مع ما أتاحته التكنولوجيا من تطورات ومستجدات في كلّ المجالات، تغيرت الكثير من العادات التقليدية ومنها عادات القراءة التي تغيرت وتنوعت واتسعت أيضا مع توفر الكِتاب بصيغ أخرى غير الورقية، -اِلكترونية أو رقمية- على وجه الخصوص. فكيف هي يا ترى علاقة الكُتّاب والأدباء والباحثين بالكِتاب الاِلكتروني (الرقمي)، والقراءة الاِلكترونية، في ظل اِنتشار الكِتاب الإلكتروني وسهولة تحميله وتسويقه وقرصنته، وهل الكِتاب الاِلكتروني بديلاً عن الكِتاب الورقي؟ أم مُكمِلاً له؟ وكم معدل الكُتب الاِلكترونية التي يخصصون لها وقتًا للمطالعة والقراءة في الشهر أو العام، مقارنةً بالكُتب المطبوعة ورقيًا، وما الميزة التي يجدونها في هذه الكُتب، وهل ستتواصل علاقتهم بها أم ستبقى القراءة التقليدية (الورقية)، كعلاقة أحادية غير قابلة للتشارك التكنولوجي. أم ستكون علاقة متجانسة وتشاركية مع الفِعل القرائي التكنولوجي/ الإلكتروني.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
حول هذا الشأن «القراءة: بين الفعل التقليدي والفعل الاِلكتروني»، كان ملف «كراس الثقافة» لعدد اليوم، مع مجموعة من الكُتّاب والباحثين، الذين تناولوا الموضوع من زوايا ووجهات نظر مختلفة لكنّها تلتقي في الكثير من النقاط ذات الصلة بالقراءة التقليدية المعهودة والرقميّة في ظل مستجدات الكِتاب الرقمي وتحوّلات الكِتاب الورقي.
لونيس بن علي : كاتب وناقد أدبي
الكِتاب الإلكتروني يُهدّد عادات القراءة فقط
ماذا نقصد بالكِتاب الإلكتروني؟ هناك فهمٌ خاطئ لهوية الكِتاب الإلكتروني، ففي الغالب نقصد به الكِتاب الورقي في صيغة PDF وهو نوعٌ من الكُتب التي تُوفّرها بعض مواقع القرصنة (دليل أنّ هناك وضعاٌ غير قانوني لعملية نسخ الكُتب إلكترونيًا، وبذلك عدم وجود اِعتراف قانوني بهذا المُسمى الجديد «الكِتاب الإلكتروني»)، في حين أنّ الكِتاب الإلكتروني هو شيءٌ آخر ومُختلف، أي هو نصٌ بهوية تقنيّة جديدة لا علاقة لها بالطبيعة الورقيّة للكِتاب الكلاسيكيّ، ومن طبيعة هذا الكِتاب أنّه تفاعليّ، تتدخل في تكوينه وسائطٌ أخرى مثل الصوت والصورة الثابتة أو المتحركة، مع إمكانية المساهمة حتّى في بناء النّصّ. هناك نوعٌ من الكُتب الإلكترونيّة التي تُسمى بـــEPUB وهذه الكُتب يمكن للقارئ مثلا اِنطلاقًا من تطبيقٍ خاص، تعديل حتى طبيعة الخط أو حجمه أو تغيير لون الصفحة، ثمّ إنّ هذه الصيغة الاِلكترونية تُمّكِن القارئ من البحث عن معاني الكلمات بمجرّد النقر عليها، بحيث يتصل الكِتاب مع شبكة الإنترنيت، وتحديدا بالمعاجم الإلكترونية المتاحة في الشبكة.أنا شخصيًا أتعامل مع الصيغتين، ولو أنّ صيغة PDF هي الأكثر تداولا عندي، ولا أنكر أنّ هذه الكُتب قد كانت مصدرا مُهمًا في أبحاثي، خاصّة إذا كانت الكُتب التي أحتاج إليها غير مُتاحة أو غير متوفرة، وبذلك لا أملك حلولا كثيرة إلاّ باللجوء إليها. ولأجل نجاعة أكبر، اِقتنيتُ لوحًا إلكترونياً من النوعية الجيدة، سهّلت أكثر عملية القراءة، بل ومكنّني من تحميل مكتبة بأكملها أحملها معي في كلّ تنقلاتي.
وأعتقد أنّي مع التجربة ألِفتُ القراءة من اللوح الإلكتروني، بل أحيانا أجده أكثر عملية في أبحاثي، بِمّا يُوفره من تقنيات تسهّل أكثر عملية القراءة، مثل التأشير على الفقرات والجُمل بألوان مختلفة، أو اِستفراد الصفحة التي أحتاج إليها.
لقد قرأتُ الكثير من الكُتب بصيغةPDF وبعض الكُتب القليلة بصيغة EPUB وكانت التجربة مُثيرة فعلا، لها إيقاعها الخاص، فرضت عليَ طقوسًا جديدة للقراءة، مثلا هناك كُتب قرأتها في ظُلمة غرفة النوم.
أعتقد بأنّ الكِتاب الإلكتروني يُشكل تطورا للكِتاب الورقيّ؛ فالكِتاب قد تطوّر عبر الزمان، فما الّذي يمنعه اليوم أن يتخذ شكلا جديدا اِستجابةً لرّوح العصر. لا أفهم الذين يرثون الكِتاب الورقي، وينظرون إلى الكِتاب الإلكتروني بنظرة المتهم أو المُذنب، فهذا التمييز راجعٌ فقط إلى خوف البعض من عادات القراءة التي تدرجوا عليها، في حين أنّ كلّ شيء في الحياة المعاصرة يخضع للتطوّر. وأتصوّر بأنّ الكِتاب الإلكتروني قد يكون بديلا مستقبليًا للكِتاب المدرسي مثلا، فلماذا مثلا يُفرض على التلاميذ حمل أثقال ترهق كاهلهم من الكُتب في حين يمكن توفيرها إلكترونيًا، بتوفير لوحٍ إلكترونيّ لكلّ طفل، فبذلك نُخفف الأثقال على التلاميذ، ونُخفف الميزانية على المؤسسات نظرا للعدد الهائل من الكُتب التي تُطبع سنويًا وأغلبها يتعرض للتلف.
بوداود عميّر: كاتب ومترجم
للكِتاب الورقي سحر ورائحة ومتعة وللإِلكتروني دهشة التحميل
قبل اِنتشار الإنترنيت، وقبل حلول الكِتاب الاِلكتروني وظاهرة القرصنة وتحميل الكُتب؛ كان للكِتاب الورقي مكانته الأثيرة، كنا نقرأ بشغف كلّ شيء نجده بين أيدينا، شجعنا في ذلك ربّما أسعاره المعقولة، التي كانت في متناول الجميع؛ ومع ذلك كنا نشعر أنّ المُتاح من الأعمال في المكتبات لا يشفي غليلنا، ولا يحقق في داخلنا مُتعة القراءة. لم تكن الاِختيارات مُتاحة لنا، كنا نبحث عبثًا عن عناوين أعمال بعينها، نحلم بقراءتها، لكن دون جدوى. يومها المكتبات كانت موجودة بكثرة، وفي كلّ مكان، مكتبات خاصّة وعموميّة، ومكتبات تابعة لهيئات حكوميّة، ومراكز ثقافيّة ومؤسسات تربويّة، لكنّها فارغة من الكُتب الجيّدة والجديدة، تنقصها تلك الأعمال التي كُنا نتمنى بل نحلم بقراءتها، ناهيك عن الكُتب الممنوعة لأسباب سياسيّة أو دينيّة. من حسن الحظ كانت المجلات الورقيّة مُتوفرة في جميع المكتبات الجزائريّة، بِمّا في ذلك المُدن الداخليّة، كانت نافذتنا التي نطلّ من خلالها على ثقافة العالم، أغلب عناوين المجلات العربيّة الثقافيّة كانت تصلنا، وليس جميعها؛ كانت تبدو كافية لأخذ فكرة جيّدة عن جديد الكِتاب في المنطقة العربيّة والعالم؛ غير أنّنا عندما كنا نطالع عبر صفحاتها نقدا أو دراسة أو تلخيصًا لكِتابٍ جديد أو رواية جديدة، صدرت حديثا، لهمنغواي مثلا أو ماركيز، نتحسّر قليلا، ونُصاب بِمّا يشبه الخيبة لأنّنا ببساطة، سوف لن نعثر عليها في المكتبات. ثمّ بعد ذلك غابت المجلات تمامًا، توقف اِستيرادها، أمام اِستغراب الجميع؛ ولكن لماذا؟ تساءلنا في حسرة، دون أن نجد إجابة؛ هكذا ساورنا إحساسٌ ما، كأنّنا نعيش في عالمٍ ثقافيّ قاحل، الأمر الّذي جعل من الثقافة الجزائريّة، عالمًا مغلقًا ومتخلفًا، أو كما قال الكاتب الراحل عمار بلحسن «لا يعرف أو يشارك في تحوّلات أو يساهم في نقاشات أو حوارات، ولا يسمح بأي موازاة أو مقارنات أو مقاييس، ويخلق نماذج وشخصيات ثقافيّة وأدبيّة، تملك تضخّمات عن نفسها وإبداعها».
الآن، مع تطوّر شبكة الإنترنيت واِنتشارها، جميع الكُتب التي كنا نتمنى ونحلم بقراءتها صارت مُتاحة للتحميل مجانًا، من خلال عشرات المواقع الاِلكترونية المُتاحة على الشبكة، سواء عن طريق القرصنة أو إتاحتها مجانًا من طرف الناشر نفسه. هكذا كان بإمكاني العام الماضي مثلا، أن أقرأ الروايات الستّ التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة بوكر، وأن أحمل فكرة حقيقية عنها، وهو أمرٌ كان من سابع المستحيلات أن يتحقق لولا خاصيّة التحميل تلك؛ الأمر نفسه بالنسبة للصحف والمجلات العربيّة أو الفرنسيّة، صار بإمكانّنا أن نُطالع أعدادها الجديدة قبل حتى أن تصل الأكشاك أحيانًا؛ وهو أمرٌ لم يكن متاحًا من قبل ولا حتّى مجرّد تخيّله. هكذا ما حُرمنا منه لسنوات عديدة، عندما تمّ توقيف اِستيراد المجلات العربيّة، اِسترجعناه من خلال شبكة الإنترنيت.
دهشة اِكتشاف التحميل، أوّل مرّة، جعلتني أقضي كلّ الوقت في تحميل الكُتب التي كنتُ أحلم بقراءتها؛ هكذا حمّلت عشرات الأعمال، القديمة والمعاصرة؛ لكنّني سرعان ما وجدت نفسي أمام مُعضلة القراءة العابرة، أكتفي بقراءة أجزاء قليلة من الكِتاب، لأنتقل لقراءة عملٍ آخر، ومن النادر أن أُنهي قراءة عمل ما، أو أعيد قراءته مرّة ثانية كما كنتُ أفعل مع الكِتاب الورقي؛ لم يلبث مع مرور الوقت أن بدأت أختار بعناية ما أقرأ، وأكتفي بتحميل ما أقرأ فقط، بعيدا عن التراكم. ومع ذلك أفضّل الكِتاب الورقي، عندما يُتاح لي فحسب، اِختيار الكِتاب الّذي أرغب في قراءته، ذلك لأنّ للكِتاب الورقي رائحة وحركة ومتعة وجمال.
محمّد بكاي: كاتب وباحث أكاديمي
القرصنة أدت إلى عزوف عن شراء الكتاب
نشهدُ في العقدين الأخيرين طفرةً تقنيّةً هائلة أرخت سدولها على جميع القطاعات والحقول: الاِقتصاديّة والاِجتماعيّة والثقافيّة طبعًا. والكِتاب –بدوره- تأثّر بـموجة التقدم التقنيّ التي اِجتاحت دعائمه الماديّة (الورق، الحبر، المجلدات،...) ليندمج الكتاب طواعية مع الوسائطيّة الجديدة (صفحات الويب، برامج الأدوب، كُتب الكندل وغيرها) حيث اِستثمرت شركات الحوسبة المدّ الرقمي وتداعياته الهائلة في عصرنة الكِتاب لتكون عملية الوصول إليه سهلة وسلسة. هذا الاِكتساح الرقمي جعل خاصة الناس أو عامّتها في أريحية من أمرها أثناء الاِطلاع على الجرائد أو الكُتب الإلكترونية لسهولة تحميلها وحملها في الأسفار أو العمل، فالكِتاب الورقي عملي وعصري بطبعه وهو ما يجعله مُميزاً لكنّه بحاجةٍ إلى ضبطٍ وتقنين حتى لا يتراجع الإقبال على الكِتاب الورقي.
بالنسبة لي شخصيًا أتراجع قدر الإمكان عن تحميل الكُتب الصادرة حديثا (أقل من عشر سنوات) لأنّ ذلك يضر بشكلٍ كبير باِقتصادية دار النشر التي دفعت تكاليف الطباعة أو حقوقًا مادية للمُؤلف إلى جانب حقوق الترجمة وأتعاب المُترجم وهذه الكواليس لا يعرفها إلاّ ناشر أو مؤلف. كما أنّ الـمظهر المُقرصن للكِتاب المطبوع يضر أيضًا بجمالية الكِتاب الورقي الّذي لا يُضاهي جماله وأنسه ما جاد به صنوه المُزيف. فلورق الكُتب نكهة خاصة ومُميزة تحفظ قدسيّة الكِتاب الّذي يشعّ رونقه وحميميته الأخّاذة في حنايا التصفح والاِنغماس في عوالم الأدب وتفاصيل التاريخ أو دقائق العِلم وكثافة الفلسفة، هذه الفانتازيا التي يهبها لنا الكِتاب الورقي لا تزخر بها شاشات الحواسيب أو الألواح الذكيّة والمتاجر الإِلكترونيّة. لذلك أرى أنّ الكِتاب الإِلكتروني يظل مُكملاً لفوائد الكِتاب الورقي ومتمّمًا لها، له فوائد لا ينكرها إلاّ جاحد خاصة في سهولة الوصول إليه وتحصيله كما ذكرت؛ حيث يمكن للقارئ أو الباحث الحصول على نسخة رقميّة من الكِتاب بكبسة زر واحدة (سواء من المتاجر الإلكترونية أو مواقع القرصنة..)، بينما الحصول على نسخة ورقيّة لا يخلو من متاعب البحث المضني، حيث يجعل الفرد يقطع مسافات متحملا نفقات السفر بين الأوطان للحصول على مصنف يهمه.
لكن وجب التأكيد على سلبيّة قرصنة الكُتب التي تجتاح دور النشر وعالم الكِتاب في العالم العربيّ فكثير منها يهددها شبح الإغلاق نظرا لعزوف القارئ العربي عامة عن شراء الكِتاب الورقي في ظل توفر نسخة مقرصنة بثمن أقل أو مجاني حتى. نحتاج إلى إرادة قوية في محاربة سرطان القرصنة أو تقليص دوائره، وهو ما فعلته الدول المتقدمة التي قطعت أشواطًا في تقنين هذه التجارة الرقميّة من خلال تشديد الرقابة على هذه المواقع والمدونات الإِلكترونية أو حظرها، فحال هذه الأخيرة في عالمنا العربي تجاوز كلّ تصور؛ فلم يتم الاِكتفاء باِستعمال فردي للكِتاب المقرصن بل عرضه باِستعراء أمام مُدمني تحميل الكُتب بطريقة فظة تعكس جهلا شرها يشوه التعامل المناسب مع الكِتاب الورقي. لذلك تعاني دور النشر حاليًا تحديًا حقيقيًا أمام شبح القرصنة التي اِتّسعت دوائرها في ظل تراجع المقروئية وتدني دخل الأفراد في أغلب البلدان العربية فأصبح تحميل الكِتاب هو الحل الأنسب أمام الجميع.
في ظل غياب -أو شبه غياب كلي- لأنظمة مراقبة رادعة لقرصنة الكِتاب، نحتاج اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى اِبتكار أخلاقيات رشيدة لتنمية الحس بالقيمة الجماليّة لروح الكِتاب الورقي وغرس ذلك في الأفراد، لأنّ المعرفة بحاجة إلى بذل الجهد وإنفاق المال، فليس كلّ من يمتلك مكتبة خاصة في منزله قد تساقطت عليه من السّماء، فهو كابد وادّخر وأنفق بسخاء لأجل الحصول على الكُتب، لينتفع به وينفع غيره ويظل أثرا بعد رحيله. بعكس الكِتاب الرقمي الّذي يظل أثيريًا، هشًّا سريع العطب والتعرض للتلف والضياع.
الصدّيق حاج أحمد الزيواني: روائي وأكاديمي
الورقي يتربع على عرشه
تبدو علاقتي بالكِتاب الرقمي؛ باردة.. لا أدري كيف؟ ولماذا؟.. كلّ الّذي أعيه وأدركه تمامًا، أنّي كائنٌ ورقيّ، وعلاقتي بالورق قديمة وغرامية، ولربّما ترسبات وتراكمات علاقتي به، جعلتني عبداً للتوريق مع مادته القرائية، ولربّما ينضاف إلى ذلك، أشياء روحيّة من توابل خشخشته، وبهارات ملمسه، ربّما..
لقد كثُر الحديث في السنوات الأخيرة، عن مُزاحمة الكِتاب الرقمي للكِتاب الورقي؛ غير أنّ زيارتي الأخيرة لأوروبا، ورؤيتي لقناعة الإنسان الغربي بالكِتاب الورقي، رغم اِنفجار وتكاثر مزارع الكِتاب الرقمي عبر وسائط الميديا، زاد من قناعتي بروحانيّة الورق، وبقاء هذا الأخير متربعًا على عرشه.
كثيرا ما حاولتُ مع نفسي، قراءة الكُتب الرقمية، ولم أفلح.. حتى المفقودة منها ورقيًا، أو التي أجد حاجة بحثية مُلحة في قراءتها، ففي الغالب بمثل هذه الحالات الضرورية الملزمة، أعمد إلى نسخها على طابعتي الشخصية، إذ غالبًا لا أتجاوز أكثر من خمس صفحات إلكترونية، لشعوري بالملل القرائي الضاجر، والّذي غالبًا يصرفني مُكرهًا عن مغنمي القرائي المرجو.
ثمّة شيءٌ آخر، يمكن الاِستعانة به في تأصيل وتنزيل مرجعية الكِتاب القرائي، وهو أنّنا عندما يُطلب منا صديق مادة قرائية، فأوّل ما يُوصي به، ألاّ تكون رقميّة، وأنّه يُفضل القراءة الورقية، إمّا بإظهار تعب العين، أو عدم تمكنه من مواصلة القراءة الطويلة للنص، والإبحار فيه.أمّا من حيث العلاقة التكاملية التشاركية، فلا أحد ينكر، إسهام الكِتاب الرقمي في إشاعة المعلومة، لاسيما المفقودة منها ورقيًا، فهو أحد مخرجات تكنولوجيا الميديا والمعلوماتية، فقد سمح هذا الأخير، أن تتلاشى الحدود، وتُزال الرسوم الجمركية، عن وصول المعلومة بأسرع وقت ممكن، لذلك لا أرى، علاقة تخاصمية بين الكِتاب الورقي وشقيقه الرقمي، إنّما الأمر يرجع للمُتلقي والقارئ، ونفسيته منهما.شخصيًا تكاد تكون عودتي للكِتاب الرقمي، نادرة ومحدودة جداً، لعدم شعوري بالمُؤانسة والمتعة، التي أجدهما مع الكِتاب الورقي، رغم كُلفة شراء الأخير، وإتاحة الرقمي بالمجان، وكبسة تحميل غير شاقة.
إنّ البحث عن جماهيرية أحدهما على الآخر، أعتقد أنّها محكومة بالجانب الشعوري النفسي الداخلي، فالكِتاب كالصديق، وطول العلاقة واِستحكامها، يُؤثر بشكلٍ لاواعيّ، في اِرتباط القارئ والمقروء، وعدم اِنفكاك أحدهما عن الآخر.
محمّد بن زيان: كاتب وباحث
يظل الكِتاب الإلكتروني مُكملا للكِتاب الورقي والقراءة
كلّ زمن يفرز خصوصيّاته، وكلّ ما يُفرز يبدأ صادمًا ثمّ بالتواتر يندرج ضمن ما يُدرجه ضمن العادي. ذلك ما يمكن قوله عن الكِتاب الإلكتروني الّذي هو مسألة صارت كما كتبَ عبد الله الغذامي: «مُلحة وتحمل تحديًا علميًا وثقافيًّا، ومن شأن الذهن البشري أن يتفاعل بسرعة مع المتغيّرات خاصّة إذا كانت في الوسائل، والمُتغيّر هو مُتغيّر وسائلي، أي أنّه ليس تغيّرا في النسق نفسه، وهذه مفارقة حسمتها الثقافة منذ زمنٍ بعيد، حيث صرنا نرى باِستمرار أنّ المكتشفات المُتجدّدة والمُتطوّرة لا تفعل ما يكفي لتغيير الأنساق الثقافية».
وبالتالي حسب الغذامي، هذه الوسائل «لن تشفي الإنسانية من أنساقها القديمة بل ستعزز هذه الأنساق». القراءة الرقميّة مُتصلة بالتحوّل التاريخيّ الّذي دخل طورا بلور بُعدا ثالثًا تجاوز ثنائيّة الواقعي. المُتخيّل هو البُعد التفاعلي، والقراءة الرقميّة هي قراءة متصلة بالتفاعلية. فالقراءة الرقمية مرتبطة بجينيالوجيا النُظم الخطابيّة أو بعبارةٍ أخرى هناك رحلة تمثل تقويمًا تاريخيًا للخِطاب من الشّفاهيّة إلى الكتابيّة بأطوارها المُختلفة المُتوّجة بالورق والطباعة إلى الرقميّة، والمرحلة الرقميّة تُشبهُ كما تكتب فاطمة البريكي: «الاِنتقال من حضارة المُشّافهة إلى حضارة الكتابة قديمًا».
كان للوسيلة تأثيرها في تشكُلات النصّ فظهر ما يُسمى بالنصّ المترابط، عند سعيد يقطين. أو المُتفرع حسب حسام الخطيب، والنص الشبكي... وبالتالي ظهرت أفاقًا جديدة في الكِتابة وفي التعاطي النقدي مع ما يُكتب رقميًا.
أمّا علاقتي بالقراءة الإِلكترونية، فكانت مرتبكة، إذ بداية كانت صعوبة في الاِنتقال من الورقي إلى الرقمي، لكن بالتعوّد صرت أقرأ الورقي والرقمي معًا. لكن قراءة الكِتاب الرقميّ لا تصل بعد في حالتي إلى تجاوز الورقي ولا إلى الحلول محله.
وفي الحقيقة غالب القراءات الرقميّة اِضطرارية وليست اِختيارية، فهناك عناوين يتعسر تحصيلها ورقيًا، تعسراً يرجع لفقدانها أو لاِرتفاع أسعارها. وبناءً على ما ذُكِر يمكن اِعتبار الكِتاب الإلكتروني مُكملا للكِتاب الورقي. وهناك عاملٌ آخر يُضاعف أهميّة الكُتب الرقميّة وهو تحريرنا من ضغوط المكان المُخصص للكُتب الورقيّة وضغط التنقل بها.
والظروف هي التي تُحدّد الوقت المُخصص لقراءة الكِتاب الورقيّ أو الرقميّ، ففي حالة وجود الورقيّ يكون هو المُفضل والمحبّذ وفي حالتي وبسبب غياب عناوين ورقيّة كثيرة يتضاعف حجم الوقت المُخصص للقراءة الرقميّة. طبعا ما زلتُ أجد صعوبة في القراءة الرقميّة لكنّني أواصلها وأروض نفسي على التكيّف معها وهناك كتبٌ تُقرأ بيسر وأخرى بعسر وربّما الأمر يرجع لكيفية تصوير النصوص وعرضها. وميزة الكِتاب الرقميّ أنّه يمكن أن يُرافقني بدون ضغط الحمولة.
وبالتأكيد ستتواصل العلاقة بهذه النوعيّة من الكُتب، وأحرص على اِمتلاك حتّى العناوين التي أمتلكها ورقيًا لأنّ العصر يفرض اِكتساب مكتبة إلكترونيّة مُكملة للمكتبة الورقيّة. وأعتقد أنّ القراءة الإلكترونية تُعزز الورقيّة، وستكون التشاركية حاضرة، حضورا يفرض نفسه ويستدعي التمرن على اِستيعابه وتنميته بما يكثف خصوبة القراءة. وللقراءة الرقميّة ميزات كثيرة منها ما تُوفره التقنية من التعامل مع النصّ وهيكلته. وأعتقد أنّها صارت أمرا لازمًا ومُلازمًا لكلّ مرتبط بالكتابة والبحث.
عابد لزرق: ناقد وباحث أكاديمي
لا يمكن للكِتاب الرقمي أن يُزيح الورقي لكنّه ضرورة
في سبيل الموازنة بين فِعل قراءة تقليدي وفِعل قراءة إلكتروني يجب التفرقة أوّلاً بين خطابين اِثنين، وبين خصوصيات وميزات كلّ خطاب أو شكلٍ قرائيّ؛ الأوّل بصري متوارث يجسّد له الكِتاب الورقي، والآخر تشاركي حديثٌ بصريّ أيضا، وسمعي في حالات أخرى (كالكُتب المسموعة من روايات وغيرها)، وله من الميزات التفاعلية التكنولوجية ما يُميّزه عن الأنماط الموروثة للقراءة والكتابة، وبالتالي طُرق تسويقٍ واِستهلاكٍ جديدة بوصفه مُنتَجًا ثقافيًّا رقميًّا، وبوصف الشكل الأوّل مُنتجًا ثقافيًّا تتحكّم فيه طُرق التوزيع وأشكال القراءة التقليدية المعهودة.
والسؤال المُلحّ هو في مدى قُدرة المُستهلك والمُتلقّي/القارئ على التماهي مع هذه الأشكال الجديدة للكِتابة والكِتاب، وفي مدى تفاعل المجتمع القرائي معها ومجتمعِ الكتابة بِمّا يترتّب عنه من آليات وشبكات توزيع تؤثّث مشهداً كاملاً يبتدئ من فِعل الكتابة، فالنشر، فالتوزيع والتسويق. وإن كُنّا معنِيّين هنا بسؤال القراءة والمُطالعة في ظلّ اِنتشار مثل هذه الوسائط التقنيّة الجديدة وطبيعة علاقتنا بها وبفِعل القراءة عمومًا.
إنّ المجتمعات البشرية دائمة التحديث وتتطوّر باِستمرار، وبالتالي تتطوّر أشكال التواصل والخطابات الإنسانية فيها، والأشكال الجديدة لا تُلغي، بالضرورة، كلّ ما ورثناه من أنماط تقليدية، بل يحدث كثيرا أن تتجانس هذه الأنماط وتتشارك بِمّا يُتيحُ للمُتلقّي التماهي مع ما ينسجمُ معه وما يُناسبه خلال عملية التلقّي والتفاعل. فعلى سبيل التمثيل نجد أنّ شبكات التوزيع السينمائية العصرية لم تُلغِ شغف اِرتياد دور السينما من طرف المشاهدين الأوفياء للشاشة الفضيّة، ولا التصوير الفوتوغرافي الرقمي، أو ما يصطلح عليه حاليًا بعصر السيلفي، قد ألغى فنّ الرسم أو النحت وأزاحهما من الوجود، وإن كانت هذه الأشكال المُستحدثة قد زاحمت التقليديّة وسيطرت عليها لمتطلّبات عصر الرقمنة وخصوصياته، والكِتاب الورقي مثله مثل بقية هذه الأشكال لا يمكن للكِتاب الرقمي أن يُزيحه بسهولةٍ من الوجود بدليل اِستمرارية نشره وإقبال الناس عليه واِقتنائه وقراءته، وبنوعٍ من المُفارقة أستعير من «ألبرتو مانغويل» مُقتطفًا من حوار صحفي له مع صحيفة بريطانية قائلا فيه في هذا الشأن: (كنتُ في قمة السرور حين قام بيل غيتس قبل عددٍ من السنين بكتابة كِتاب يتنبأ فيه بموت الورق، من ثمّ قام بطباعته على الورق. أعتقد أنّ ذلك يقول الكثير).
ومع ذلك يبقى تعاملنا مع الكِتاب الإلكتروني ضرورةٌ حتمية في عالمٍ حديث مُترابط ومُجتمعات رقميّة عَبْر-مكانية، وبوصفه بديلاً عصريًّا يُسهل الوصول إليه مُقارنةً مع الكِتاب الورقي خصوصًا في مجتمعات مثل مجتمعنا المحلّي مجال النشر فيها، وبالأخصّ توزيع الكِتاب، هو عملية تشُوبها نقائص كثيرة بِمّا يُعيد طرح إشكالية علاقتنا بالكِتاب الورقي على الدوام. إنّنا نتكلمُ هنا عن وسائط قراءة مُستحدثة تتطلّب اِستراتيجيات قرائيّة جديدة وتعاملاً براغماتيًّا معها في ظلّ ندرة الكِتاب الورقي في أحيان كثيرة، وإن كانت هذه الكُتب الرقميّة تطرحُ أيضا مجموعة إشكالات أخرى مُرتبطة بمسائل مثل قرصنة الكِتاب وحقوق النشر وإيرادات دور النشر التي يُشكّل لها هذا الأمر مَغصًّا دائمًا بالأخص في مجتمعات تقليديّة مازالت طرق التوزيع فيها والتسويق تعتمدُ بالأساس على كلّ ما هو ورقي كلاسيكي.