الآن وقد رحل مرزاق بقطاش/كاتب البحر، إلى السّماء. الكاتب الّذي ذهب بالعمر صوب الأدب والسرد، والفن والكتابة بكلّ أنواعها. حيث الأدب يُوازي الحياة. اِبن البحر/اِبن الحرف واللّغة. مُبدع البحر في النص، مُبدع الحياة في النّص، مُبدع الواقع والجغرافيا والوطن، مُبدع الشخصيات التي تقوله، وتقول تفاصيل الإنسان والوطن والمجتمع. إنّه سارد البحر... سارد الحياة. منذ البدايات وهو يسرد البحر في قصصه ورواياته ومقالاته وترجماته. لم ينجُ بقطاش من الكتابة ومكابداتها ولذائذها، لكنّه نجا من محاولة اِغتيال سنة 1993 بأعجوبة. كان القدر رحيمًا به، إذ نجّاه وقتها من رحلة باِتجاه الغياب الأبديّ. لكنّ جرحًا مُربكا ظلّ علامة شاهدة على رحيل كاد أن يكون! لكن قدر الرحيل، آن وحان أمسية هذا السبت 2 جانفي. إذ يرحل صاحب «طيور في الظهيرة» مع أولى أيّام السنة الجديدة.
«كراس الثقافة» يستحضر في عدده اليوم (مرزاق بقطاش)، من خلال شهادات وقراءات بعض أصدقاء الراحل من أكاديميين وأساتذة وكُتّاب ونُقاد.
** استطلاع/ نــوّارة لحــرش **
أمين الزاوي روائي وأكاديمي
بقطاش مثقّفٌ عمليٌّ يستحقّ أن يواصل حياته بيننا
لن أكتب ولن أُعيد ما كُتِبَ وما تمَّ تداوله عبر وسائل التواصل الاِجتماعي، في حق بقطاش مرزاق منذ أن نزل خبر وفاته كالصاعقة علينا، وهي كتاباتٌ كثيرة يمكن أن تكون كفيلة، أو قريبة من ذلك، لتقديم صورة ومكانة هذه الشخصية المُتميزة في الساحة الأدبية والثقافية والإعلامية الجزائرية والشمال إفريقية والعربية، ولكني سأكتب بجرح عن هذا الجرح الّذي يُفتح مع كلّ موت كاتب في هذا البلد.
نحن شعب يعيش على الشفوي ولا يهتم كثيراً بالمكتوب. وتوديع «الكاتب» بوصفه كائنًا ينتمي إلى الكائنات «الحروفية» يحتاج إلى خطاب آخر.
في هذا البلد، حين يرحل عنا كاتب ما، وهم كُثْر من رحلوا، نُخْرِج على الفور كلمة «كان»، ومعها نُخْرِج كلّ صفات «الملائكة» و»الأنبياء» لنصبها عليه، هذه هي حالنا كلَّما ودعنا واحداً منا، كُلَّما سقطت حبة من العنقود، ولكن وبمجرّد أن تدور رحى الأيّام ويفجعنا الموت في واحد آخر، ننسى الأوّل، وكما في المرّة الأولى نُخْرِج «كان» وصفات «الملائكة» و»الأنبياء»، نغسلها قليلاً نُبدل وصفًا بوصف ثمّ نُسقطها عليه، ثمَّ ننسى هذا الآخر...
نحن مجتمع لا يحترم كُتَّابه، الأحياء كما الأموات منهم، نحن مجتمع غير وفي لكُتّابه ورموزه الكبيرة، نريد أن نعيش بلا ذاكرة وبلا رموز، كلَّما رحل الواحد نُمارس القتل عليه ثانيةً بالنسيان أو بالرثاء، غير بعيد عنَّا فقدنا المرحوم عبد الحميد بن هدوقة مُثقفٌ وكاتبٌ وسم تاريخنا بنصوصه الجميلة وبسلوكه الراقي، أقمنا له ملتقى سنويًا باِسمه في مدينة برج بوعريريج، (هذا المُلتقى الّذي، بالمناسبة، لم أُدعَ إليه ولا مرّة واحدة!!) لكن مع طبعات قليلة أصبح بارد المفاصل، ثمّ مات ليلتحق بصاحبه أو المُسمَى باِسمه، ثمّ رحل الطاهر وطار، اِسم سجل بجدارة الرواية الجزائرية في ريبرتوار الرواية العربية، مُثقف أسس جمعية الجاحظية، نَشَّط الحياة الثقافية لمدة رُبع قرن تقريبًا، لكن بمجرّد أن دارت الأيّام، حتّى نسيه الجميع، تأسست لأجله وباِسمه جائزة الرواية سُميت بــ»جائزة الطاهر وطار»، وقد جاءت باهتة، وكأنّها جائزة مُهربة، يُريد الجميع نفض أيديهم منها، والتخلص من التكفل بها، ولولا حرص رياض وطار اِبن أخيه، حرصًا كبيراً لَمَا كانت، وهي على كلّ حال جائزة بدون قانون ولا ترسيم.
وقبلهما، فقدنا عمار بلحسن، وهو القاص المُدهش بكلّ معنى كلمة «الإدهاش»، ولكم دعونا إلى تأسيس وترسيم ملتقى وطني أو عالمي للقصة القصيرة باِسمه في مدينته مغنية أو في تلمسان، ومع كلّ مناسبة ذكرى موته، نعود ونتحدث الكلام ذاته، ونرفع الأمنية ذاتها، ولكن لا شيء تحقّق، ولا من يسمع.
اليوم يُغادرنا الروائي والقاص والمُترجم والمُثقف المُتميّز مرزاق بقطاش، ورحيله خسارة كبيرة للأدب الجزائري، وخسارة وازنة للثقافة الجزائرية، لكن كيف يمكننا ألاّ نسقط في رثاء العجائز، فمرزاق بقطاش مُثقف عملي، يستحق أن يُواصل حياته بيننا وفي أوساط الأجيال القادمة، موت بقطاش مرزاق ليست نهايته، فنحن اليوم المسؤولين عن حماية ورعاية حياته الثانية، إنّ موت الكاتب في البلدان التي تحترم رموزها هي بداية أخرى، لحياة أخرى، ينتقل فيها من الموجود المادي إلى الموجود الرمزي.
وحتّى لا نمارس القتل الرمزي للكاتب الكبير مرزاق بقطاش علينا أن: -نعيد طبع أعماله طباعةً شعبية ونسوقها في مُدننا علنا نسهم في تحريك القراءة، وعلينا العمل على طبعها طباعة رقمية أيضا. -أن نقيم له ملتقى سنويًا خاصاً بالترجمة أو بالأدب والسينما تحتضنه العاصمة يحمل اِسمه. -ولكيلا يموت الملتقى علينا أن نُؤسس له قانونيًا ونُؤسس لذلك مؤسسة خاصة. -أن نستعيد فكرة الرواية المُبرمجة لطُلاب الثانويات، ونُبرمج واحدة من نصوصه السردية. -أن نُسمي باِسمه مؤسسة ثقافية مركزية في العاصمة أو في مدينة كبيرة أخرى. -أن نهتم بمكتبته الخاصة، والتي هي ثروة كبيرة، وذلك بالتنسيق مع عائلته. -أن نقيم يومًا دراسيًا عنه في المركز الثقافي الجزائري بباريس، باِعتباره المركز الثقافي الجزائري الوحيد في الخارج، وهذه كارثة أخرى لثقافتنا ولوجودنا الرمزي في العالم. -أن نهتم بمخطوطاته التي تركها، فدون شكّ هناك ما قد يُفاجئنا، فبقطاش مرزاق كما أعرفه نحلة لا تمل ولا تتعب من الاِشتغال على الكتابة والقراءة والترجمة. -أن نجمع مقالاته الكثيرة التي ظلَّ، وعلى مدى نصف قرن، ينشرها في منابر كثيرة، كالشعب وأضواء والوحدة والمجاهد الثقافي وصوت الأحرار والخبر وغيرها. -أن نجمع حواراته المكتوبة والمسموعة والمرئية وإصدارها في كِتاب مع وسائط أخرى، يمكنها أن تُضيء كثيراً من مشكلات ثقافتنا، فيما يتصل بمسألة اللّغة والهوية ودور المُثقف والقراءة... رحم الله بقطاش مرزاق وتمنياتنا أن نكون في مستوى موته.
يوسف وغليسي كاتب وناقد وباحث أكاديمي
كاتب متصالح مع هويّته في شتى أبعادها
عرفت الراحل، أوّلا، في كتاباته الروائية؛ وخصوصًا روايته الأولى «طيور في الظهيرة» 1976 التي قرأتها في بدايات دخولي الجامعة، معجبًا بعتبتها الأولى/مقدمة الطاهر وطار لها (والتي خُيل إلي من خلالها أنّه يقيم معاهدة عدم اِعتداء مع صديقه اللدود؛ يتقاسمان المكان الروائي بموجبها؛ حيث المدينة والبحر لمرزاق، وما تبقى من القُرى والأرياف لوطار!)؛ أنا اِبن الريف الّذي مازال لم يألف طرائق أهل المدينة في تعاطي الرواية التي ترسختْ في قراءاتي القليلة الأولى ملحمةً ريفية بروليتارية!...
أُعجبتُ بمرزاق الّذي صعب علي أن أفصله في مخيلتي عن مراد/بطل الرواية. وقد أيقنتُ مِمَّا رأيتُ من خبرته السردية بتفاصيل الفضاء البحري، وبتوكيد مِمَّا قرأت عنه في كتابات نقدية لمصايف وواسيني وعامر وساري...، أنّ الرجل قطبٌ من أقطاب (أدب البحر)؛ وأنّني يمكن أن أسميه من هذه الزاوية «حنا مينة الرواية الجزائرية!».
ثم قرأتُ له من أعماله المُتأخرة رواية «دم الغزال»، وهي إلى جانب «خويا دحمان» و»يحدث ما لا يحدث»، تقع ضمن ثلاثيته (براري الموت) التي تُفلسف الموتَ اِنطلاقًا من تجربة شخصية (محاولة الاِغتيال التي تعرض لها سنة1993)، وأخرى وطنية (اِغتيال الرئيس محمّد بوضياف سنة 1992)، والواصل بين التجربتين هو نضاله السياسي المرير ضمن المجلس الوطني الاِستشاري الاِنتقالي (CCN) الإشكالي الّذي أنشأه الرئيس المغدور به، وعيّنه عضواً فيه ضمن أعضائه الستين الذين أهدرت دماؤهم جميعًا (ومنهم كُتّاب كبار معروفون كعبد الحميد بن هدوقة ومصطفى الأشرف والهادي فليسي وزينب الأعوج). فضلاً عن نضالات أخرى في المجالس العُليا للإعلام، وللتربية، وللغة العربية، ناهيك عن مهنته الصحفية الأولى التي اِستهلها في مُستهل الاِستقلال. وإضافة إلى جهوده الترجمية الكبيرة (كترجمته لبعض روايات رشيد بوجدرة).
تعرفتُ إلى مرزاق بقطاش معرفة شخصية (أزعم أنّها عميقة) في مارس 2010؛ ذات رحلة جوية فاخرة (على الخطوط القطرية، درجة أولى) إلى أبو ظبي، مرورا بالدوحة، قبل محنة الفتنة الخليجية الكبرى! كان ثالثنا صديقنا الكبير الدكتور أحمد منور الّذي اِستسلم للنوم وتركنا نخوض في كلّ شيء. تحدثنا طويلاً، قبل أن أتعمد الاِستئثار بحصة الأسد من الكلام، في باقي زمن الرحلة، رأفةً بحباله الصوتية وأنا أراه يُكابد بُحّته العسيرة التي تركَتْها فيه رصاصة الغدر!
أذكر أنّنا تحدثنا طويلاً، على هامش مقال جميل له في «صوت الأحرار»، عن أستاذه الكاتب الجزائري العظيم الصديق سعدي (1907/1970)، المجهول عند عموم الجزائريين، والمشهور في الجامعة المصرية منذ نهاية الثلاثينيات، والّذي حيّر العلّامة الفيلسوف الشهير منصور فهمي (أستاذ طه حسين) بفرط ذكائه ونباهته! وقد روى لي بقطاش كيف تأثر بأستاذه الّذي اِمتلك ناصية العربية وأتقن الإنجليزية واللاتينية واليونانية، فضلاً عن الفرنسية التي درّسها طويلاً في الثانويات المصرية قبل عودته إلى الجزائر مطلع الاِستقلال، وكيف كان يستعذب حديثه عن منهجه في بدايات تعلمه الإنجليزية مع صديقه الشاعر المسرحي الكبير علي أحمد باكثير .ومِمَّا أذكره في تلك الأحاديث المُمتعة أنّني قلتُ له: «أتدري يا مرزاق أنّني أعرف عنك ما لا يعرفه الآخرون؟!» فنظر إلي مُبتسمًا مُندهشًا!، لم أشأ أن يطول اِندهاشه فأردفتُ قائلاً: «أعرف مرزاق بقطاش الشاعر!»، فازدادت دهشته، لدرايته بقلة أشعاره، وربّما بساطتها أيضا، ولأنّه نشر أغلبها في تواريخ سابقة لتاريخ ميلادي أصلاً!
لكن دهشته سرعان ما زالت حين أوضحتُ له أنّ حبي لتاريخ الأدب الجزائري، ومعه عشقي للأرشيف هو ما أتاح لي أن أقرأ له قصائد منشورة في (الشعب) أيّام الستينيات، وأخرى في (المجاهد الأسبوعي) أيّام السبعينيات،....
لقد كشفتْ لي تلك الرحلة الرائعة رجلاً وطنيًا مخلصًا طيبًا نبيلاً، متصالحًا مع هويته في شتى أبعادها العرقية واللغوية والدينية؛ وما ذاك بغريب عن أمازيغي وطني أصيل؛ سليل مدرسة (الشبيبة الإسلامية) ومدرسة التهذيب العربية،... لم نلتقِ بعد تلك الرحلة الخالدة إلاّ عبر الهاتف، خلال اِتصالات قليلة متقطعة.
مخلوف عامر كاتب وناقد أكاديمي
لم يسْعَ يوماً لأن يُحيط نفسه بشبكة من المريدين
هكذا يرحل الكاتب الكبير مرزاق بقطاش، الإنسان المُبدع والمُبدع الإنسان. كنتُ كلَّما اِستحضرتُ صورة (حنا مينة) إلاّ وجالت بذهني صورتُه وبالعكس. فكلاهما عشق البحر في هيْبته وجماله. لكن في كتابات (بقطاش) رائحة وطن خرج مُنتصراً من ثورة دامية. فهو عاش أيّام الثورة طفلاً ومُراهقاً فَظلَّ يتغنَّى بالثورة والشهداء والفقراء. لا يتنصَّل مِمَّا هو اِجتماعي لأنّه يغترف منه ويدرك أنّه جديرٌ بالمعالجة، لكنّه يرتقي فوق ما هو واقعي مسطَّح مبتذل، كما يستلهم التاريخ، لكن في حدود ما يجعل منه مُرتَكزاً للقول الأدبي. وإذا أنت تحسَّست قدْراً من السياسة أو الإيديولوجيا فيما يكتب، فإنّها تبقى خفية مُضمرة، لأنَّ أنجح الأعمال الأدبية أقدرُها على إخفائها باِستبعاد الخِطاب الفجّ المُباشر.
وإنّه الكاتب الّذي يمتلك مخزوناً ثقافياً غنياً فضلاً عن أنَّه يتقن أكثر من لغة. بإمكانه أنْ يتحدَّث في الأدب والفلسفة والتاريخ وعِلم النفس والاِجتماعيات كما ترتسم ملامحها في شخصياته القصصية والروائية، غير أنَّه حين يجلس للكتابة، فإنّه يرتدي جُبَّة المُبدع الّذي يعيش لحظة الإبداع بوصفها حالة تصوُّفية تطول فيها المناجاة وتتدفَّق اللّغة سهلةً ميسورةً لا تقف حاجزاً أمام الاِسترسال.
و(بقطاش) الّذي أدرك أدبية الأدب، لم يكن يُفاضل بين الفنون الأدبية فبقي وفيّاً لكتابة القصة القصيرة إلى جانب الكتابة الروائية. واللافت في كتاباته دوماً أنّه يُطوِّع اللّغة على نحوٍ متفرِّد، فيعمدُ إلى تصوير الشخصية في سحنتها وهندامها فيتقن وصفها حتّى يجعلها قريبة وكأنَّها تُشاهد بالعين المُجرَّدة، ثمّ ينتقل إلى دواخلها فيستخرج ما ينتابها من أحاسيس ومشاعر وقد يستتبع ذلك بِمَّا تحمله من مخلَّفات الماضي والذكريات. فاشتغاله على اللّغة كان قناعةً راسخةً لديْه فصرَّح مرّة أنّه جاء إلى الأدب عن طريق الرسم والموسيقى غير أنّه فضَّل اللّغة فقال: ((اللّغة أقدر بكثير على التعبير عن خوالج النفس وصخب الحياة من الأدوات الفنية الأخرى، لذلك رسَوْت في ميناء الأدب)).
لكنَّ (بقطاش) هو الكاتب الإنسان أيْضاً، فقد ظلَّ على خُلقٍ عظيم غايةً في التواضع ومحبة النّاس، لم يكن يتصيَّد الجوائز ولا تغويه الشهرة. وحتّى بعدما نجا بأعجوبة من رصاص الإرهاب لم يتردَّد في مواصلة الطريق الّذي اِختار أنْ يسلكه منذ البدء. كما لم يسْعَ يوماً لأن يُحيط نفسه بشبكة من المريدين ليكيلوا له المديح والمُجاملات ويدفعوه إلى إقصاء الآخرين، لقد كان همُّه أنْ يكتب وكفى.
هكذا يرحل عنّا الرجل الوقور، ولن ترحل عنَّا أعماله المُميَّزة: (طيور الظهيرة، رقصة في الهواء الطلق، جراد البحر، الكتابة قفزة في الظلام، بقايا قرصان، يحدث ما لا يحدث، دار الزّليج، دم الغزال، المُومس والبحر، الرطب واليابس، وداعاً بسمة، أغنية البعث والموت، كوزة، بهيّة، نهاوند..ألخ)..
ولكن هل يعرف النّاس هذا الإنسان الّذي أفنى حياته مهموماً بقضايا الوطن ومصيره، كما نريد له أنْ يُعْرف؟ وإلى متى سيبقى المُثقَّف الوطني مُهمَّشاً لا تُذكر بعض خصاله إلاّ بعدما يرحل؟! لقد صدق الدكتور السعيد بوطاجين إذْ قال: ((أعتبر الأديب مرزاق بقطاش أحد أقطاب الرواية والترجمة والقصة والثقافة في تاريخ الجزائر المُعاصرة، رغم ما لحقه من تهميش ونكران، إن نحن اِحتكمنا إلى الصورة التي تُقدم عن المشهد في البلد، بالإعلاء من شأن بعضهم وطمس الآخرين، دون مُبررات فنية أو جمالية مؤسسة على مسائل أكاديمية بحتة، وليس اِحتكامًا إلى الأموال والعلاقات ومُختلف الوسائط الأخرى)). منذ مدة طلب إليَّ المرحوم أنْ أوافيه بِمَا كتبتُه عن أعماله، لأنّه كان بصدّد جمع كلّ ما دار حول إنتاجه. فإذا هو لم يتمكَّن من إتمام ما كان ينوي القيام به، فالمرجو من وزارة الثقافة أن تتكفَّل بطبع أعماله كاملة ونشرها كيْ يتسنَّى للباحثين أنْ يدرسوها، فلعلَّ هذا أن يكون من خير ما يُقدَّم للفقيد وأسرته وللأجيال لتتعرَّف على روح الوطن وتحوُّلاته من خلال صحفي أديب اِستمرَّ حاضراً في الساحة الثقافية/الأدبية إلى آخر لحظة من حياته المُفعمة بالحيوية والنشاط.
آمنة بلعلى ناقدة وباحثة أكاديمية
متكلّم لا يبرح الصمت
متكلّم لا يبرح الصمت، وصامتٌ لا يبرح الكلام والحكي، ذلك هو مرزاق بقطاش المُثقف الّذي لم يزِلَّ به فمه، ولا زاغ بصره حتّى وهو يصنع بالكلام عوالمه التخييلية، وطروحاته الفكرية، وينفضُ عن نفسه غُبار الإيديولوجيا. غادرنا كما تسقط ورقة في هدوء دون ضجيج، رغم فظاعة ما يحدث من حولنا من ضجيج. اِنغمس في المسألة الثقافية بكلّ كيانه منذ أن بدأ يكتب، فكان بارعًا ومُتصدراً كُتَّاب المقالات في الثمانينات من خلال أبجدياته التي كانت تُؤثث طموحه الجدير بالثناء، وعندما دخل عالم الرواية، تسرب إليها من البحر الّذي تعلّم منه الحكي، فكان كالبحر عميقًا صامتًا فيه خشوع الزاهدين.
لم يحظ بِمَا كان ينبغي أن يُحظى به مثقف من طينته، ولم يسع لصناعة مجد كأن يدفع بالإعلام بأن يُروج له أو لمؤسسة بأن تسهم في صناعته، على الرغم من أنّه اِحتل مواقع إعلامية مهمة، كإعلامي ومُثابر على كتابة مقالاته الفكرية والأدبية في الجرائد الوطنية، والسبب في ذلك ورعه العلمي والثقافي، أتذكر صورته ذات يوم في جامعة تيزي وزو، يوم ناقشنا رسالة ماجستير حول «المُتخيل التاريخ في روايته دم الغزال» التي أعدها الباحث مصطفى ولد يوسف بإشرافي، حيث تَفاجأنا به يَتسلّل إلى آخر المدرج ويجلس في تواضع ليُتابع مجريات المناقشة باِهتمامٍ بالغ.
علمه البحر الّذي عاش في كنفه، أن يكون مثله في أحشائه الدر كامن، يستوعب كلّ المخلوقات والتحوّلات التي تحدث في باطنه، والوقائع التي تحدث فوقه، دون أن يتأثر بها، فكان بحق أحد كُتَّاب رواية البحر على غرار «حنا مينا» و»إرنست همنغواي». ومن البحر الّذي كانت عائلته تحترفه، تعلّم أن يتعايش في معاملاته الشخصية وفي أعماله الروائية مع كلّ المتناقضات، ليتشكل شخصية متزنة متوافقة مع كلّ الأطياف، ويتحوّل التعايش الجميل لديه إلى ضرب من الورع الّذي شكل عقله الثقافي الّذي هو عقل أخلاقي باِمتياز، لأنّه كان مُنغمسًا في الوطنية والهوية العربية الإسلامية وهو الأمازيغي الّذي كانت الأمازيغية بالنسبة إليه القوّة الداخلية الدافعة التي تمكّنه من الكلام والكتابة بأكثر من لغة.
كانت له نظرة ثقافية ثاقبة منذ أن بدأ يخط بالريشة على الورق في بداية الاِستقلال، وهو يُدشن دخوله إلى عالم الكتابة الصحفية، ثمّ كتابة القصة والرواية وهو يكتشف أوّل هدير أمواج البحر تحت قدميه، حتّى غدت الكتابة والبحر وجهين لعملة واحدة.
جمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، فامتدَ في الوطن والثورة التحريرية والتاريخ الجزائري وكانت له نظرة ثقافية ثاقبة في الوعي بالمسألة الثقافية الجزائرية، وكيف يكون المُثقف معنيًا بها بعيداً عن أي إيديولوجية مقيتة. وكانت قناعاته الوحيدة هي الوطن والثقافة الجزائرية التي تتجاوز الثنائيات التي تعرضها الإيديولوجية، فكانت نصوصه الإبداعية والفكرية، إدانة للنماذج المبطنة للخطابات الإيديولوجية الوهمية، ولذلك حرص على أن لا يكون إلاّ واقعيًا مُتجذراً في اليومي والثقافي من أجل فهمه وتلك مهمة الرواية الإبستيمية لدى مرزاق بقطاش.
كتب رواية جزائرية أصيلة تغرف من ذاته وتفيض على العالم من حوله، ليرسم بها سيرة وطن بأكمله، ويدرك أنّ الإنسان لا يعرف وطنه حقيقةً إلاّ حين يحضر التخيّل ويعلمه ذلك، ومع ذلك، يتلقى رصاصة الغدر في العشرية السوداء التي كادت أن تودي بحياته، وكادت أن تُصمته، غير أنّ محاولة إصماته صارت أصواتًا تُفلسف الموت الّذي نجا منه -مثلما يؤكد في أحد حواراته-، ونهض ضدّه، ليكتبه في روايته «دم الغزال» التي أرّخت لحادثة اِغتيال «محمّد بوضياف»، ومحاولة اِغتياله هو، كما أرّخت لبداية خروجه عن تقاليد الرواية ويضرب قوانينها عرض الحائط، حين أعلن في الرواية «إنّي أنا مرزاق بقطاش أكتب رواية بطريقتي الخاصة»، ومن يومها ظلَّ يكتب بطريقة من لا يسمع إلاّ كلامه ولا يكتب إلاّ صمته، وكان صادقًا مع نفسه ومع الرواية وما جاورها مِمَا يكتب، فكان بحق شخصية مؤسّسة، ورمزاً ثقافيًا، ومُنعرجًا، لا يمكن أن يُؤرخ للقصة القصيرة إلاّ بذكر اِسمه، ولا أن يُؤَرخ للترجمة إلاّ ويكون اِسمه في الواجهة، ولا يتحدث عن الرواية وعن المحلية كفلسفة في الكتابة إلاّ وكان ممثّلها، فالمحلية شكّلت لحمة العالم الروائي لديه وفلسفته في الحياة أيضا، ولكن بقدر ما هو محلّي، فهو كذلك مُنفتح وهو يجعل من الرواية سيرة ذاتية مُتعدّدة الأبعاد، وجعلها قادرة للتعبير عن المطالب التي تحرك الإنسان في كلّ المجتمعات والأزمنة، ولذلك عبر من خلال سيرته الثقافية المبثوثة في رواياته عن ملحمة الإنسان الجزائري عبر تاريخه وثورته ووعيه، دون السقوط في المغالطات التاريخية والإيديولوجية التي يسير فيها معظم الروائيين الجزائريين.
لقد كان مُولعًا بالألوان والنغمات وإن غلبت عليه الحروف التي جعلت منه كاتبًا يسبح بها عبر التاريخ والثقافات واللغات من خلال الذات والوجدان الخاص بمرزاق بقطاش وهو يتمثل ويتفاعل مع الوجدان العام، للتمكن من اِستحداث رواية جزائرية أصيلة، تكتب الحياة ولا شيء إلاّ الحياة. ومن خلال عيني طفل ومثقّف يُلاحظ ما يحدث ويريد أن يفهمه، يترك مرزاق بقطاش جزائره التي يحدث فيها ما لا يحدث.
أحمد حمدي شاعر وأستاذ جامعي
تميّز بإحجامه عن الخوض في المسائل الخلافية وابتعاده عن الأضواء
كان واحداً من أبرز رجالات وأعمدة الساحة الأدبية والثقافية في الجزائر، الذين ساهموا في وضع أسسها العصرية. وقد تميّز من بين الكُتّاب الجزائريين الكِبار بإحجامه عن الخوض في المسائل الخلافية وابتعاده عن حب الظهور والأضواء. وتجنبه الوقوع في دائرة الضجيج الإعلامي، بل ظلَّ يفضل دائمًا العمل في هدوء وصمت؛ رغم أنّه ترعرع في أحضان وكالة الأنباء الجزائرية منذ اِنضمامه إلى هيئة تحريرها غداة اِسترجاع السيادة الوطنية العام 1962. إضافةً إلى أنّه يتقن الكتابة بأربع لغات إلاّ أنّه اِختار وفضَّل أن يبني صرحه الثقافي والأدبي باللّغة العربية حيث أبدع في بلاغتها وبديعها وبيانها، ولا أجانب الصواب إذا قلتُ أنّه من القلائل الذين أبدعوا في جعل العربية لغة الحياة اليومية العادية؛ يتكلمها أبطاله في شوارع باب الواد وحارات القصبة وشواطئ بولوغين وصيادي الأسماك.. ظلّ مُولعًا بالبحر وغرائبه.. مُولعًا بطيور البحر.. جراد البحر.. مُولعًا بطيور الظهيرة والبزاة. ظلَّ وفيًا لمفاهيمه ومبادئه ونظرته للكتابة والأدب باِعتباره القوّة الناعمة القادرة على تحريك السواكن واستشراف آفاق المستقبل. لقد أعطى للمكتبة الجزائرية أعمالاً أدبية رائعة تنحت موضوعاتها من الواقع الاِجتماعي الجزائري عبر منظور يستند إلى الموروث الثقافي من جهة، وملامسة الحداثة من جهة أخرى.
عبد الحميد بورايو كاتب وباحث أكاديمي مختص في التراث
منح للكتابة الروائية خصوصيّة في علاقتها بالمبدع وبالمجتمع
ها هو الموت يَختطف أحد أركان الثقافة الجزائريّة الحديثة.. اِستغرق إسهامه في بنائها مدة نصف قرن. كان مُتواجداً في جميع جبهاتها؛ في الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي، كتبَ المقالات الصحفية بالعربية والفرنسية، ألف السيناريوهات، أنتج البرامج الإذاعية، ترجم. كان إسهامه في كتابة كلّ من القصة القصيرة والرواية باللّغة العربيّة أساسيّا في المشهد الأدبي الجزائريّ؛ منح للكتابة الروائية خصوصيّة في علاقتها بالمبدع وبالمجتمع، لا نعثر عليها عند مبدعين آخرين. تولّى مسؤوليات ثقافية وأسهم في إنجاز مشاريع بكلّ اِقتدار. جميع من عرفه يشهد له بالاِتزان في الرأي والتواضع والمعرفة الواسعة بالثقافة الجزائرية والعربيّة والعالمية، نَبْعٌ من الطيبة لا ينضب، الجميع يحبّه، كلّ من عرفه واقترب منه وجد فيه الرّوح الإنسانية والمشاعر الوطنية الجياشة والإدراك الذكيّ لكلّ ما يحصل في الجزائر، والأفق الواسع في التعامل وفي النظرة إلى كلّ ما يجري حوله.
كتبَ بصدق، وعبرت كتاباته عن حياته وعن أفكاره ومواقفه، لم يُجامل ولم يُداهن، ولا اِستغلّ مكانته وقدراته في الحصول على منصب أو ثروة. كانت له صلات قوية بجميع الأدباء الجزائريين الكِبار الذين تعرّف عليهم وتعامل معهم، وكانوا جميعًا يقدرونه. كان وفيًا لذكراهم لَمَا رحلوا. شارك بحماس في تأسيس جائزة «آسيا جبار للرواية»، كان يُواظب على حضور جميع طبعات ملتقى عبد الحميد بن هدوقة (حوالي 15دورة). كان يأتي إلى برج بوعريريج من العاصمة بإمكانياته الخاصة، رغم ظروفه الصحية وقتئذ، كان يرفض أن تُرسَلَ له سيارة من مديرية الثقافة المُشرفة على تنظيم الملتقى. قَدَمَ في الملتقى شهادات لها أهميتها حول الأديب الراحل والرواية الجزائرية بصفةٍ عامة. كان حضوره يسعد عائلة بن هدوقة المواظبة على حضور الملتقى في جميع دوراته، إذ كان أفرادها يكنون له كلّ التقدير والمحبّة، ويدركون مدى ما يربطه بالروائي الراحل من ودّ ومحبّة وتقدير. لمّا أسسنا جمعية الجاحظية في نهاية 1989، كان لشخصه حضور متميّز، أُسْنِدَتْ له رئاسة مجلة «التبيين»، وكان اِنسحابه لسبب رآه مبدئيًا في علاقته برئيس الجمعية، بدون ضجيج أو اِفتعال معارك جانبيّة.
قَدَمَ المساعدة بكلّ تواضع للطلبة الذين قدموا أبحاثهم حول كتاباته الإبداعيّة، وأذكر أنّي وَجَّهْتُ طالبة في جامعة الجزائر لدراسة أعماله في الماجستير والدكتوراه (الأستاذة ساهل مهدية)، وكان سعيداً بذلك، وتابع عملية إنجاز البحثين بكلّ حرص، وفعل نفس الشيء مع طالب في جامعة تيزي وزو (الأستاذ فاتح كوروغلي من جامعة البويرة)، أشرفتُ عليه في إنجاز بحث حول إحدى رواياته. لبّى دعوتنا لحضور المناقشات الثلاث، وأبدى رأيه حول معالجة رواياته بكلّ تواضع وشفافية.
اِرتبطت أعماله القصصيّة والروائية بحياة المجتمع الجزائري في مختلف المراحل؛ منذ الفترة الاِستعماريّة إلى يومنا هذا. كان حريصًا في كتاباته على تقديم الواقع بأسلوب فنيّ يتميز بالبساطة والعُمق والصدق في التعبير عن موقفه من الوضع السياسيّ، وما اُرتُكِب في حقّ الشعب الجزائري، مثل مقتل الزعيم الوطني محمّد بوضياف، وما قامت به الإسلاموية السياسيّة من جرائم اِغتيال لخيرة أبناء الجزائر. كان لمحاولة اِغتياله الأثر الكبير على نفسيته وكتاباته؛ لم يتقوقع على ذاته وينعزل نهائيًا عن الحياة، بل سخّر تجربته النفسية ومعاناته الجسديّة في التعبير عن الألم الّذي عاناه المجتمع الجزائري في مراحل حياته من خلال كتاباته ومساهماته في النشاطات الثقافيّة.
أولى عنايةً خاصّة بلغة الكتابة، أسلوبه أنيق ومتميز، تربطه باللّغة العربية وشائج عاطفية ومعرفة بتراثها وبأسرارها، يلتقي مع عبد الحميد بن هدوقة في هذا الشأن، ولعلّ علاقتهما المميزة كان من عواملها هذا الموقف من اللّغة العربية. اِضطر إلى الكتابة باللّغة الفرنسيّة بسبب ما وجده من مُعاملات بئيسة من بعض مسؤولي الصحافة المُعربة.
في"الظهيرة"منْ خلودِ كتابةِ"مرزاق بقطاش"في ملكوتها الأبهى
* جمال فوغالي
"آمنتُ بالكتابةِ في هذا الزمنِ الأميِّ بالغاً ما بلغتْ أميَّتُهُ!
آمنتُ بالكتابةِ،بجبالها الشامخة،بأوديتها الساحقة،بغدرانها المعشوْشبة،بصحاريها القفراء، بسماواتها التي تغيِّرُ ألوانها في كل لحظة...
ألسنا بالكتابةِ نقيمُ سدًّا بيننا وبينَ يأجوج ومأجوج؟!
ألسنا بالكتابةِ نقفُ في وجهِ التَّتار وجينكيزْ خانْ وتيمورلنكْ؟!»
المبدعُ مرزاق بقطاش:خيولُ الليلِ والنهار
ما كانَ يخطرُ لي أنْ أتحدثَ عنك بضمير الغائب،فاخترتُ المخاطب،أستاذي وصديقي مرزاق بقطاش!
وقد عدتُ للتوِّ للحياة بعد أنْ أنشبَ الكافُ الكاسرُ غدره بالجسدِ،لأقرأ حزيناً،ممزقَ النبضِ نعيَك!
وخيلَ لي أن الموتَ لن يطالكَ،وهو لنْ يقدرَ على ذلك أبداً...
فأنتَ في خلودِ الكتابة،وقد أوقفت حياتك،كلَّ حياتك للكتابة،وآمنت بها في عنفوانها الشعريِّ وبهائها الأسلوبيِّ وتنوعها المعرفيِّ وثرائها اللغويِّ،فأنت تجيدُ كثيراً منَ اللغاتِ وتكتبُ بها وتقرأ،ولا شيء أنبلَ لديك سوى هذي الكتابة:رفيقةً وصديقةً وحبيبةً وخدناً وعشيرة...
رحمةُ اللهِ عليكَ،في الأولين والآخرين،مبدعاً خلاَّقاً:
قاصًّا متفرداً كالزليج في توهجهِ تماماً،و"كوزة"تشهدُ،وإنساناً طاعناً في إنسانيتهِ الرهيفة،الشفيفة التي على ألسنةِ الناسِ جميعاً وفي قلوبهم وقلوبنا،وصديقاً ما تزالُ «بحَّة»صوتهِ روحاً شاردةً تؤرخُ للدمِ المغدورِ به في السنواتِ العجافِ من الموت المستباح،و»الغزال»من دمِكَ يتقافزُ حارًّا،صادقاً،شاخباً في براري المحبة الخالدة من الجزائر التي تحبها ونكبرها...
وقد كتبتُ عن الروايةِ/السيرةِ التي تقول الموت/موتك،وقد جاءكَ يسعى غيلةً وغدراً،وانتصرتَ عليه انتصاراً كُبَّاراً بالكتابةِ الشاهدةِ والشهيدة،وبقيت هنا طوداً شامخاً ومديداً،لترى القصبة وخليج العاصمة التي تسكنُ حرفكَ،ونشرتُ القراءةَ/الدراسةَ في كتابي»سؤال الكينونة،قراءاتٌ في الإبداع الجزائري المعاصر»:
(دم الغزالِ فيما تمعنُ إمعانها السرديَّ في قولِ الموتِ ومحاولةِ فهمهِ والبحث عن تجلياتهِ بين الكتبِ وعبر التاريخِ ومنْ خلال الذاكرة،فإنها تحكي في الآن نفسهِ عنِ الحياة ولا شيءَ سوى الحياة بما يمورُ فيها منْ تناقضاتِ الساسةِ والسياسيين والقتلةِ والمجرمين واللصوصِ والمنحرفين،ويبدو ذلكَ جليًّا من العينِ الرائيةِ للسارد وهو يلتقطُ التفاصيلَ في مقبرةِ العاليةِ حيثُ مربَّعُ الشهداءِ،وبعين الشاعرِ ذي المنظارِ المكبّرِ وهو يراقبُ بدقةٍ ما يراهُ بمقبرة الحيِّ،ومرزاق بقطاش منذُ لحظةِ الاغتيال حتَّى المستشفى...)(1)
وقد هاتفتكَ منذ ما يزيد عن عامين،لترجمةِ إحدى رواياتك للغة الإسبانية،والجزائرُ،وقتها،ضيف شرف بمعرض الكتاب الدولي بهاڤانا بكوبا،مع ثلةٍ من الكتابِ الجزائريين من بينهمْ الأحبةُ محمد ساري وجيلالي خلاص وواسيني الأعرج والسعيد بوطاجين والمرحوم الرائد عبد الحميد بن هدوڤة،وغيرهم من الجيل الجديد،وأسعدني قبولكَ ذلك،فيما رفض غيرك،والمحبة منك تحتويني،ولم أقمْ إلاَّ بواجبي تقديراً لك واعتزازا بك ونشراً للأدبِ الجزائري،والرواية منهُ خاصة...
رحمةُ اللهِ عليكَ في ملكوت الإبداعِ الذي رفعك إلى عليين من البهاءِ الذي في بهاء إبداعك:
لغةً ومضامينَ وموضوعاتٍ كانَ عند سنامها البحرُ الخضيم وذاكرة المحروسة في البياضِ من أعاليها إلى اتِّشاحها بالأزرق عند انفتاحِ خليجها...
وأنتَ الآنَ في الوضوح من «الظهيرة»في طيران الروحِ إلى خلودها،ألمْ يقلْ مؤسسُ الرواية في»الجازية والدراويش»،كأنهُ يتحدثُ عنك»ودُفنَ في حناجرِ الطيور»...
فأنت للطيرانِ وأنتَ العلامة الفارقة للكاتب الملهِم الذي آوى،كأنما منذ مئين،إلى كهفِ الكتابة التي آمنَ بها،وظلَّ في الرُّشدِ منْ صدقه وصدقها إلى يوم يبعثون...
فأنتَ الآن الحيُّ في الحياةِ الأبديةِ العارفة،وهؤلاء في الموتِ منها وهمُ أحياء...
أفلاَ يعتبرُ الأدعياءُ ممَّنْ يزعمونَ صباحَ العُواءِ ومساءَ الخواء،أنهمْ يملكونَ ناصيةََ الكتابةِ والحقيقة،وهما معا منهمُ براء؟!
(1)جمال فوغالي،سؤالُ الكينونة،قراءات في الإبداع الجزائري المعاصر،المؤسسة الوطنية للكتاب2009،ص:181.
•مرزاق بقطاش،دم الغزال(رواية)،دار القصبة للنشر،2002.