من خُطط فاضحة للعناصر التي يزعجها أن تكون الجزائر قوية وآمنة ومطمئنة. ولعلّ ما نلاحظه من سجال بين الفينة والأخرى بين بعض النُّخب في الجزائر، دون غيرها من دول العالم، حول «اللّغة» بينما في حقيقة الأمر هذه مسألة مفصولٌ فيها دستوريًا مثلنا مثل دساتير العالم، حيث إنّ الدستور الجزائري رسّم اللغتين الرسميتين للجزائر؛ اللّغة العربية والأمازيغية.
وتلك مسألة قد تفرض علينا طرح السؤال التالي: لماذا الجزائر وحدها يُطرح فيها هذا السجال دون غيرها من الدول العربية الأخرى؟ إنّ مسألة «اللسان» هذه قد بث فيها الدستور نهائيًا، وعلى النُّخب أن تعتد بذلك مثل غيرهم من النُخب في العالم، مع الإشارة إلى أنّ مسألة الكتابة والنقاش والحوار نجدها تتم في الجزائر بالألسن الثلاثة العربية والأمازيغية والفرنسية.
إنّ مثل هذه المعاينة ومثل هذه التجليّات التي تظهر بين الفينة والأخرى تُؤكد، بِمَا لا يدع مجالاً للشكّ، بأنّ هناك محركين لهذا الصراع المفتعل بعد أن فشلت كلّ المحاولات التحريضية الأخرى. وعلى كلّ معني ومهتم يسأل عمن يرصد الملايير من الأموال لنشر ولتقوية اللّغة الفرنسية عبر العالم؟ ويسأل عن سبب وجود المنظمات المنضوية تحت منظمة الفرنكوفونية.
وحتّى وإن حدث هناك نقاش حول حيثيات هذه المسألة فأتصور بأنّه يجب أن تنصب على الجوانب العلمية والتقنية التي تفيد البحث العلمي حتّى تعلمنا كيف نقرأ أرشيف تاريخنا الّذي كتبه الآخر بالصيغ التي أرادها. مع التأكيد على أنّ الألسن الأجنبية التي تفيد منها النُّخب الجزائرية ما أحوجنا إليها.
وفي هذا الخصوص أجد بأنّ تعلم الألسن القديمة مثل اليونانية والقرطاجية والبونية والرومانية أكثر أهمية في معرفة تاريخنا وقراءته من اللسان الفرنسي. فلما لا نتناقش ولا نتسابق نحو تلك الألسن فنتعلمها لنقرأ بها نصًا أدبيًا أو سياسيًا أو نُفكك بها شفرات كنوز الأمة الجزائرية التي ما زالت مدفونة تحت الرمال وفي الفيافي وفي المدافن. مع الإشارة بصفة قاطعة أنّ كلّ الفرنسيين الأُصلاء يستهجنون ويسخرون منا ونحن نتكلم لغتهم بعد أن أخرجناهم من وطننا العزيز مخزيين ومنهزمين.
لست أدري كيف لا تشمر نخبتنا المثقفة على مناقشة القضايا والمضامين المهمة المرتبطة بتاريخنا القديم والحديث لنأخذ منه العِبر، ولأنّه فيه كلّ ما يجمعنا وفيه كلّ مفاخرنا، ثمّ في نهاية الأمر سنبقى مصنفين جزائريين وأفارقة وعربًا في العالم الثالث.