رحلت الكاتبة والمفكرة والروائية والمناضلة النسوية المصرية المثيرة للجدل، الدكتورة نوال السعداوي، ومثلما شغلت النّاس وهي حية، شغلتهم أيضا وهي ميتة. هي التي كانت قد رحلت أكثر من مرّة من خلال إشاعات تُنشر حول موتها، وفي كلّ مرّة يتم تكذيب إشاعات الموت والغياب، لكن هذه المرة، رحلت ولم يكن موتها مجرّد إشاعة عابثة من الحاقدين عليها.
رحلت المرأة الشرسة، التي كرست حياتها للدفاع عن المرأة وحقوقها وحقوق الإنسان بشكلٍ عام. رحلت وتركت خلفها ضجيج الجدل والنقاشات كزوبعة من المحيط إلى الخليج، إذ وبسرعة البرق اِشتعلت مواقع التواصل الاِجتماعي فور إعلان خبر وفاتها في الصحافة المحلية المصرية، لتكتسح بعد لحظات صور وأخبار موت السعداوي كلّ فضاءات الميديا. والغريب أنّ موتها أحيا الكثير من مواضيع الجدل التي أثارتها على مدار سنوات طويلة من مشوارها الفكري والأدبي والنضالي، فكان موتها مناسبة أخرى لإحياء صوت المناهضين لفكرها وآرائها وكتاباتها ومواقفها، ولعودة خطابات التكفير والشتم، كما كان موتها مناسبة كُبرى للاِستثمار فيها وهي ميتة وفي خطاباتها التي كانت تُقابل بخطابات أخرى مناهضة لها، وعاد مرّة أخرى موضوع المرأة ليطفو على سطح مواقع التواصل الاِجتماعي في نقاشات حادة وصدامية، ليس في الجزائر فقط وإنّما على مستوى الوطن العربي ككلّ، من أعداء نوال السعداوي الذين ظلوا يحاربونها بمناسبة وبغير مناسبة اِنطلاقا من الفكر الّذي يمثلونه وينتصرون له ويمارسونه بشتى الطرق. وفي غمرة وزخم هذا الجدل الّذي اِستيقظ وبشدة مع موت نوال السعداوي، كانت هناك الكثير من الأصوات والخطابات الأخرى المُنصفة والمعتدلة في أحكامها وآرائها، بل والمُنتصرة لنوال السعداوي وأفكارها ولقيم الحرية والتسامح.
امرأة شجاعة واجهت مجتمعات من التخلف
من بين الأصوات التي كتبت بكثير من الإضاءة والرأي المُنصف نجد الروائية والكاتبة السورية مها حسن، التي قالت وهي تتحدث عن السعداوي، في صفحتها على الفيسبوك: «حتّى موتها، تحوّل إلى مناسبة لهزّ التابوهات الدينية المتعجرفة/القاتلة. التفكير الرجعي يحكم المنطقة العربية، تموت كاتبة مثل نوال السعداوي، فتنهال الشتائم على روحها، لأنّها كانت تدعو لحرية المرأة. شخصيًا لا أستسيغ كتابة السيدة السعداوي، لكنّني أحترم نضالها، ورغم أنّني اِنسقتُ في مراهقتي الفكرية خلف أفكارها، لكن هذا لا يمنع أنّها امرأة شجاعة واجهت مجتمعات من التخلف، حتّى وهي تتحوّل إلى جثة غير قادرة على الرد على خصومها. كاِمرأة، بوصلتي أوّلا هي المرأة وحريتها، وهذه معركتي الفكرية مع الإرهابيين والمتطرفين، من إخوان وسلفيين ودواعش متنكرين في خلايا صغيرة مندسة في حياتنا، تنتظر الفرصة لوأدنا».
عرفتْ كيف تشق طريقها بقوّة وإصرار وتتمسك لآخر لحظة بالقضية النسوية
في حين اِستحضرت الكاتبة والروائية الليبية رزان نعيم المغربي، الراحلة بشكلٍ من الاِعتراف بجميل النضال النسوي، وهذا من خلال منشور فحواه: «المُفكرة نوال السعداوي كانت المرأة النسوية الأولى التي تعرفت عليها مع بداية تشكل الوعي، كنتُ أقرأ لها في ذلك الوقت، وألهمتني كيف يمكن للمرأة حتّى غير المضطهدة، أن تكون قضيتها الدفاع عن حقوق النساء والإنسان بالطبع. لم أشعر يومًا أنّها كانت اِمرأة مقموعة، كانت شجاعة عرفتْ كيف تشق طريقها بقوّة وإصرار وتتمسك لآخر لحظة بالقضية النسوية وتُدافع عنها بشكلٍ علمي وعقلاني». رزان أضافت في ذات المنشور: «حين شاءت الظروف أن نكون معًا في دمشق ضمن ملتقى كاتبات دعتنا له الكاتبة السورية كوليت خوري، وجمعت فيه كاتبات وصديقات، في ذلك الوقت كنتُ قد وصلتُ لمرحلة عدم الانبهار بشخص قرأتُ له وألهمني، بسبب مواقف مررتُ بها، صرتُ حذرة من الاِقتراب من هذه الشخصيات بنظرة التقديس والتبجيل. لهذا كنتُ أتحدث معها لمدة أسبوع حسب الظرف الّذي يجمعنا، لأنّ اللقاء كان بمجمله رحلات في أماكن تاريخية وعلمية وثقافية في سوريا. كانت تُرافقها ابنتها منى حلمي والصراحة أنّ منى اِرتاحت لي كثيرا، ولا أدري لماذا، وجلست معي تحدثني عن أمور شخصية، أحببتها وأحببت رقتها. لكن لن يفوتني الحديث عن زيارتنا للجامع الأموي في دمشق، حيث دخلنا إلى قاعة الشرف وأعطونا ملابس خاصة وعلينا أن نغطي الشَعر في حال خروجنا لباحة المسجد. وهذا تقليد أعرفه وأحترمه في دُور العبادة لكن نوال السعداوي اِعترضت تمامًا، وفي وسط الباحة خلعته بحركة متمردة.. ولاحظتُ أنّ المنظمين شعروا بالحرج في حينها. خلاصة القول قد لا يكون الشخص المُلهم لنا وصاحب القضايا الفكرية منسجمًا مع حالته في موقف ما، وربّما في عمرٍ مُتأخر يصبح البعض حاداً في تصرفاته، لهذا يبقى ما خلفه من منجز فكري هو الأهم بالنسبة للأجيال اللاحقة. ونوال السعداوي كبيرة ومنجزها حاضر ومستمر وقد لا نرى أي مثيل لها في نقدها للمجتمع وبنفس الجرأة».
دورها الحقيقي الّذي نعرفه قبل أن تدخل في نقاشاتها مع الإسلاميين هو اِجتماعي وأهميتها أنّها رفضت دائماً الظلم
أمّا الإعلامية اللبنانية سوسن الأبطح، فنقرأ إعجابها بصاحبة «موت الرجل الوحيد على الأرض»، ومِمَا جاء في كلامها: «وداعاً للمرأة التي علمتنا التمرد وبسيرتها أثبتت أنّ الكاتب النموذج يفعل ما يكتب، وكلّ ما عدا ذلك نفاق. بالنسبة لفتيات جيلي اللواتي كنَّ يبحثنَّ عن قدوّة ونموذج، كانت نوال السعداوي وغادة السمان وليلى بعلبكي وحنان الشيخ وكثيرات قُدن تلك المسيرة التي أنجبت نساءً عربيات مُكافحات من أجل الحرية، العمل، الاِحترام، الإنسانية والعدالة. يومها، لم يكن الدين ولا معتقداته جزءاً من تلك المعركة. ولا يعنيني ما إذا كانت تلك الكاتبات مؤمنات، أو كم ركعة تصلي كلّ منهن في اليوم، وأي منهن ستدخل الجنة أو النار. المواضيع الإيمانية والدينية، تخص أصحابها. ودور نوال السعداوي الحقيقي الّذي نعرفه قبل أن تدخل في نقاشاتها مع الإسلاميين، هو اِجتماعي، وأهميتها أنّها رفضت دائماً الظلم، وكرست نفسها لإثبات أنّ المرأة إنسان، وليست أقل إنسانية من الرجل. وفضلها على النساء العربيات كبير، ومن يريد أن يعرف مزيداً، يمكنه العودة إلى كُتبها الأولى التي تتلمذ عليها جيلٌ بأكمله من الفتيات، وليس الكُتب الأخيرة التي لم تُقرأ كثيراً أصلاً».
كانت ملهمة لجيل كامل من الطالبات
الكاتبة المصرية منصورة عز الدين، كتبت تستحضر سحرها الآسر على الطالبات المصريات، وهذا ما نقرأه في صفحتها على تويتر: «في سنتي الجامعية الأولى حضرتُ ندوة للدكتورة نوال السعداوي، ورأيتُ كيف كان جمهورها من طالبات الجامعة تحديدًا مسحورًا بها. لا أظن أنّني قد عاينتُ في حياتي لاحقًا مثل هذا الوله بكاتب ما. لم تتعامل معها الطالبات ككاتبة فقط، إنّما كملهمة تخبرهن -عبر مسيرتها- أنّ الأحلام ممكنة والتغيير ممكن».
ليست ضدّ الدين، لكنّها ضدّ فقهاء الظلام والكهنة الجُدد وضدّ ذكورة الرعب والهيمنة
من جهته كتب أيضا الروائي واسيني الأعرج عن رحيل السعدواي، واصفًا أياها بالمرأة العظيمة باِمتياز، ومِمَّا جاء في صفحته قوله: «أتمنى لحراس النوايا وسدنة الضغينة والجهل الذين شتموها حيةً وميتةً أن يقرؤوها فقط. ليست ضدّ الرجل لكنّها ضدّ ذكورة الرعب والهيمنة. ليست ضدّ الدين، لكنّها ضدّ فقهاء الظلام والكهنة الجُدد».
الشاعرة اللبنانية زينب عساف، أكدت في صفحتها أنّ الجدل حول أهمية كِتابات السعداوي الأدبية لا يعنيها وأنّ الأهم هو مواقفها، وكان هذا فحوى ما كتبته: «الجدل حول الأهمية الأدبية لكتابات نوال السعداوي ليس بالمهم برأيي. نوال كموقف حياتي أهم من كتابتها -التي شخصياً أعتبرها جيدة-. وبكلّ الأحوال النسوية كنظرية مرتبطة اِرتباطا وثيقا بالأدب على عكس نظريات أخرى نشأت في السياسة أو الاِقتصاد وصار لها تطبيقات أدبية، وهذا يرجع لأسباب كثيرة منها التعطّش للتعبير بسبب حرمان النساء من التعليم لقرون طويلة. وكذلك النسوية ليست باِتجاه واحد، يعني في حين النسوية الفرنسية مشغولة بالتأسيس النظري وقريبة من التفكيكية والماركسية مع منظّرات مثل سيمون دوبوفوار، جوليا كريستيفا والين سيكسو، الإنغلو-أميركية مباشرة أكثر ولها مواقف سياسية كتيّار إنسانوي ليبرالي (جوديث باتلر نموذجًا). نوال كانت أقرب للنموذج الأنغلوساكسوني رغم يساريتها واقترابها من التنظير الفرنسي. الفلاحة المثقّفة غير المهادنة –هذا أيضا عامل كون الفلاحات كُنّ تاريخيًا شريكات اقتصاديات ومتفلّتات من نظام الحرملك مثلاً-».
ظلت صلبة وتقول لا بملء فمها وكُتبها
أما الروائي اليمني علي المقري، يرى أنّ حياة صاحبة «اِمرأة عند النقطة صفر»، عبارة عن معركة. وهذا ما أورده في منشوره: «الحياة عبارة عن معركة، ليس من المهم أن تخسر فيها أو تربح. هكذا تبدو لي حياة نوال السعداوي التي أُعلن عن نهاية معركتها بوفاتها. بقيت في كلّ سنوات عمرها صلبة على التدجين، تقول لا بملء فمها وكُتبها».
من جهتها الكاتبة الجزائرية أمال بشيري. ترى أنّ رحيل السعداوي كشف مرّة أخرى عن جهالة الشعوب العربية، إذ نقرأ في منشورها هذا الفحوى وبصريح العبارة: «رحيل المفكرة نوال السعداوي إلى برزخ النّور يكشف جهالة الشعوب العربية عبر الشتائم التي يكيلون لها دون قراءة سطر من كُتبها. نوال السعداوي عبقرية عصرها بجرأتها النبيلة وبعقلها الّذي يفوق حجم أوطاننا العربية الغارقة في الظلام».
أمّا الناشرة آسيا موساي، فأكدت أنّها منذ قرأت لنوال السعداوي عرفت ماذا يعني الظُلم، وهذا في منشور صغير ومقتضب على صفحتها على الفيسبوك، لكنّه لخص المعنى المُراد قوله وإيصاله: «قرأتُ للدكتورة نوال السعداوي في سن 17 سنة، وعرفتُ ماذا يعني الظُلم، الظُلم الفادح الّذي تتعرض له المرأة وبالذات المرأة الفقيرة، وعرفتُ كيف يتم اِستخدام الدين لاِستغلال المرأة وتكريس النظرة الدونية لها. في نفس هذه الفترة اِستمعت للشيخ عبد الحميد كشك يتكلم عن الملائكة التي تُحارب الروس في أفغانستان وكأنّ هذه الملائكة لم تسمع أنّ فلسطين محتلة من طرف الصهاينة. وقتها وبسهولة بالغة اِخترت العالم الّذي يجب أن أنتمي إليه». نوّارة لحــرش