غاب الناقد والكاتب حسين خمري الأسبوع الماضي، استراح بمقبرة زواغي في قسنطينة بعد حياةٍ سريعةٍ وحافلةٍ، وكان رحيله المفاجئ صادماً لأصدقائه وزملائه وطلبته الذين يعرفون قيمته العلميّة. كان حسين خمري من أوائل الذين استدرجوا العلوم والمناهج الحديثة إلى ساحة النقد والدرس الأكاديمي، مخلفاً صدمةً في جامعة قسنطينة التي يؤكد زملاؤه أنّها لم تكن مهيأة لما اقترحه، لذلك لم تستوعبه في بداية الأمر وفي منتهاه. من إصداراته: بنية الخطاب الأدبي، فضاء المتخيل، سرديات النقد ،الظاهرة الشعرية العربية الحضور والغياب، نظرية النص، إلى جانب كتب مترجمة وكتب كانت قيد الإعداد من بينها كتاب مثير عن الأسماء، تحوز النصر مقالات منه.
وفي هذا العدد من «كراس الثقافة» يستعيد جامعيون أصدقاء للراحل سيرته ومسيرته العلميّة، كما ننشر مقالاً من المقالات التي خصّ النصر بها.
عبد الله العشي
تميز حسين خمري عن زملائه بموقف مُتصالح مع التراث
نشتركُ، حسين وأنا، في مشتركات كثيرة؛ ننحدر معًا من مدينة واحدة، كُنا قدمنا إليها من ضواحيها البدوية القريبة، سبقني هو إليها، وجئتها أنا بعد الاِستقلال بِعدة سنوات، لم تكن «باتنة» آنذاك سوى قرية كبيرة، أو قُرى منعزلة، كانت المسافات بين الأحياء تبدو بعيدة كما لو أنّها مسافات بين المُدن، من ينتقل من حي إلى حي كمن ينتقل من مدينة إلى أخرى، وكان كلّ شيء مُختلفًا بين الأحياء؛ السكان والبيوت والمحلات والسلوكات لا شيء يتشابه بينها، كلّ حي مدينة مُستقلة بذاته، وغالبًا ما تنتهي محاولات التواصل بين الأحياء إلى حرب بين شُبانها. كم تغيرت الحياة الآن، وكأنّنا في كوكبٍ آخر!
اِشتركنا في العمر، مِمَّا جعل الصدفة تجمعنا في معهد واحد، هو معهد اللّغة والثقافة العربية كما كان يُسمى آنذاك، 1976، ثمّ يقضي القدر أن نجتمع في حي سكني جامعي واحد هو حي «الفيرمة» كما كُنا ندعوه، اِتسعت حياتنا المُشتركة بعد ذلك، فجمعتنا الغرفة رقم 11 تقاسمنا فيها مشاعر التعاسة والطموح، كنتُ أكثر جدية منه وكان أميل مني إلى العبثية والسخرية لكنّها سخرية تخفي قدراً كبيراً من الحزن بسبب ظروفنا الاِجتماعية جميعًا، كُنا نتقاسم حافلة واحدة بين «قسنطينة» و»باتنة» ومقاهي واحدة ومطعمًا واحد ومساحات واحدة وكُتبًا واحدة ونصوصًا واحدة، وأحلامًا خجولة واحدة، ومناخًا ثقافيًا واحداً، كُنا منخرطين فيه بحماسة كبيرة، وكأنّنا نفتح قارة من القارات، لم نكن سعداء لكن جو الجامعة في نهاية السبعينيات كان من الثراء بحيث أجبرنا على الاِنخراط في متعة المعرفة وسحرها الأخاذ، كان كلّ شيء جديدا بالنسبة إلينا، نحن القادمين من المُدن الداخلية الهشّة، وجدنا بعض البدائل المُمتعة عند اِنخراطنا في الجو الجامعي العام، المليء بالصراعات الفكرية والسّياسيّة خاصة، وكان ما يميزنا أنّنا حافظنا على رؤيتنا العلمية ولم تتمكن أية موجة أن تقلص اِمتدادنا.
نقضي ساعات طويلة إلى ما بعد منتصف الليل نتبادل ما نكتب، نتحدث بكثير من الثقة وكأنّنا نُقاد ونقتنع بِمَا نقول، كان أكثر حبًّا للقصة ولكنّه مارس الكتابة الشِّعرية ثمّ تخلى عنها بسبب مشكلة العروض التي كان يبحث لها عن حل عندي ولَمَا لم يجده تركه، ثمّ تخلى عن الإبداع تمامًا وانشغل بالنقد والبحث الأكاديمي، لا أذكر أنّنا اِختلفنا أدبيًا ولا فكريًا، ولا حتّى في علاقتنا الإنسانية.
قضينا سنتين معًا بجامعة «قسنطينة»، ثمّ غادرتُ أنا إلى وهران، وكُنا نلتقي، بعدها، صيفًا بــ»باتنة»، كنتُ أحمله معي في سيارتي ونلف المناطق الجبلية المُحيطة أو نذهب، تُرافقنا زوجته الدكتورة عليمة قادري، إلى بيت صهره في «عين البيضاء»... ثمّ غادر إلى فرنسا، وكان ذلك تحوّلاً كبيراً في حياته العلمية والوجدانية والعملية.
كانت عودته من فرنسا في أواسط الثمانينيات صدمة له، رافقته إلى يوم رحيله، وكان يمكن أن تكون ميلاداً جديداً له ولجامعته وللثقافة الجزائرية، ولكن، وكأي فِكر حديث لم يتم اِستيعابه ولا التعامل معه بإيجابية وتفهم، كانت التناقضات عميقة إلى حدٍ كبير مِمَّا تسبب في التضييق على قدراته وتعطيلها تقريبًا، ولولا الاِنفتاح الّذي خلقته مشاركاته وكتاباته النقدية في الداخل والخارج لَمَا تمكن من التعبير عن قناعاته النقدية، ولظلّ حبيس بيته. لم تكن الجامعة مهيّأة حينها، وربّما إلى الآن أيضا، لأن تنفتح على الوعي النقدي الحديث، كما أنّها لم تترك له إمكانية الحضور في الوسط الجامعي، لأنّ الصراعات الخفية لم تكن صراعات فكرية في الأساس، إنّما كانت صراعات شخصية للأسف، رغم تفهمي أحيانًا بأنّ التحديث الّذي مارسه بعض الحداثيين كان صادمًا وعنيفًا ولم يُراع الشروط النفسية والاِجتماعية والثقافية للواقع، فكانت ردود الفِعل قاسية ومدمرة أحيانًا لأحد الطرفين.
كان يمكن لأطروحته للدكتوراه التي تحمل عنوان «نظرية النّص» أن تكون حدثًا علميًا وثقافيًا، بحكم رؤيتها المنهجية ومادتها الموضوعية، وربّما تكون نظرية النص لأوّل مرّة تُطرح في النقد العربي عمومًا بهذه الرؤية النقدية الشاملة، ولكنّها للأسف تحوّلت إلى حدث تراجيدي بفعل حالة الرداءة المثالية التي كانت مهيمنة وذات سلطة إدارية بِمَا لا يليق بالثقافة والجامعة الجزائريتين.
ربّما تميز حسين خمري عن زملائه بموقف مُتصالح مع التراث، فخصص أطروحته لتحليل نصوص كثيرة من النقد العربي القديم مُعجبًا بمضمونها ورؤيتها و تنظيراتها، وكتبَ خارج الأطروحة مجموعة من النصوص النقدية تحت عنوان «الأقاويل الشِّعرية» نُشرت في الصحف ثمّ جُمعت في كِتاب، ولم يكن هذا التوازن الفكري من الظواهر العامة آنذاك، لأنّ التحيّز كان غالبًا هو الموقف الّذي هيمن على النقد الأدبي، في ضوء الفهم القاصر لمسألة الحداثة والتراث.كانت عودته إلى الجزائر مُرافقة لاِنعطافة نقدية نحو أمرين سيكون لهما كبير الأثر في النقد الجزائري: الاِهتمام بالسيميائية كمنهج نقدي في قراءة النصوص، والاِهتمام بالرواية بدل الشِّعر كمادة للبحث، وقد اِمتدت هذه الهيمنة للمنهج وللموضوع إلى السنوات الأولى من الألفية الثالثة، حيث بدأت في الاِنحسار التدريجي بفعل التطوّر الطبيعي للبراديجمات المعرفية، وظهور مقاربات جديدة تُقدم نفسها على أنّها الصورة الأكثر مُناسبة لتحليل النصوص ودراسة الظواهر. قد نجد في هذه التجربة كثيراً من التطبيق الميكانيكي الّذي حيَّدَ القيمة الأدبية والفكرية للنصوص، وهي كسابقاتها من التجارب التي كانت في حاجة إلى أن تتواضع وتُقدم نفسها على أنّها مجرّد مُقاربات ممكنة، ولا يمكن إلاّ أن تكون نسبية ومرحلية، كان ينبغي أن تكون مرنة حتّى تستمر أطول مدة، لكن صلابتها ونمطيتها لم تُمكنها من المقاومة أكثر. وتلك هي طبيعة التجارب الفكرية والمنهجية.يُمثل حسن خمري، وزملاؤه العائدون من باريس، مع آخرين في الجامعات الجزائرية، الجيل الثاني من النُقاد الجزائريين، كان الجيل الأوّل جيلاً مُؤسسًا مُهتمًا بالأدب الجزائري، في سياقه التاريخي والاِجتماعي، مُمثلاً في الشِّعر خاصةً، وكان جيله مُنشغلاً بالدراسات النّصيّة خاصةً السيميائيات، وبالسرد بدل الشِّعر. أمّا الجيل الثالث، الّذي يشتغل الآن بكثير من الكفاءة والموهبة، فقد تخلص من النّصيّة وانشغل بالدراسات التداولية والتأويلية والثقافية، وتجاوز حدود النص الأدبي إلى نصوص أخرى مُجاورة له، وانفتح على الفلسفة التي أمدت التجربة النقدية بوعي فكري وجمالي كبير، كان ناقصًا في التجربتين السابقتين. فهل تمّ إدراك هذا التطوّر وتمت متابعته ودراسته؟ نقدنا لا يُراجع نفسه ولا يلتفت خلفه ولا يتأمّل ذاته، يسير مغلق العينين وكأنّه في أنبوب لا يرى إلاّ خطا مُمتدا أمامه. جيل خمري والآخرين جيل مُهم، مهد لِمَا سوف يأتي بشكلٍ مُباشر أو غير مباشر، فبحكم كون هذا الجيل جميعًا أساتذة جامعيين في جامعات مركزية هامة كان لهم التأثير الواضح على طبيعة الدراسة ونوعية التحليلات النّصيّة التي يقدمونها لطلابهم إضافةً إلى هيمنتهم إلى حدٍ كبير على مُلتقيات النقد الأدبي التي تُقام هنا وهناك، وبخاصة ملتقى «ابن هدوقة» الّذي دام لعدة سنوات وكاد يتحوّل إلى مدرسة نقدية واضحة المعالم. لكنّه اِنتهى وأهله إلى ما اِنتهى إليه.
عاش حسين خمري في منظومة ثقافية بيروقراطية عنيفة وناكرة، لا تحمي أحداً في حياته، ولا تحيي له ذكرى عند مماته، كلّ ما يمكن أن تقدمه لهم هو أن تُساعدهم على توفير شروط مناسبة لموت تراجيدي سريع وصامت، ثمّ تُهيل التراب على قبورهم حتّى لا يحدث غيابهم أي صوت أو صدى.
آمنة بلعلى
أجّل الكثير من المواعيد واللقاءات مع الحياة من أجل البحث العلمي
* كانت جوليا كريستيفا تستمع إليه كأنّها طالبة
حسين خمري، ذاك المحاصر بالنصوص، يُغادرها ويُغادرنا، وينسحب من الحياة، التي أرهقه ضجيج من فيها من أدعياء العِلم والأخلاق، ويحمل معه كثيرا من الرُؤى التي راودته في حلّه وترحاله، حتّى بات الرائي الكبير في النقد الجزائري المعاصر.
عرفته حذراً في كلّ شيء حتّى مع الحياة التي كان يختلس الفرح منها اِختلاسًا. أذكر أنّه كان حذراً حتّى في الإفراط في الضحك عندما كنا نلتقي معه في الإقامة الجامعية بباريس أو حين يُرافقنا إلى مكتبة العالم العربي، وكنا من فرط جزائريتنا نستدعي كلّ أسباب الفرح لنضحك، فيرسل هو اِبتسامات خجلى، لئلا يفقد وقاره. دعانا يومًا أنا والصديق بشير مخناش إلى حضور لقاء مع مشرفته جوليا كريستيفا، ولم نرها من قبل وجهًا لوجه، وكم أحسسنا بالغبطة وهو يُناقشها نداً لند في إعادة النظر في مفهوم النص، ويُؤكد لها أنّ مفهوم النص مركزي في الثقافة العربية، بل إنّ الحضارة الإسلامية بأكملها عرفت بأنّها حضارة نص، وأنّ القرآن عُد لدى علماء القرآن نصًا، وكانت كريستيفا بعظمة قدرها تستمع إليه حتّى خلنا أنّه المُشرف وأنّها الطالبة.
لم يكن ذلك سوى تعبير عن إصرار الرجل على جعل أفكاره واضحة وكان ذلك ديدن المتفقهين في العِلم، حتّى أصبح البحث العلمي بالنسبة إليه تصوّفًا، ولذلك أجّل الكثير من المواعيد واللقاءات مع الحياة من أجله كما أعلن ذلك في مقدمة كتابه «نظرية النص».
حدث أنّه توقف عن السفر عبر الطائرة، وجاءنا إلى تيزي وزو مرتين للمناقشة بواسطة القطار، ولما سألته عن سبب ذلك قال باِبتسامة يخفي من ورائها فوبيا ركوب الطائرة لولا القطار لما قرأتُ الرسالة كلها، ولَمَا عزمناه في بيتنا سألني مازحًا عن سرّ صغر حجم قطع البقلاوة عندنا، وظلّ يُكرّرها كلما اِلتقينا وحتّى يوم اِستضافنا في بيته ذكّرني بها، وهو يدعونا إلى تناول الشخشوخة القسنطينية التي اِفتخر ببراعة زوجته الدكتورة عليمة في طهيها.
لعلني من القلة القليلة التي اِكتشفت في حسين خمري كيف يخفي وراء صرامته وجدّيته روحًا مرحة رغم خجلها، لأنّه كما كان يقول (لا يحب التمسخير)، وقدرت فيه ذلك لأنّني أحسست أني أشبهه، ولذلك كانت الصرامة العلمية لديه مقترنة بالخوف والمسؤولية، وخاصة حين يجد نفسه أمام أدعياء العِلم، وإرهاب الرداءة التي يُروّج لها بعض الأساتذة.
على الرغم من أنّه قضى سنوات عِدة في اِمتلاك ناصية المناهج النقدية المعاصرة ومن أعلامها بفرنسا، ولسنوات عديدة، إلاّ أنّ ذلك لم يجعله تابعًا متمرّنًا على آليات لو أراد لأنزل سيلاً من الأوراق منها في السوق، لأنّ هاجس التنظير كان يشغله، ولم يكن يُؤمن بأنّ المنهج هو الحل لإشكالياتنا العلمية، إذا لم يتمثل الباحث المرجعيات والسياقات الفكرية والفلسفية التي تقف وراء المنهج، من أجل أن يُفكك نظرياتها، فيفر حينذاك من سطوتها الإيديولوجية التي تقف رقيبًا على قُرائها، ويتمكن من تطويعها، ليجعلها هي التي تقترب منه وليس هو فتستمع إليه، وتتفاعل مع وجهة نظره التي اِستقاها من تراث نقدي رأى فيه ما لم يره في النقد الغربي، فجعل أعلامه وفي مقدمتهم أستاذته جوليا كريستيفا وجهًا لوجه أمام عمالقة الفكر العربي كالجرجاني وابن رشد وابن حزم والآمدي وغيرهم، ليثبت بأنّ الأفكار والنظريات العظيمة لا جنسية لها، وليست حكراً على الغرب، ولذلك ينبغي أن نحاورها ونُفكّكها ونُراودها أحيانًا لكي تسفر لنا عن مكنوناتها ومفاصلها.
ولعلّ هذه المُراودة الذكيّة هي التي جعلته يكتشف أواصر التقارب في مفهوم النص بين الفكر العربي والغربي، لتنتهي به إلى تواطؤ جميل مع النص، سمح له بعد سياحة طويلة في مرابعه بأن يتحدّث عن نظرية جامعة، تلخّص فهمه له باِعتباره لعبة لا متناهية من العلامات مثله مثل الحياة التي يقضيها الإنسان مُحاصراً بالنصوص فيها كما يقول، ولذلك، ينبغي عليه كإنسان اِستوعب لعبة الحياة هذه أن يُحرّرها، ويُنتجها ويلعب بها أحيانًا -ومفهوم اللعب مفهوم جوهري في أطروحة الرجل- وكذلك يستهلكها، ويتزيّن بها، وتلك هي رحلة الإنسان مع النصوص كما رآها، وهي نفسها الرحلة مع الحياة التي خبرها، وفهم طبيعة العلاقات التي تجمع بين أفرادها وكره صُناع الرداءة فيها، ومن داخل الجامعة التي كان يعمل فيها، ومع من حاربوه فيها. ولذلك كان أحيانًا يُواجه عُنف الرّداءة والتملّق بعنفٍ شفيف، يُحدِث ذعراً أمام كلّ من تسوّل له نفسه مُنازعته أو مُحاورته دون أن يتسلح بِمَا لم يتسلح به هو، وهو العارف بخبايا النصوص والمفاهيم والنظريات دون اِدعاء ولا تهريج ولا هدف للتظاهر، لأنّه يُدرك تمامًا أنّ الكلمة مسؤولية وأنّ الناقد الحقيقي هو من عليه أن يُشعر بالذعر والخوف حين يجد نفسه أمام قداسة القول أو حتّى فظاعته، حينها يُصبح نقد النصّ مجرّد اِحتمال وليس حقيقة نُدافع عنها وننتصر لها، ونفتخر بها. لقد شغلت حسين خمري مسألة التمثل الواعي للمعارف واِستيعاب سياقاتها الفكرية والثقافية بكثير من المقاومة التي مكّنته من معرفتها وتفكيكها وجعلها مطواعة مُستسلمة له، لينتهي إلى صياغة خاصة بإنتاج معرفته هو، ومحاولة بسطها للقارئ، وقد كان ممن يحترمون القارئ، فيستحضر حالاته المُختلفة سواء الطالب الّذي يُدرسه أو الباحث الّذي يُناقشه، أو الأساتذة الذين يتوجّه إليهم في محاضراته أو القارئ لكُتبه النقدية العالمة المُتبصرة التي تعكس نموذجًا نقديًا شغلته الفكرة فسعى إلى توضيحها وشغلته العلامات فعمد إلى اِستنطاقها وألهمته النصوص التي حاصرته، فعاش في منظومتها العلامية متصوّفًا فيها، مُتنقلاً بين مقامات الدوال مُمتطيًا أحوال المدلولات، مُقتفيًا أنساقها المُضمرة، تاركًا بعد اِنسحابه من الحياة فراغًا لا يمكن أن يملأه أحد..
يوسف وغليسي
عاشقُ السيمياءِ، السيّءُ الحظِّ تماما كما كان شارل بيرس!!!
عرفتُ أستاذي المرحوم حسين خمري شابّا ثلاثينيا في بدايات دخولي جامعة قسنطينة، وقد سخّرتْه لنا الأقدار كي يدرّسنا مادة (النص الأدبي)، في عزّ انشغاله بمفهوم النص الذي اتّخذه موضوعا لأطروحة دكتوراه الدولة.
كان مدجّجا بالمعرفة النقدية الفرنسية الجديدة، التي تلقّينا منها عبر دروسه رصيدا ضخما من المفاهيم والمصطلحات وأسماء الأعلام وعناوين الكتب التي لم يكن لنا سابق عهد بمعظمها.
كان جادّا في محاضراته إلى حدّ لا يطاق! .. متجهّما لا يكاد يعرف الابتسام والمزاح (كلّ ذلك مضيعة لوقت الحصة الثمين عنده!) .. سخيّ العطاء المعرفي إلى حدّ الاستبداد بالحصة المطلقة من الكلام !؛ يتوجّس خيفة من أيّ سؤال «مشبوه» خارج عن حدود اللياقة العلمية!...
قد تُعوزه البلاغة البيداغوجية وطرائق التوصيل حينا، لكنّه كان يصرّ على إعطاء أقصى ما في ذاته العارفة، مع التطرّف في نكران تلك الذات! ...
حين نخرج من حصّته، وقد توثّقت علاقتنا به علميا وأخلاقيا، ونصادفه في الخارج، نفاجَأ بكائن آخر غير ذاك الذي كنّا معه؛ يطلب من أحدنا سيجارة ثمّ ينطلق في حكايات لا حدود للمرح والابتسام فيها!...
ومع التدهور العلمي والأخلاقي الذي أصاب الجامعة في السنوات الأخيرة، انقلبت مزاياه الذاتية (الجدّية العلمية، الالتزام البيداغوجي، الصرامة المعاملاتية،...) إلى عيوب في نظر الغير؛ وصار الأستاذ عدوّا افتراضيا لطلبته الذين مهما أعطاهم قالوا : هل من مزيد (تماما كجهنّم!)...
لا أنكر أنّنا اختلفنا كثيرا، لكنّني كنتُ دوما أصفّق لهذا الرجل الذي يأبى أن يتنازل عن مبادئه أو ينتقص من مردوده، كنتُ دائم الإشادة بعلوّ سقفه العلمي والتزامه بواجباته البيداغوجية التي كثيرا ما يبدأ التقصير فيها (لدى غيره) كلّما ارتقت رتبهم العلمية!
ومن ذلك أنّني (وقد صرتُ أستاذا زميلا لأستاذي) كنت كثيرا ما أشيد بجهوده النقدية أثناء تقديمي لدروس النقد المعاصر، ومن أغرب ما صادفني ذات محاضرة أنني ذكرتُ للطلبة اسمه ضمن أسماء عربية أخرى مؤسِّسة للمنهج السيميائي في النقد العربي، فوقف جمع كبير منهم مستفهمين باستغراب حادّ : هل تقصد ذلك الأستاذ الذي يدرِّسنا تلك المادة؟!
وحين أجبتُ : (نعم! أم أنّ زامر الحيّ لا يُطرب؟!)، ازدادوا استعجابا واستغرابا (وبعضهم راح يغرق في ضحك سرّي خبيث!)، ثمّ قالوا : لكنّنا لا نفهم شيئا ممّا يقول!!!
ساعتها تذكّرتُ صورة أستاذي إذْ ينقطع صوته ويحمرّ وجهه كلّما أفسد عليه طالب نشوة كلامه المرفوع إلى سقف علمي عالٍ يأبى الانحدار، وتخيّلته كيف ييأس وينتكس وهو يواجه طلبة براغماتيين إلى حدّ لا يُطاق؛ مبتغى عمومهم من العلم لا يتعدّى إملاء الكلام البسيط الذي يُتوقّع أن يكون موضوعا لسؤال الامتحان!
طلبة يقيسون أساتذتهم بمقدار ما يمنحونهم من علامات، وقد كان المرحوم حسين مصنّفا في ذاكرة الطلبة (غير النجباء) ضمن الأساتذة ذوي الأيدي المغلولة إلى العنق!
لا أدري لماذا أجد شبها كبيرا جدّا بينه وبين مؤسّس السيميائيات الأمريكية شارل بيرس (ت.1914م) الذي مات (بحسب ما قرأتُ عنه في «السيميائيات والتأويل») معزولا معدما محروما، لأسباب لا علاقة لها تماما بعبقريته العلمية، بل لمواقفه وحالاته المزاجية؛ لم يكن بيرس اجتماعيا بما يكفي، ولا براغماتيا (برغم أنّ صديقه الوحيد هو ويليام جيمس!)، كان مجرّد أستاذ مؤقت في جامعتيْ هارفارد وجون هبكنز، لكنّه أستاذ فاشل (في نظر مجتمعه الجامعي)؛ يُخاطب طلبته دون أن ينظر إليهم، ولا يتكلّف تبسيط أفكاره العميقة، لقد كان على حدّ تمثيل أحدهم «بائعا فاشلا، لا لأنّه لم يكن يمتلك بضاعة جيّدة، بل لأنّه كان يطردُ الزبناء»! .. ومن المفارقات العجيبة أنّ جامعة هارفارد التي لم تحتمله أكثر من موسمين جامعيين اثنين، وفي صورة أستاذ مؤقّت لا أكثر، قد وجدت نفسها بعد موته تحتفي بتراثه المنطقي السيميائي الرهيب، وتشتري مجلّداته الثمانية المخطوطة بسعر المزاد، بعدما كانت زاهدة فيه حيّا!
فهل كان أستاذنا الراحل قريبا من بيرس، وقد انشغل بتقديم فكره السيميائي ما يقارب أربعين عاما؟!...
لقد رحل الناقد الذي كان معوّلا عليه؛ مذ وأدَ المبدعَ في أعماقه، وتخلّى عن محاولاته الشعرية والقصصية الأولى (التي شهدتها مجلة آمال، والضاد، والنصر،...) ليتفرّغ للمسؤولية النقدية العلمية الجديدة التي قادته إلى السربون منتصف الثمانينيات؛ حيث كان اللقاء الثوري الحالم مع صاحبة (ثورة اللغة الشعرية)؛ البلغارية المتفرنسة جوليا كريستيفا التي أشرفت على أطروحته لدكتوراه الحلقة الثالثة، وشحنتْه وسحرتْه بـ «سيماناليزها»، فعاد إلى بلاده في صورة عرّاب للفكر المنهجي الحداثي (البنيوي والأسلوبي خصوصا) الذي لم تكن جامعته الأم (قسنطينة) مهيّأة لاستقباله آنذاك، فكان الصدامُ شرّا لا بدّ منه في حياة رجل مسالم بطبعه!
ثمّ كانت الاستراحة الحربية والهدوء النسبي، وكان لا بدّ من اللوذ بالتراث سبيلا إلى تعايش الماضي والحاضر، فكانت (نظرية النص في النقد المعاصر) والتأصيل لها في التراث العربي ميدانا وسطيا لدكتوراه الدولة التي لم يجد أفضل مشرف عليها من عالم خبير جمع بين الحسْنيين كالدكتور عبد الملك مرتاض الذي غاب عن اليوم المشهود (يوم المناقشة)، وترك طالبه يخوض حربا بمفرده، حينا مع رفيق دربه/ أخيه في السيمياء رشيد بن مالك (وقد صار مناقشا له) وأحيانا أخرى مع أستاذه اللذوذ المرحوم عمار زعموش، وقد خرجت المعركة عن قواعدها، حتى وجد رئيسُ اللجنة (د. الأعرج واسيني) نفسه مجبرا على التدخّل كل حين لتهدئة الأجواء وإعادة التذكير بقواعد اللعبة العلمية!
ولولا حكمة واسيني لانتهت المنازلة، بتوقيف من الحكم، ودون فائز!
لعلّ ذلك اليوم المأساوي كان سببا في انعزال المرحوم عن مشاهد «الفرجة» العلمية، والنأي بنفسه عن مظاهر الضجيج والتهريج والاعتداد بالنفس، فكانت الكتابة ملاذه، وإن تأخر في نشر كتبه؛ أذكر أنّه أهداني كتابه الأول (بنية الخطاب الأدبي)، عام 1994، مصحوبا بإهداء لفظي لطيف، أردفه بكلام شفهي يأسف فيه على النشر المتأخر؛ قائلا لي : (كِي شابْ عاد عندُو كتاب!)، وقد كتبتُ عنه عرضا مطوّلا في جريدة (الحياة) يومها، وقبلها كنتُ قد نشرتُ في أسبوعية (النور) حوارا نقديا مطوّلا معه سنة 1991، ثمّ نشر (فضاء المتخيّل)، و(نظرية النص)، و(سرديات النقد)، و(الظاهرة الشعرية العربية الحضور والغياب)، ... وترجم كتبا أخرى، ثمّ أخلد إلى الصمت الأبدي.
هل كان يستعجل الرحيل، فلم نقْوَ (أنا وصديقي سليم بوفنداسة) على لفت انتباهه وهو يقود سيارته بسرعة الموت، ونحن نلوّح له بملء أيدينا؟!
وهل كان يتحسّس موتَه قبل سنوات قليلة حين طلب منّي أن أعيره كتاب رونان ماكدونالد (موت الناقد)؟ !
هل كان يرهص بوداعه الليلي الأخير حين نشر قصيدته (وداع في حدود المساء) في مجلة (آمال) سنة 1978 ...
كلّ الطرق التي كانت تؤدّي إلى سوء حظّه في الحياة، صارت تؤدّي إلى الموت !!!
فالوداع الوداع أيها العاشق السيميائي السيّء الحظّ!
تغمدك الله بشآبيب رحمته وأسكنك جنات النعيم!
فراد رياض خير الله
الباحث الذي نمقت ربطة العنق
كنتُ قد انقطعت حينها عن مقاعد الجامعة منذ عقدٍ من الزّمن، و أنا من ولج أبوابها – بمعهد الترجمة بالعاصمة - في أعقاب أحداث الخامس من أكتوبر 1988 وغادرها بعد اغتيال مـحمد بوضياف في شهر جوان 1992 !
و بعدها...كان الانتكاسُ و سنواتُ الجمرِ و الرّعد و البرق و خريف صقيعيّ في ربيع العمر، حتى بلغ مسامعي من أحد معارفي عن افتتاح قسم الترجمة بجامعة قسنطينة .القسم كان فتياً و بحاجة لأساتذة من أهل الاختصاص، لم أهتم للأمر كثيراً لأنّني ظننت أنّني لم أعد أصلح لشيء ، لكني في خريف عام 2002 وجدتني بعمارة الآداب بجامعة قسنطينة ، قاصداً قسم الترجمة . قيل لي أن رئيس القسم هو « حسين خمري» ، وقفت قبالة كاتبة رئيس القسم طالباً مقابلته، أدخلتني مكتبه ، كان منكباً على ضبط بعض الوثائق الإداريّة ، أحسستُ أن الرّجل لا يليق به ما هو عليه ، المكان حيث كان و حيث كنا أنا و هو، هذا المكان ما كان ليخلق له، ليس الجامعة بل المكتب، شعرتُ أنّ في الأمر خطب ما،غريب و نشاز. قدمت له نفسي و لم تكن السيرة الذاتية المرقونة أو الكتابيّة قد فرضت نفسها بعد ، لم يمهلني و بادرني على عجالة : مرحباً بك أستاذ !
بعدها بأسبوع صرتُ ألتقي به كل يوم تقريبا، لا يكلّ و لا يملّ ، و هو الذي دفعه حبّه للترجمة و لرفع التحدي إلى تولي منصب رئيس القسم، بحكم علاقتنا في أول أطوارها لم أسمعه قط يشتكي من وزر المنصب الإداري و هو الذي أسرّ لي و لبعض الأساتذة في خضم الأحاديث الحميميّة الغاليّة جداً على قلبه أنّه لم يكن من محبي ربطات العنق و يتفادى قدر الإمكان « ربطها حول عنقه « حتى في المناسبات الرسميّة و الرسميّة جدا و نال حظه من التوبيخ اللّبق من مدير الجامعة في زمن مضى بسببها فاضطرّ أحد الزملاء إلى استلاف ربطة عنق من حيث لا يدري حتى يستكمل المراسيم الرسمية، أذكر أنّه كان يقصّ علينا القصّة و حين يقصّ عليك المرحوم حسين خمري قصّة ، يصير طفلاً في الخامسة لم يفطم بعد، يتحول بقدرة قادر إلى صبي ضلّ طريقه إلى عالم الراشدين أو أقحم فيه إقحاما،لا يد له في ما أصبح عليه ، تصير عيناه شعلتان من بوح و رماد، و تصير ضحكته مبحوحة متقطّعة ، حينها فقط كنت أشعر به و أحسّ إنسانيتة التي كان المنصب الإداري و ما يترتب عنه من لعب أدوار لا نقوى عليها و على حمل أقنعة من فولاذ و من معادن رخيصة.
كان الأستاذ حسين خمري رحمة اللـه عليه ، يخصّني بمعاملة خاصة، فأنا لم أعد ذلك الطالب الشاب الذي تخرج لتوه ، كنت في الثلاثين و أب عيال، و بحكم عامل السن و عشقنا للأدب ، كنت قارئا شغوفا و كان كاتبا فذا لا يجف قلمه ، مزدوج اللغة و متعدد المشارب ، متفتحا على الآداب و على الآراء ، يجيد الإنصات للآخر كلّه روح صاغيّة لما تقول، و يدعك تكمل حديثك حتى تكتمل فكرتك، و بعدها يستأنف ما بدأت به ، مستكملاً إياه أو معقّباً أو ناقداً.
قبل نهاية السنة الجامعيّة ، أبلغنا بتنظيم مسابقة الماجستير بقسم الترجمة ، و لن أنسى له ما حييت صنيعه، زوّدني بمراجع في نظريات الترجمة و راح يمازحني : «في الترجمة التحريرية راك قادر على شغلك» و بالفعل ، كان لي ما تمناه لي المرحوم و ما تمنيته. نجحت في مسابقة الماجستير في قسنطينة و بعنابة و راح يفاخر بي أصدقاءه بضحكاته الصبيانية البريئة، لم أره منشغلا بشيء انشغاله بالدفعة الأولى لما بعد التدرج لقسم الترجمة ، كان تحدياً أكاديمياً أكثر منه شيئا أخر، كان مولودا جديدا في مرحلته الجنينيّة و كان حريصاً على أن يرى النور كاملا دون شائبة.
في السنة النظريّة للماجستير ، أشرف على تدريسنا و كانت لي الفرصة أن أكتشفه أستاذا و ليس إداريا، أدركت أنه من الصّعب أن تفهم مايقول الدكتور خمري، كان يجاهد نفسه في تبسيط الأمور حتى تكاد تتميع و تصير فضفاضة دون معنى، أحسّ بما نعانيه في درسه ، كان يستقبل وجومنا بابتسامته التي عهدناها ، تشبه ابتسامة « كلارك جابل « الممثل الأمريكي الشهير في زمانه، ابتسامة تركن حركتها في أقصى الشفتين، على خجل، ذاك الخجل الذي كان يلازمه في ما يشبه الحياء و حياؤه لا يفارقه لأنّه كان رجلاً كما يقول الفرنسيون : Un homme vrai ، كيف أترجمها يا دكتور، يا أستاذ خمري ، هل تستعصي علينا الترجمة أم اللّغة و عبقرية اللّغة التي تأبى ذلك ؟ذكرني و أنت لم تعد بيننا ، أنت في مقامك هناك.
« الرجل الصحيح « لا أظن ذلك ، ما رأيك في " الرجل الفعلي " " الرجل النزيه"
ها أنذا لا أجد لك وصفا إلا في لغة موليير ، و كأن صفتك التي تليق بك ،على الأقل بالنسبة لي، لن أجدها في لغتك و لغتي الأم يا ابن الأوراس ، ربما هي من محاسن الصدف - و اللّغة- أن بني جلدتك لم ينصفوك حياً و لا ميتاً و قد بلغني– رحمة الله عليك و علينا أجمعين – أنه لم يحضر جنازتك سوى عدد محدود من الأشخاص، فكيف للغتك أن تنصفك ؟
أشهد ، ما دمت حيا ، أنّك كنت الخادم الأمين للعلم و للطلبة طيلة مشوارك على رأس قسم الترجمة و أنك فضلت الانسحاب حين صارت مطمعا للطامعين ، ففضلت الانصراف دون جلبةٍ و انشغلت بالبحث و الكتابة حين انشغل الآخرون بحفريات الوصوليّة ، فلم تجعل من منصبك مطية لأي امتياز كان و ما درجتك العلمية و الأكاديمية إلا بفضل ما أوتيت من علم و حياء يستعصي على من وجهوا سهامهم إلى صدرك ...
سنتذكرك يا أستاذي ...و مثلك نص فضاء متخيله يسع كل قلوب من عرفوك عن قرب أو من إسهاماتك الفكرية ، و مثلك يا أستاذ لا يقوى النسيان على ذكراه، كالترجمة كما علمتنا
لا تقبل و لا ترضى بالمستحيل ...هنيئا حيث أنت، بابتسامتك الحيية ، لم تخسر شيئا، سوى لوعة الحاجة و أبنائك، لكن الله سينصفك ...
حسين خمري
سرد الذّات و مخاتلات المسمّى
قد نجد أن الاسم يصبح هدفا للتصفية، القضاء على الاسم ومحوه هو قضاء على منظومة إيديولوجية ونظرة سياسية اجتماعية تبدو نشازا في فضاء يتبنى قيما تتعارض مع مواقف المسمى، «لأن الأسماء إشارات حية لنظامنا الحياتي بتقاليده ورموزه. (سيرة المنتهى 132) الاسم لم يعد ثقيلا وحسب ولكنه أصبح هدفا للتصفية. يعرض واسيني الأعرج تراجيدية الاسم بكثير من الحلم والحنين، رغم تسببه له في العديد من المشاكل في فترة من فترات المجتمع الجزائري، قبل أن ينطلق في فضاء أرحب فيتحول إلى أيقونة.
اسمه لم يعد بحاجة بأن يرفق بلقب العائلة، سواء بعده أو قبله. اسم فريد في جنسه، غريب في معناه، رغم أنه يصرح بأنه لم يكن استثناء عظيما في هذه الدنيا، ولم يكن الآه صغيرا، لكنه لم يمر على هذه الحياة كغيمة جافة، (ص 42) هذا الاعتراف يتكرر أكثر من مرة في روايته، وربما ردا على بعض الانتقادات حول طريقة سرده للأحداث.
قلت واسيني اسم فريد، لا أعني بالفرادة أي تميز أو إعجاب، ولا هو حكم قيمي ولكنه مجرد توصيف. فأنا شخصيا لي كثير من الأصدقاء في ناحية الغرب الجزائري، ولكن هذا الاسم بالنسبة لي غريب و ربما نادر.
لم أسأل واسيني عن اسمه طيلة المدة التي قضيناها في باريس حيث كنا نتقابل يوميا، تقريبا، وتحدثنا في مواضيع شتى، منها الجدي ومنها ما هو غير جدي. لست أدري لماذا لم أطرح عليه السؤال. ونظرا لندرته، فإن الروائي يحس بنوع من الحيرة، فيطلب من أمه، «ميما أميزار»، أن تحكي له قصة اسمه، مثلما فعل صموئيل شمعون تماما، لأن وراء كل اسم قصة، سواء كانت هذه القصة معلومة، أي ترتبط بحدث عائلي أو اجتماعي أو مجرد إحساس يصعب تفسيره في بعض الأحيان.
الحيرة تصيب المسمى الذي يطلب تفسيرا لاسمه، ليس التفسير بمعناه اللغوي، لأننا يمكن أن نفسره بالمواساة، كما يمكن يعني باللهجة المحلية المساعدة. تتحسس الأم حيرة ابنها تجاه اسمه، فتجيبه، حتى دون أن يسألها «لكن أنت قصتك مع الاسم تختلف.»(ص129) إذن هناك قصة وراء الاسم، لكنها قصة مختلفة.
الأسماء في القرية، وفي المجتمعات الزراعية ترتبط بالفصول والظواهر الطبيعية والمناسبات الدينية. المولود واسيني، ليس استثناء، ولد فجر عيد الأضحى، القضية بسيطة ستحتفل العائلة بعيدين، عيد الأضحى وعيد ميلاد طفل ذكر طال انتظار الأم له بعد أن سبقه عديد البنات. لم يجد الجد صعوبة ولم ينتظر رأي أحد، لا من العائلة ولا من المهنئين والمباركين: «سيكون اسم حفيدي اليوم مباركا: عيد.»(132) اقتراح الجد اعترضته أم المولود، والاعتراض في هذا السياق تجاوز للأعراف، خاصة إذا كان موجها ضد الجد، السلطة المطلقة في العائلة التقليدية. أوامره لا ترد حتى لو كان فيها مضرة للآخرين وأقواله لا تراجع. تنتقل نبرة الأم الاحتجاجية إلى توسل"أنا في عرضك يا عمي، لا تحرمني من ابني."(132) كيف لجد أن يحرم زوجة ابنه من ولدها؟
شيء غريب، وهو الذي رقص فرحا عندما أعلم بازدياد مولود ذكر. هل الاسم الذي اختاره الجد، عيد، اسم قاتل، أليس اليوم يوم مبارك. الموقف بدا فيه الكثير من الغموض وحتى الإرباك. المطلوب من الأم، وهي لا زالت في حالة نفاس أن تبرر هجمتها الشرسة تجاه الجد وتترجاه لقبول اعتذارها. لقد أصيبت بالرعب لمجرد أن نطق الجد، الرجل الذي لا يرد له قرار. فكان عليها أن تعترف وأن تسرد عليه حلمها.
الحلم في بعض الأحيان نبوءة ويتعين الالتزام بها، لأن مخالفتها تنجر عنها أسباب مخيفة قد تكون الموت أو العدم. المولود كان قد سبقه حلم أي ولد في الحلم قبل أن يولد في الواقع، لقد بشر به «سيدي أمحمد الواسيني، الولي الصالح المعروف بكراماته وبركاته ... فقد قضى العمر كله زاهدا في الدنيا واختار خلوته التي مات فيها.»(ص 131) إذن الاسم قد يكون التبرك بالولي الصالح والزاهد العابد. الأم لم تكن تعرف صورة هذا الولي لأنه كان قد مات منذ زمان، وجاء إلى الأم، التي ربما قد بدأ المخاض يراودها، فعرفها بنفسه وأعلن لها عن مهمته. الصالحون لا يأتون إلا لمهمة، ليس لهم وقت للتلهي: «أنا أمحمد الواسيني .... سترزقين ذكرا وسيكون له شأن في هذه الدنيا ...(ص 131) يكشف لنا الحلم عن هوية الفارس القادم الذي يمتطي حصانا عربيا أصيلا، لكنه يحمل أيضا بشارة، وأي بشارة بالنسبة لأم رزقت بنات وتتمنى أن يكون لهن أخ يحميهن.
لم يتوقف طيف الولي الصالح سيدي أمحمد الواسيني عند الإعلان عن قدوم مولود ذكر، ولكنه قدم للأم طلبا وتحذيرا في الوقت ذاته. مخالفة الطلب تؤدي إلى السقوط في المحظور (أي كثير الآفة وإن الجن تحضره، مختار الصحاح). المخالفة هي خرق لميثاق بين الأم وطيف الرجل الصالح، يبدأ بالطلب الذي هو في الحقيقة أمر»لا أطلب منك شيئا سوى أن تسميه باسمي لأتمكن، بقدرة المولى، من حفظه من أي مكروه.» وهل لأم أن ترفض مثل هذا الطلب وهي التي حرمت من الولد الذكر، وفوق هذا يحمل اسم ولي صالح تداولت الأجيال حكايات كراماته وامتثلت لأعماله الصالحات.
لم يتوقف الولي الصالح عند الطلب - الأمر ولكنه وجه للأم المقبلة على الوضع تحذيرا «لكن إذا أسميته بغير اسمي يكون كل شيء قد خرج مني.»(ص 131) مخالفة الأوامر تعرض المولود إلى الموت، وربما الخطف من طرف كائنات غريبة غير منظورة. التهديد نفسه نقلته الأم إلى الجد الذي خضع لأوامر الولي لأنه يعرف قوته و سلطانه.
اختيار الاسم في رواية "سيرة المنتهى" يعود لأسباب دينية، مثلما حدث في رواية «عراقي في باريس» وفي الحالتين فإن الأم هي التي تختار الاسم لأنها هي مصدر المولود ويقصي صوت الرجال لأن للمعتقد سلطة عليا لا يصح مناقشتها والاعتراض عليها. ما حدث فعلا أن المولود واسيني يحمل اسم سيدي أمحمد الواسيني. لكن لماذا، حسب قصة الراوي، أسقطت المولود «ال» التعريف، هل يعود ذلك إلى تغير السياق التاريخي والاجتماعي، أم لتمييز الولي الصالح عن الكاتب الروائي؟
يزول الغموض نهائيا حول غرابة الاسم «واسيني» وندرته، وقد تكون القصة التي جاءت في رواية «سيرة المنتهى» مجرد تخيل وأن الحلم مختلف. يجب الحذر من الخلط بين المتخيل والواقعي، وبين الحقيقة والتخييل. القارئ الواعي هو من يميز بين المقولات ويأخذ كلا منها في سياقها، لأن الرواية كلها تتطور وتتفاعل أحداثها داخل حلم كبير، أي منامة يعبر من خلالها الراوي البرزخ متوجها إلى سدرة المنتهى، على طريقة ركن الدين بن محمد بن محرز الوهراني، الحياة والتنقل داخل السديم.Juan Goytisolo
إن غرابة الاسم وندرته، أي قلة تداوله تجعله يقترب من الأسطورة، أي يمكن أن يكون اسما مستعارا، وهي ممارسة معروفة في الأدب بين الفنانين، اختيار اسم جديد مثل اختيار علامة تجارية، سواء لأن الاسم يبدو «غير فني».
، أو استعماله كقناع للتخفي والهروب من سلطة أقبيلة أو أي لسلطة تشبه بها، بما فيها سلطة المجتمع. وهذا ما جعل الكثير يعتقدون اسم واسيني «خاصا وإيحائيا وربما غير حقيق أيضا. مجرد اسم مستعار، لأنه نادر ومحصور بين سواحل وهران وأمسيردا وسواحل الناظور البربري في المغرب.»(ص 132) وأنا شخصيا، ربما علاقاتي كثيرة بسكان هذه المنطقة من الجزائر، إلا أنني لا أعرف إلا شخصا واحدا بهذا الاسم والذي هو الروائي واسيني الأعرج.
ولكن أليست الأسماء كلها مهما كانت غريبة ونادرة أو مألوفة ومتداولة هي استعارات «لهذا الأسماء ليست أكثر من استعارات تتغير معانيها الداخلية.»(ص 409) وهذا يعود إلى عدم تطابق الاسم مع المسمى، أو لأن اختيار الاسم يكون لأسباب مختلفة قد تصل إلى حدود اللامعقول. كما أن الأماكن لها أسماؤها، فإن اسم الإنسان تتنوع و يتلون حسب تغير المكان، ولكي ينسجم مع المكان، وأن لا يصبح عنصر نشاز فيه.
يحاول الراوي التخفيف من حدة غرابة الاسم، و لهذا فإن هذه العلامة الاسم تتفرع غلى ثلاث إشارات، كل علامة يتم تداولها في فضاء معين وضمن جماعة محدودة. هذا ما صرح به الروائي لمينا التي تشتغل في الدار الكبيرة تحت رعاية عيشة الطويلة «واسيني، لكن ينادونني سينو في الثانوية، و لزعر الحمصي في القرية.» (ص 286). إذن لكل فضاء اسم. واسيني على أغلفة الكتب وارتباطه بنشاط الكتابة والتواصل الأدبي، وفي الإدارات والوثائق الرسمية، وهذا معروف من قبل الكثيرين، وحتى الذين لم يقرؤوه سطرا واحدا مما كتب، أما سينو، والذي ظهر أول مرة، وباحتشام كبير، كما اعتقد، في رواية «أنثى السراب» فهو اسم كان متداولا بين زملائه في الثانوية، أي أنه انتهى منذ أربعين سنة أو يزيد، وكما تفرق من كان يستعمله ومنهم من لم يعد من أهل هذه الدنيا. ومن بين هؤلاء نجد الكاتب الاسباني سرفانتس، لم يكن طالبا في ثانوية ابن زرجب ولكن اللقاء الأول بين الروائيين كان في الثانوية نفسها عن طريق أستاذ الفرنسية، فبقي يناديه بهذا الاسم سينو لأنه ما زال يراه طالبا في الثانوي، ولأن العلاقات بين الأشخاص عادة ما تحددها اللقاءات الأولى فيتم التوافق أو التنافر.
أما الاسم المتداول في القرية لزعر الحمصي، فإنه ملغز. إذا كانت لزعر تفيد الأشقر المائل إلى الحمرة، أي لون البشرة إلا أن صفة الحمصي تظل صعبة التفسير، فما كل الأسماء تفسر وتفهم.
إذا كان الاسم يتجاوز كونه مجرد علامة، فإنه يرتبط بممارسات اجتماعية وقيم إيديولوجية فيحل الاسم محل المسمى، فينتقل الاهتمام من الشخص إلى العلامة، ويصبح القضاء على الاسم ضرورة أكثر من القضاء على المسمى. يورد صاحب «سيرة المنتهى» قصة تراجيديا الاسم، أي العلامة التي تصبح هدفا للإلغاء والإزالة. قد يتخذ الإنسان مواقف عدة من الأحداث تتعلق بحياته فيها ما يسره وفيها ما يزعجه، أما أن يقرأ خبر موته فهذا يخرج من دائرة المعقول إلى دائرة الجنون. فقد أعلنت جريدة اغتيال الروائي الجزائري واسيني الأعرج. تناقلت وسائل الإعلام الحدث، وكنت آنذاك باحثا متفرغا في جامعة السربون فسمعت الخبر من قناة «إذاعة الشمس» التي كنا مشدودين إليها ولا نسمع إلا أخبار الدم والاغتيالات، خاصة وسط الجامعيين والمثقفين.
كنا نلتقي تقريبا يوميا، أنا واسيني إما في الجامعة أو مقهى الانطلاق بنهاية شارع «سان ميشال» Saint-Michelبمجرد سماع الخبر اتصلت به، فقابلني بإجابة ساخرة، فيها الكثير من الفكاهة «أنا أكلمك من القبر.» بعدها انتقلنا إلى المجاملات، لأن كل واحد منا كان يريد التخلص من موقف لا يريد أن يطول. التقينا بعد أيام وعرفني بحيثيات الخبر «الرجل الذي قتل خطأ، كان موظفا بسيطا في الأمم المتحدة، يمر كل صباح بالقرب من الجامعة قبل أن يذهب نحو عمله. كان اسمه: واسيني لحرش، لم يكن يعرف وهو يخرج في ذلك الصباح، أنه سيقتل في مكان رجل آخر ....لم تكن لي فيه مسؤولية سوى قدر الاسم.» (ص 133)
يورد الراوي، بكثير من النبل، الاعتراف بالدين لرجل قتل مكانه، لم تقتله مواقفه السياسية ولا أي جرم ارتكبه، جريمته الوحيدة هي تقاسمه اسم رجل آخر، صرخ عاليا في وجه «بني كلبون» و»حراس النوايا». المسؤولية يتحملها الاسم.
يعطي الفيلسوف العربي مطاع صفدي تفسيرا لهذه الممارسة المرضية التي تعبر عن ضيق أفق وشهوة في إلغاء الآخر و تغييبه. «فقتل فرد يعني قتل الاسم، وبالتالي فالاسم يحارب ويحمي ويثأر من الاسم العادي. وقتل أي واحد يحمل الاسم المعادي يغطي الثأر فليس مطلوبا قتل القاتل وإنما المستهدف هو الاسم العلم الذي يحمله، لأن في قتل هذا الاسم يتحقق الثأر من كل ما يحمله، وليس من القاتل فقط الذي هو واحد.»(إستراتيجية التسمية 142)
إن قتل الاسم أهم من قتل المسمى، خاصة إذا كان الاسم يحمل رمزية ثقيلة. وقد يصبح الاسم قاتلا لهذا الشخص، ويقصد التهرب من مسؤولية الاسم ومقالبه ينبه بعض الروائيين في الصفحة الأولى من أعمالهم، عبارة متداولة «كل تشابه بين .......هو مجرد صدفة.»
و لكي لا تسقط ضحايا أخرى، بسبب الاسم في سياق تاريخي وسياسي عرفته الجزائر، يعرض الراوي فكرة راودته، تشبه المونولوج أو الخيال السري، «فكرت في التخلي عن اسمي العائلي لعرج برغبة عميقة في توريط العائلة في وضع كان شخصيا جدا وخيارا فرديا.»(ص 132) لم ينتقل الراوي من التفكير إلى الفعل، لم يغير لقبه العائلي، لان المشكلة ليست في اللقب العائلي، فهو متداول في مناطق عدة من الجزائر بالشرق وبالغرب، لكن المستهدف هو الاسم الشخصي «واسيني» ولا يهم إن كان لقبه العائلي لعرج ولا حتى خمري.
ربما تراجع عن هذا الخيار لأنه غير مجد وقد يكلف ذلك تغيير هويته الأدبية واسمه الذي بدأ يأخذ مكانته لدى القراء. فلو غيره، ربما ما كان يصل إلى ما هو عليه. الاسم علامة ترتبط بالشخص وعليه أن يتعايش معها وبالتالي يتحمل تبعاتها ويتقبل مسؤولياتها.