* ياسين سليماني
منذ أن صمم ديفيد وارن جهاز تسجيل البيانات الجوية المعروف بالصندوق الأسود عام 1956 ومجموعة التطويرات التي أُحدثت عليه وصولا إلى الدقة الشديدة التي صار يتميز بها استطاع العالم أن يتخلص من أكثر من 75 % من المشكلات التي تتعرض لها رحلات الطيران وبفضل التعلّم من الأخطاء والهفوات التي كانت تصاحب الرحلات وتؤدي إلى وقوع الطائرة صار السفر عبر الجو أكثر الوسائل أمانا. يعرف من يطلع على سيرة صاحب الاختراع أنّ الجهازَ كان مسألة تحدٍّ وجودي لديه، فقد قُتل والده في حادث تحطم طائرة في أستراليا قبلها بسنوات.
استلهم الكاتب ماثيو سايد الفكرة التي يقوم عليها هذا الجهاز وحرّر كتابه «عقلية الصندوق الأسود» Black Box Thinking، وهو ينطلق من سؤال يبدو بسيطا: لماذا لا نستفيد من المبدأ الذي يقوم عليه الصندوق الأسود ونطبقه في حياتنا اليومية فنتعلم من تجارب الفشل التي مررنا بها، نحلّل الأسباب التي أدت بنا إلى السقوط ونشرّح العوامل التي تسببت في النتائج غير السعيدة حتى نتجنب مثيلاتها في بقية حياتنا؟
يحاول ماتيو سايد أن يجيب عن هذا السؤال بعبارة سريعة: الاعتراف بالفشل وإبداء الرغبة في التعامل معه، هو ما يشجع على النهوض من الرماد
لماذا نعتبر أن الفشل في أعمالنا أو علاقاتنا وصمة عار يجب أن نخفيها عن أنفسنا ولا نصرح بها أمام مرآة أنفسنا فضلا عن أن نعترف بها أمام غيرنا؟ المشكلة التي تصادف أكثرنا أنّ الاعتراف بالفشل قد يكون نقطة قوة لخصومنا ضدّنا. إنّ العلاقة التي يربطها الإنسان مع الفشل تحول دون تقدمه، تعيق أي خطوة نحو النجاح كما أنها بشكل غير مبالغ فيه تدمر الحياة المهنية والشخصية مع أننا نزعم أننا ننفتح على التعلم ولا ندعي أننا ملاّك للحقيقة ولا للمعرفة الكاملة. يقول المؤلف لكنَّ –مع هذا -رؤيتنا لها عادة ما تكون ضبابية.
تختلف كتابات ماتيو سايد عما يمكن أن يعتبره الكثيرون كتابات فاست فود امتلأت بها المكتبات بما يسمى بالتنمية البشرية، صحيح أن الكثير من العرب اغتنوا من وراء الدورات التدريبية التي يقيمونها هنا وهناك، وهي لا تخرج في أغلبها عن تجميعات لما سبق تأليفه في أمريكا وبريطانيا خاصة وتحولت إلى بضاعة رائجة في سنوات قليلة غير أنّ ما يكتبه ماثيو سايد مع عدد من زملائه ينطلق من تجارب واقعية مؤسسة ولها جدارتها. فإلى جانب تعويله على قراءة جيدة للعلوم المختلفة نفسا واجتماعا وتاريخا فهو يراكم قدرا هائلا من قصص الأفراد والمؤسسات التي تبنّت عقلية الصندوق الأسود بنجاح واضح. أهمية هذا الكتاب في المنهجية التي تساعد على الوصول لأداء رفيع المستوى بتعبير الكاتب ووسيلة لإيجاد الحلول في هذا العالم الذي يشهد تغيّرات متسارعة ومعقدة في مجالات الأعمال والسياسة والرياضة وسواها.
لهذا الكتاب أيضا تأصيله الفلسفي، إلى جانب الأمثلة الكثيرة المأخوذة من الوقائع اليومية والمشاهدات العيانية، إنه يتقاطع مع كتابات فلاسفة الوجودية، وتبدو ظلال سارتر في كتابه الأشهر «الوجود والعدم» قائمة، فالتفاعل بين الذات ونفسها، أحوالها ونزواتها، وإرادتها الحرّة التي تصطدم مع عوائق تمارسها ترسبات الماضي ومحاولات سارتر في التنبيه إلى قوة الأنا في تجاوز تحديات النفس والمحيط والإمكانيات الوجودية الهائلة التي أشار لها في قلبه لمعنى «الماهية السابقة للوجود» إلى «الوجود السابق للماهية» الذي أسهبَ بجديّة مفرطة في الحديث عنه في كتابه المذكور، التعامل مع الفشل بدلا من الخوف منه، يشبه ما يقوله سارتر في معنى الخجل، إننا نخجل لأنّ هناك «آخر» يترصدنا ويقف في مواجهة ذواتنا، يترقب ويقيّم أفعالنا ويضع ذاته كقوة قادرة على ممارسة الحكم علينا، الفشل أيضا يمارس أيضا الفعلَ ذاته، فالفشل لا يُعرف كقيمة سلبية إلاّ لوجود مقارنة مع الآخرين، التي تضعنا كذوات هشّة وذاوية قابلة للانكسار. يشجّع سايد في كتابه على تخطي مفهوم الهشاشة والقابلية للانكسار بإعادة توصيف تلك الخيبات والأخطاء والهفوات الممتدة في تاريخنا السابق وجعلها قوة دفع للأمام. إنّ الشجرة الميتة التي لا حياة فيها قد تتحوّل إلى حطب، والحطب وقود يدفع السفينة للإبحار إلى الوجهة المختارة. إنّ ماثيو سايد يستوعب هذه الإشارات الفلسفية التي نجدها عند فلاسفة كسارتر وغيره ويقولبها بما يتلاءم مع كتاب موجّه لغير طبقة أو فئة معيّنة. إنه كتاب بالتعبير النيتشوي «كتاب للجميع ولغير أحد».