الدكتور اليامين بن تومي
زمنية الوهم:
هل أفقنا من وهم الحدث؟ لنَعُودَ إلينا فَنُراجع ما تعرضنا له في عُمق هذا المشروع الكبير الّذي يُسميه البعض تجاوزاً حداثة، ربّما يمنحنا الوهم أن نسترسل بعيداً في محاولة تأويل إنسيتنا العربية والبربرية داخل الفضاء المتوسطي، ولكن علينا أن نفهم أنّ تأويليّة الوهم لفَّت أعناقنا بربطات عُنق لِمَا يزيد عن قرن من الزمان، إنَّنا في عُمق هذا الوهم لا نجد أملاً في أنّه بإمكاننا أن ننخرط في عُمق هذا السياق الكوني فنضيف إليه ونحن مفلسون.
فماذا يفعل المُفلس إلاّ الاِستدانة؟ ليس أمامنا من حلول في المدى المنظور إلاّ أن نستدين من الغرب، ونستلف منه علومه، لنتجاوز حالة العطالة التي نعيشها، إنّها ربطة عُنق أخرى تُكبل مجتمعاتنا، وتجعلها تعيش حالة الشخص المُحال على الإعدام، لا أجد في توصيف هذه الحالة إلاّ تلك الرمزية الواضحة حين تمَّ إعدام الفحل العربي/رمز الثقافة العربية في صورة الزعيم "صدام حسين"؛ فالثقافة العربية تعيش وضعية التهديد بالقتل والإفناء لأنّ المخانق تشتد حول العُنق العربي من حالات التأزيم المُتوالية التي يتعرض لها هذا الفضاء الحيوي.
نحن أمام معضلة حقيقية في أن نكون حداثيين مِمَّا يَتيَّعن أنّه حداثة حَقَّة، فهل هناك فاصل داخل هذا الوهم بين الحداثة الحقَّة والحداثة المنسوخة أو المشوهة/المزيفة؟ لأن تكون حداثيًا معناه أن تأخذ بأسباب وشرائط الحداثة كلها دون تأويل، فالتأويل هو ما يُعمِّقُ جرح تصورنا للحداثة نحو ما فعل طه عبد الرحمان مثلاً في وصفه للحداثة أنّه في مقدورها أن تكون إسلامية عبر توصيف إنشائي ولغوي باذخ التعتيق والتمنطق في العبارة الإسلامية، دون أن يخرج فعل الحداثة عن العبارة، حيث جعل الفعل والعبارة سواءً بسواء في ظل العقد الإسلامي.
فهل يمكننا مثلاً أن نكون حداثيين وإسلاميين معًا؟ أم أنّنا أمام تجربتين مختلفتين من جهة السياق والرؤية؟ وأيّهما نُقدم على الآخر؛ هل نُقدم الحداثة على الإسلام أم العكس؟ إنّنا أمام وضعٍ مُربك يَهزُّ أساسات التَّفكير ويجعلنا في عُمق الأسئلة المصيرية التي طرحتها المشاريع الحداثية العربية، فهل يمكن أن نُفيق من وهم الأسئلة التي طرحها هذا اللَّفيف من المفكرين والفلاسفة الذين غلب عليهم شقاء السجال والنِّضال؟ ألاّ يمكننا أن نعثر على أسئلة بعيدة عن منطق ردَّات الفعل التي جرَّت هذه المشاريع الفكرية العربية اِبتداءً بطه حسين وفرح أنطون وصولاً إلى محمّد أركون وطه عبد الرحمان إلى أن تصبح مجرّد وهم يضع نهضة من ورق، فهل يمكننا وصل الصلة بين المشروع وأسئلته السياسيّة؟ كيف يمكننا ردم تلك الفجوة بين ما هو فكري/نظري وما هو عملي/سياسي؟
وجب علينا؛ قبل تحريك السؤال أن نتجاوز فكرة التَّرف النظري الّذي تعرضه علينا النظريات المختلفة، إلى الحاجة التي يتطلبها مشروع نهضتنا اليوم، تلك المُساءلة التي أثقلت أمزجة المشاريع الفكرية المختلفة، قد يفهم بعض القراء أنّني أريد تسفيه المشاريع الفكرية الكبيرة، ولكن عملي هنا مختلف تمامًا، لأنّني أجتهد على التمييز بين شكلين من الحداثة ومعهما شكلية من التراث، حتّى نُفرغ المشاريع الفكرية العربية من الطابع الشمولي/الكلياني الّذي ألهبها وانتشر في مفاصلها، وهي على شكلين فيما أزعم وأتصور: -نجد مشاريع فكرية تُعظم من أثر اللّغة، حيث تعتمد التخاريج والتشقيقات والتحذلق اللغوي الباذخ كما في مشروعي؛ أبو يعرب المرزوقي وطه عبد الرحمان لذلك يبين منها أنّها فائقة لغويًا تُمارس نوعًا من تخمة العبارة، لغة معتقة ومعجونة جيداً في أثر الأولين، لتقول المتأخرين على بساطة المقصود، فتحمله اللّغة إلى مصاف التَّكلف والغموض ما يجعل مشروع طه عبد الرحمان مثلاً ينشد الخلاص في عُمق تلك اللّغة التي توصف بالتجديد، ولكنّها مقطوعة الرأس على الأسئلة التي يطرحها السلطان العربي في عمقها، لغة مترفة وباذخة ولكنّها قلبٌ بلا رجلين، تمشي في سبيل الخلاص، ولكنّه خلاصٌ للمُجرِّب الواحد وليس خلاصًا جماعيًا، إنّه متنٌ يتعلق بتجربة الفرد المُذنب، لا يتعلق بتجربة الجماعة التي تبحث عن الاِستخلاف، وهذا مبحث عُنيَ به أبو يعرب المرزوقي ولكنّه يغرق في شكلانية الاِسم وشكلانية الرسم، حيث يجتهد من خرم إبرة حين يصرفنا من جهة التناهي الإشكالي إلى شخصيتين علقا بهما منجاتنا ورؤيتنا هما؛ اِبن تيمية وابن خلدون وله في ذلك مقاصد تحددها شكلانية الرسم، من أنّ أبي يعرب يفكر لطائفته ومن داخل التيار السني ليُحاول أن يضفي على الطائفة شرعية تاريخية، هذا النوع من الترف أعاد إحياء صراعات الطوائف والملل المختلفة، المناوئة لتيار أهل السنة، وبالتالي يكون الفيلسوف تَمثل قياسًا على قول هيغل لا تاريخ خارج أوربًا، ولا تاريخ خارج أهل السنة والجماعة ليزرع في عُمق تصوره رؤوسًا للشياطين تُقوِّضُ أساس تصوّره حين تعرف أنّ هنا من يتربص بك خارج تلك الدائرة الهرمينوطيقية للطائفة.
- أمّا الشكل الثاني هو الّذي يضعنا أمام خيار لا مفر منه حين يقدم لنا الحداثة أنّها الخلاص الأبدي لإشكاليتنا، هذا التصوّر يجعلنا أمام خيارين فاسدين: أوّلا: -أن نضع إنسيتنا في إنسية غيرنا. ثانيًا: -أن نقطع مع ماضينا الّذي هو سبب إشكالاتنا، وهذا قطعًا عبثٌ لا طائل منه، فهل يمكن أن يُقدَّم قطعُ الرِّجل لمن مسَّه مرض ما؟ أم أنّ ذلك خللٌ في عقل المُطبِّبِ الّذي أعجزته الحيلة إلاّ أن يفعل هذا لِعيٍّ في فهمه للمرض، لذلك وتجاوزاً للإهدارين الذين أغرقا نهضتنا في زمنية وإنسية غيرنا، علينا أن نملك عقولنا بعيداً عن فصل الرَّأس عن واقعه، ولعلّ ذلك وهمٌ غرق فيه طه حسين حينما أعلن في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" أنّه على المصري أن يصرف الحياة كما يصرفها الأوربي، ها هو المصري بعد مئة عام من ذلك الخيار هل كفَّ التراث عن ضرباته؟ وهل كف الجرح عن نغزاته؟ ما تزال تلك الدعوة تتحرك ليغرق المفكر الإسلامي والعربي كمحمّد أركون في تلك البدعة التي تعتبر أنّ أساس نهضتنا يكمن في فساد الأسئلة الأولى التي طرحها المفكر العربي على أمته.
أنا والقراءة الحداثية؛ زمن المراجعة:
حينما نقول: "زمن المراجعة" معناه أنّ هناك إشكاليات معينة يُحاول زمننا "نحن" مراجعتها، المراجعة التي تعني تفكيك الإشكالي، بل إعادة تدويره بشكلٍ آخر، يقطع مع التحليل السابق، معنى ذلك أنّنا نفكر دومًا داخل هذا "الإشكالي" وهنا نطرح تساؤلات معينة لماذا نحن نفكر دائمًا داخل الإشكاليات، وليس داخل الحلول؟ ولماذا لا نقول حلول الفكر العربي ونقول إشكاليات الفكر العربي؟ ما هي الطبيعة التأسيسيّة التي تجعلنا نشعر دومًا بأزمتنا الفكرية، هل هي حالة الركود والعطالة التي تعيشها الثقافة العربية، أو نتيجة المقابلة بين الثقافة العربية والغربية، والمسافة بين العالمين بَنَت تلك الفجوة المنهجية، فجعلتنا نشعر بالفرق بين ما قطعوه وركودنا، تلك العطالة القاتلة التي جعلتنا على المستوى النفسي نشعر بتلك الأزمة، وما الفرق بين كلمة "فكر" وكلمة "عقل"؟ ثمّ حينما نقول أنّ العرب يمتلكون عقلاً هل معنى ذلك أنّهم فكروا بهذه الوسيلة "العقل"؟ فإذا كان العقل وسيلة نفكر بها، لماذا جعلناها غاية تركز حولها التفكير؟ وما هي المساحات التي يمكننا أن نفكر فيها من أجل أن نكتشف هذه الإشكاليات؟ أين يمكننا أن نجد هذه الإشكاليات وما هي المساحات التي لم نفكر فيها؟.
وعندما نقول "فكر" يعني؛ أنّ هناك مناطق تسكن الفكر لم نفكر فيها، في المقابل هناك مناطق تفكرناها، إذ أنّ أوّل ما يجب أن نقف عنده هو في ماذا فكرنا نحن كعرب؟ هذا سؤال في ذاته إشكالي لأنّ القول بأنّ العرب فكرّوا معناها أنّهم قد اِكتشفوا حلولاً للمعضلات التي واجهوها، ولو كنا قد حللنا المعضلة لَمَا كنّا اليوم نعيش أزمة التّفكير، إذن علينا أن نفكّر داخل الفكر.
وهل لدينا داخل عقلنا التاريخي مساحة يسكنها الفكر أم أنّنا كائنات اِعتادت على المعهود والسّالف والأصول والقديم، وهل نحن كائنات تُردِّد، تعيش على مخيِّلات قديمة وتقتات على المحفوظ أم أنّنا كائنات تتفكر دائمًا القديم، حينما نقول الفكر بمعنى أنّنا نقف في نقطة ما لنتأمّل وضعًا كان قديمًا، ووضع هو سائد، لأنّ الفكر هو أن تضع مسافةً بينك وبين الموضوع الّذي تفكره، أن تفكر هنا معناه؛ أن تكتشف ذاتك، وتكتشف موضوعك، فما هي الموضوعات التي تفكرناها؟ وهل يوجد في مخزوننا التاريخي والمفهومي مصطلحًا للذات المفكرة؟
وهل الصراع بين التراثيين والحدّاثيين نابعٌ من جهة الموضوعات القديمة التي يجترها السلفيون أو الأصوليون، والوسائل الحداثية التي يقرأ بها الحداثيون النص؟ هل الخلاف نابعٌ من هنا؟ إذا كان الأمر كذلك، فذلك يعني أنّ الصراع يكون بين عالمين أحداهما قديم بمضوعاته، والآخر جديد بوسائله وآلياته؟ وهل يمكننا أن نتحدث عن حوارٍ فاعل في عُمق زمن القبيلة التي نعيشها؟ تلك القبيلة التي ما تزال تفكر فقهيًّا في عصرنا، فهل "هي هي" أم باتت خارج العصر؟ إن كانت القبيلة خارج التاريخ، فما الّذي خلفته وراءها؟ وهل ينجر ذلك على كلّ العلوم التي أنتجتها زمنية القبيلة؟
هل علينا أن ننتقد فُهوم السلف بآليات بعيدة عن زمنيتهم؟ هل الغرض هو إنتاج نصوص حضارية تتساوق مع زمننا أو زمنهم؟ لماذا نُحمِّل السلف كلّ تلك الآفات التي صار يجري إليها زمننا؟ هل علينا أن نقطع معهم من جهة الموضوعات، ونُنتِجَ موضوعاتنا نحن؟ أم نقطع مع الآليات والوسائل التي اِستعانوا بها على فهم النصوص التأسيسيّة؟
ومن جهة أخرى أليس الاِستيلاف الّذي اِنخرط فيه العقل الحداثي العربي هو نوعٌ من التقليد الّذي عَابَهُ على العقل السلفي؟ أليس حريَّ بهذا العقل الحداثي أن يقوم أوّلاً على تهافته، قبل أن ينتبه لتهافت العقل السلفي؟
وقبل كلّ هذا؛ كيف يمكننا أن نبني حواراً فاعلا، مُتنقلاً، بعيداً عن تلك الاِتهامات المعيارية التي تجعل النقاش خارج دائرة المنفعة، لأنّنا نتحاور لننجز فضاءً عموميًا قائمًا على الاِحترام والتقدير.
في طريق حوار صاعد؟
لعلّ دُعاة الحوار حين يفتقدون إلى العِلم بالموضوع، يجعلون الحوار عبارة عن لقاءٍ للتفاخر أو التنابز، ذلك هو منتهى فهم هؤلاء لمعنى الحوار، إنّهم يُهيِّجُون التاريخ والبطولات، والعنتريات القديمة، دون أن يطرحوا على أنفسهم هل هم أبطال كذلك؟ مع العِلم أنّ "محنة اِبن حنبل" اِنتقلت بشكلٍ تراجيدي من المشرق إلى المغرب الإسلامي، حينما يريد البعض أن ينتصر لأكثر المفاهيم جدلاً في تاريخنا الإسلامي، فمن يطلع على مدونة هذا الفقه يجدها مليئة بالأحكام الوثوقية، وبكتلة اليقين التي تطمس إعادة الفهم، مع أنّه في الأصل فُهوم، وليس فهمًا واحداً في المُطلق، بقدر ما هو مُتعدّد في المصلحة، لأنّ الفهم لا غاية له سوى المصلحة، والحوار هو الّذي يتناول الفهم، بمعنى أنّه ينقل فُهوم الأوائل للنصّ، وهذا لا يتم إلاّ عبر مشروع كتابي دقيق يحتاج إلى رسوخٍ عميق في علوم الأوائل، والبحث في غوائل فكرهم، وليس بحاجة إلى مشافهة أو ملفوظية تجتر نسق الخطابة أو البلاغة التي لا تنظم إلاّ أحوال الشدق وتمطيط اللّغة، فرب عالم ليس له من سلطان المشافهة ما لأصغر خطيب، قد يقول قائل أنّنا نمتهن سلطة الفقيه، مع أنّ هذا ليس ديدننا ولا في منطقنا لأنّ الخلاف لا يتعدى الاِجتهاد في الوسائل، هذا الّذي يجعلنا نفرق بين شكلين من التراث، وشكلين من الحداثة.
الحداثة والتراث؛ شكلان لا شكل واحد
أمّا على مستوي الحداثة فنحن نُفرِّقُ بوضوح بين الحداثة النظرية والحداثة الوسائلية، كما نُفَرِّقُ بين التراث النظري والتراث الحركي، يمكن أن نختلف مع الحداثة النظرية كخلافنا مع التراث العملي، لأنّ غرضنا هنا إيجاد مصوغين في زماننا؛ فهم الحداثة من جهة ما ينفعنا وسائليًا وفهم التراث من جهة ما يُضيف إلينا نظريًا، أمّا التراث العملي ففيه كثير من الرَّد الّذي نحمله على الفرق الإسلامية المختلفة إن في الاِعتقاد أو في العمل، وكله مردود عليه من جهة أنّ التراث العملي هو حاصل اِجتهاد طائفة معينة في الزمان والمكان، ونحن نختلف من جهة الاِجتهاد على ما كانوا عليه، لكنّنا نتفق معهم من جهة النصوص التوجيهية، فالخلاف هنا على مستوى الفهم أو تنزيل النصوص، لذلك نأخذ من التراث جانبه النصوصي/ النظري، ونترك جانبه العملي الّذي يختص بفريق دون آخر، وكذلك الأمر مع الحداثة التي نختلف معها من جهة النظرية لبلاغنا فيها من جهة التراث، أي أنّنا نملك في تراثنا وعاءً نظريًا يُغنِينَا عن الخزانة النظرية الغربية، لكن لا يمكننا الحياد عن الوعاء الوسائلي الّذي يستخدمه البشر دون أن يكون له رابط مع النظرية، فهو جانب آلي تتمُّ به الحياة، وتربو في زيادة الفضل والخير، ونحن أمة مأمورة بإتباع الخير، فالمقاصد مُختلفة في المآل، ولعلّ اِجتماع التراث النظري مع الحداثة الوسائلية يجعلنا في حالة إرشادية تخولنا أن نستكمل محصلة الرسالة وهي الخلافة، التي لا تكون إلاّ بتحصيل الفهم والوسيلة لتحقيق الخلافة المنشودة التي لا تتمُّ إلاّ ببلاغ التوحيد الكلي، تلك الغاية الكلية التي ننطلق فيها من تراثنا النظري الّذي يعصمنا من الوقوع في بلاغات الغير.
نكون هنا قد حصلنا فائدتين، تجاوزنا كلّ الخلافات التي جرها التراث الحركي الّذي يُعيد اِجترار زمنية الفرقة الكلامية، التي تتخاصم حول مسائل لا تهمُّ معاش النّاس اليوم، لنُعيد إنتاج فاعليتنا نحن في زمنية تخصنا، لذلك نُعيد إنتاج فهمنا للنصوص من خلال مواجهة مُباشرة مع النصوص الكلية التي تُقرِّرُ الهدي المطلوب، لا اِستنساخ وعي مُزيف قد يُؤدي إلى التناحر والتنابز.
وقد ننخرط في الحداثة الوسائلية التي تُجنبنا مهالك الكلبية والبوهمية التي قد تجرنا إليها الحداثة النظرية، بِمَّا هي حاصل اِجتهاد للإنسان الغربي في العالم، أي أنّنا نقطع نظريًا مع رؤية العالم للغرب، لنُنتج نحن نظريتنا لهذا العالم بعيداً عن الرؤية الحركية التي تُوزع العالم إلى دارين أو عالمين؛ أحدهما للكفر وأخرى للإسلام، والتي تجر معها خراب العالم الجديد، إنّنا نريد أن نكون هداة لهذا العالم من الحيرة التي تسكنه، أن نُضيف إلى العقل الوسائلي ترشيداً مآليًا، أن نقطع مع تَغوُّلِ المادية التي تنته بالإنسان أن يكون تابعًا لنموذج مادي حلولي.
لذلك سأقرر منطلقًا اِستفزازيًا يخرج عن طور العلاقة الأبوية التي تربطني بمفكرينا العرب على اِعتبار أنّي شاهد على مسرح الثقافة العربية المجوّف. هذا المسرح الّذي أنهكته أصواتٌ غريبة، فأغلب المُشتغلين بالحداثة. وما بعدها، يقعون في الإعظام المُسفِّ لأسماء من قبيل "هيدغر" و"نيتشه" و"كانط" و"هيغل"، ويرون في أقوالهم مصكوكات معصومة، وعلينا هنا أن نُقرر فائدة؛ وهي أنّ أغلب المشتغلين في حقل الثقافة العربية المعاصرة مِمَن اِستبدت بهم المشاريع الحداثية وما بعدها، قدموا هذه الأسماء على غيرها وأيقنوها، فوقعوا فيما ينفونه على غيرهم من السلفيين المعظمين لأثر الأولين، وكلا الصنفين وقعا في تصوري في الوثنية المعظمة؛ إمّا للمشروع وإمّا للشخص، وهذا طريق المُفلسين الذين ينظرون بعين الفيل. رغم عظمة ثقافتنا من الناحية البنيوية، إلاّ أنّها مُكْبرة لمنتجِ الآخرين لأنّ الصورة لم تُوضع في حجمها الطبيعي، وبالتالي سينتقل الحديث من طور الإجلال إلى طور النِّدية للقيام بتشخيص مُخالف لِمَا ذهب إليه بعض مفكرينا من جهة البناء للإخفاق التاريخي لمسار النهضة العربية، ومن ثمّة تكلس السؤال الأنواري الأوّل عند ثلاثية؛ الإنسان- العقل- الحرية.
مشروع الحداثة الغربي عند آبائه المُؤسسين قام على نقاشٍ مرير وربطٍ جذريّ للقول الفلسفي للحداثة مع القول الجمالي، والحداثة ليست قطعًا كليًا فيما يتوهم أغلب المنشغلين مِمَن شطت بهم العبارة الفلسفية، ذلك أنّ التحقيق الفلسفي العميق رام دراسة الفصل بين قيمتي الدنيوة والأخروة كصانعين لحياة النّاس، ذلك أنّ مضمون التاريخ العام أراد أن يُخلِّص الإنسان الغربي من تاريخ الله إلى تاريخ الإنسان.