ترفض الروائية ربيعة جلطي، أن تكون بيدقا في شطرنج السياسة، لأنها، كما قالت، تتعالى على هذه الأمور، و تفضل أن تمارس حق النقد و الرد و تشريح الواقع بكل تناقضاته على ورق الكتابة، كما عبرت في حوارها مع النصر، أين تحدثت عن معركة الأقلام النسوية في المجتمعات الذكورية، و عن خصوصية علاقتها بزوجها أمين الزاوي و بأبنائها، بمن فيهم لينا دوران المغنية و القاصة المستقبلية.
تطرقت الشاعرة أيضا، خلال الحديث، إلى مواضيع مختلفة، منها الترجمة و جوائز الأدب التي قالت، بأن منها ما لا يقدم للكاتب الكثير. حول هذا الشأن «واقع المسرح العربي الآن»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الدكاترة الباحثين المختصين في المسرح وبعض النقاد والكُتّاب المسرحيين.
حاورتها: هدى طابي
أردت لأولى رواياتي أن تولد بالغة
ـ النصر : لماذا تأخرت في كتابة الرواية هل اضطرتك الأمومة إلى تأجيل هذا الطموح طويلا؟
ـ ربيعة جلطي: ليس إلى هذا الحد، أنا لم أؤجل طموحي، نشرت مجموعات شعرية عديدة طيلة مسيرتي و شاركت في ملتقيات أدبية كثيرة في الشرق و الغرب، عندما كنت أعد للدكتوراه، كنت مضطرة للتنقل بين جامعات العالم و الذهاب إلى دمشق للقاء الدكتور حسام الخطيب، و برمجة مواعيد تتقاطع مع أجندته المكتظة، لكنني لم أفشل، كانت لدي أيضا، حصة إذاعية ألتزم بإعدادها و تقديمها أسبوعيا، وعليه فلا يمكنني القول بأني كسيدة أو كأنثى، أقل إنتاجا من شقيقي الرجل، كما لا يمكنني أن أدعي أني أجلت طموحي كروائية لأكون أما، ربما أكون قد تركت الرواية لمرحلة ثانية من حياتي، بعد أن تفرغت مطولا للأمومة «و أمومتي أنا خاصة جدا بسبب ظروفي الشخصية ويتمي المبكر»، لكن الأمر لم يكن تضحية، أنا فقط لم أكن أرغب في أن أكتب رواية تشبه ما قرأت سواء بالعربية أو الفرنسية أو الإسبانية، بل أردت لروايتي أن تولد بالغة، لم أكن على استعداد للعزف ضمن الجوقة التي لا تطرب، و فعلا حدث ما كنت أتمناه فروايتي « الذروة» ، نالت الإعجاب عربيا و حققت الانتشار، حتى أنني حينما بعثت بنصها إلى دار الآداب للنشر آنذاك، أجابوني في ظرف أسبوعين بالموافقة و أرفقوا ردهم برسالة إعجاب.
ـ قلت في مناسبات سابقة بأن الكاتبة لا تكتشف إلا بعد موتها، عكس الرجل، فهل تعرضت للإجحاف يوما؟
ـ عن نفسي كنت محظوظة إذ حظيت بكل الدعم من والدي أولا، ثم من زوجي الدكتور أمين الزاوي الذي يحترم عقلي و جانبي الإبداعي، لكن أمين ليس المجتمع الذكوري الذي نعيش فيه، العالم الذي نعيش فيه صعب، فهناك مثلا، كتاب و مثقفون يسخرون من إبداع المرأة، رغم علمهم بأنها أثرى لغة وأكثر علما وإدراكا للحضارة من بعض الرجال، وفي اعتقادي ليست هذه السخرية، إلا وليدة ضعف، لأنهم يخافون من كتاباتها و يدركون أن إنتاجها قد يغطي على عملهم، لذلك فإن النساء مطالبات بالاجتهاد 50 مرة أكثر من الرجل، حتى يبرزن، ومنهن كثيرات لم يعترف بعطائهن ولم تكتشف أعمالهن و تترجم إلا بعد وفاتهن.
طبعا أنا لا أشمل بقولي هذا جميع الرجال ولا أطلق حكما عاما و جائرا، فهناك كتاب كبار يحترمون عطاء المرأة أدبيا و يحتفلون به.
ـ بما أنك أثرت نقطة الترجمة، هل لنا أن نعرف ماذا تضيف لك ككاتبة، هل في ذلك انعتاق من ضيق النظرة الاجتماعية لعمل المرأة ؟
ـ الترجمة مهمة جدا وأنا أمارسها، كما يسعدني جدا ككاتبة و كشاعرة أن يترجم لي، و أن يقرأ لي بشر من مختلف الأجناس، هنود و صينيون ويابانيون وهولنديون و غيرهم، لي مثلا قصيدة ترجمت إلى 36 لغة، وقد كان لي الحظ أن ترجم لي المبدع المغربي عبد اللطيف اللعبي، وهو كاتب حاصل على جائزة الغنكور، بالإضافة إلى الروائي الكبير رشيد بوجدرة، و الكاتبة والأكاديمية الإسبانية ألين ألكراث، كما ترجم لي عراقيون إلى لغات عديدة، و تمسرحت بعض قصائدي على المسرح الألماني و هو مكسب.
أخاف الوقوع في فخ التكرار والتشبه بالغير
ـ عرفت لسنوات عديدة كشاعرة، ثم تحولت نحو الرواية، هل هي رغبة في مجاراة موضة الرواية أم هي ترجمة لسنوات من العيش وميل لهذا اللون الأدبي؟
ـ الشعر جزء مني من تكويني و من هشاشتي، لكن الرواية هي عمل و تعب ودراسة وإلمام بكل ما هو موجود في الروايات العالمية، خاصة المترجمة من الإسبانية و الفرنسية و الصينية و الأمريكو لاتنية وحتى الأدب الأفغاني و الباكستاني، الحس السردي كان يسكنني منذ الصغر، لكنني اكتشفت الرغبة العارمة في الكتابة بطريقة خاصة و مختلفة لاحقا، لا أقول بأنني أريد أن أكون ظاهرة أدبية، لكنني أريد أن أكون مبدعة لا تكرر نفسها، و أن أقدم في كل مرة عملا جديدا متكاملا، فأكثر ما أخشاه هو السقوط في ما سقط فيه غيري من تكرار و ثرثرة و كتابة من أجل الحضور، أنا أكتب لأن لي التزاما و مسؤولية تجاه قرائي الذين ينتظرونني بشغف.
عداء بعض الجزائريين للفن والأدب وليد الجهل
ـ بالحديث عن الاحتكاك مع القراء كيف تنظرين إلى علاقة الجزائري بالأدب والفنون عموما؟ كيف نتلقى الأدب في بلادنا؟ و لماذا نعادي الفن أحيانا؟
ـ القارئ حر قد يحب وقد لا يحب العمل، و الكاتب الذي يحبه الجميع كاتب مغشوش، تماما كما في حكاية بياض الثلج، يجب أن تكون شخصية « غرانشو» حاضرة في محيط المبدعين، الكاتب الذي لا يوجد بين قرائه ناقد يفتقر لشيء ما، فالاتفاق المطلق أمر غير طبيعي، يجب أن يكون هناك دائما قارئ ينتظر شيئا معينا لديه جرح أو اهتمام أو قضية يتوقع طرحها، مثلا عندما أصدرت رواية «عازب حي المرجان»، لم يحب الكثيرون النهاية و لم يهضموا فكرة وفاة بطلها زبير، لأنه انعكاس لواقعهم، زبير في الرواية هو صورة عن آلاف الرجال والنساء في الواقع.
علاقة الجزائري بالفن والأدب و الموسيقى تحتكم لطبيعة تنشئته و لمحيطه، و العداء في بعض الأحيان، يكون وليد جهل، فمن لم ينشأ على حب الكتاب و المسرح و السينما والموسيقى، سيكون في الغالب علاقة مشوهة معها في المستقبل، للأسف في مجتمعنا لا توجد سينما و المسرح غائب، عكس المجتمعات المتقدمة، الطفل الذي يكبر وهو يرى المحيطين به يهتمون بالكتاب و بالفن سيحبه والعكس، فنحن أبناء طفولتنا بتعبير أبسط، إذا لم نقلم الشجرة ونعتني بها، فلن نحصل على ثمار جيدة، وقد لا تثمر هذه الشجرة أصلا.
ـ ابنتك لينا دوران مثلا، اختارت الغناء ، فهل تورثون الفن في جيناتكم العائلية و هل هناك من بين أبنائك الآخرين من يكتب أيضا؟
ـ شخصيا نشأت في بيت فيه مكتبة و موسيقى، و قد مارست المسرح و تربيت على حب الفن، بمعنى أن علاقتي به تعود إلى مرحلة الطفولة وكذلك الأمر بالنسبة لأبنائي، فالجو العائلي الذي تربوا فيه ساعدهم على ربط علاقة قوية مع الكتاب و الفن بمختلف أشكاله منذ الصغر، بالنسبة إلى لينا هي قارئة جيدة جيدا على غرار إخوتها، كما أنها لا تغني فقط، بل تكتب كذلك، و الآن هي بصدد التحضير لنشر مجموعة قصصية باللغة الفرنسية، أما ابناي الآخران، فقد اختارا التخصص في مجال الذكاء الاصطناعي، و أعتقد أنهما تقدما كثيرا في هذا المجال.
هكذا نختلف ونأتلف أنا و أمين الزاوي
ـ كيف هي علاقتك بزوجك الروائي أمين الزاوي، هل تحبين فيه المبدع أكثر، أم الرجل؟ وإلى أي درجة خدمت شراكتكما الحياتية الأدب؟
ـ أنا وأمين التقينا صغيرين، كان هو طالبا نشيطا في تلمسان، كان كاتب مدرسته، فيما كنت ألقب في مدرستي بالشاعرة الحسناء، عائلته مثل عائلتي تحب الفن و تقدر الكتاب، هناك تشابه غريب بيننا، هو أقرب إلى خيوط سحرية جمعتنا قبل أن نتقابل، لذلك عندما التقينا لأول مرة كان اللقاء ناريا و حارقا، و إلى اليوم لا يزال الحب بيننا دائم التجدد، كما أن علاقتنا بقيت قوية و عميقة في الحديث و النقاش الثقافي، بمعنى أن لدينا دائما مجالات للنقاش.
الحياة بين اثنين إن كانت محدودة و روتينية سينقطع نفسها، فالحب بحاجة إلى طاقة إيجابية ترويه، وأنا وهو وإن اختلفنا في كل شيء، نأتلف في الحياة، نتناقش كثيرا ولا نتفق في الغالب، لكننا نصل دوما في الأخير إلى نقطة تلاق، لذلك أعتقد أن الأدب و الفن توليفة غذت علاقتنا و قدمت لإبداعنا أرضا خصبة، وجودنا في بيت واحد حالة إيجابية.
ـ هو حاضر بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي بينما تطلين أنت باحتشام، ألا تؤمنين بالعالم الافتراضي؟
ـ كما قلت، نحن نختلف كثيرا، أنا كنت من أوائل من فتحوا حسابات خاصة على مواقع التواصل، لكن طريقتي مختلفة عن طريقته في التعامل معها، ليس هناك وجه مقارنة محدد، مواقع التواصل مفيدة للكاتب وهي مرآة تعكس اهتمامات شريحة واسعة من قرائه، لكنني لا أناقش أفكاري عبرها بالعموم، بقدر ما أطرحها بشكل مباشر أمامه هو مثلا، أو من خلال الكتابة.
لا أكتب بالفرنسية إكراما لوالدي
ـ هل تفكرين يوما في خوض معترك السياسة، ألا تعتبرين بأن شعبيتك ككاتبة قد تضاعف حظوظك في التشريعيات القادمة مثلا؟
ـ أنا و بكل تواضع أتعالى على هذه الأمور، ما يعنيني هو أن أكون ما حلمت به وأنا صغيرة، أريد فقط أن أكون ربيعة جلطي الكاتبة، أحب الكتابة والموسيقى والفنون، و قد سبق لي أن غنيت وكان ممكنا لي أن اختار هذا المجال، لكنني فضلت الطريق التي رسمها لي والدي، وهي طريق البحث الأكاديمي والأدب.
لا أنكر أنني تلقيت عروضا في وقت سابق للانضمام إلى أحزاب كبيرة، لكنني اعتذرت عن قبولها، لأنني أرفض أن أكون ناطقة بسيطة باسم حزب سياسي، أنا أكتب عن السياسة، لكن بطريقتي أعالج الأمور وأطرح الأفكار و أواجه على الورق، و لعل ذلك واضح جدا في روايتي « نادي الصنوبر» و « الذروة»، بالنسبة إلي الالتزام، الأهم يجب أن يكون إنسانيا و ليس سياسيا، في نادي الصنوبر، تحدثت عن أمور عديدة مثل استغلال الشمال لثروات الجنوب على حساب أهله، ولعل ذلك هو ما تسبب في مقاطعتي من قبل القائمين على قطاع الثقافة لقرابة عشر سنوات.
الجوائز الأدبية العربية لا تروج لشيء
ـ تجيدين اللغة الفرنسية فلماذا لا تكتبين بها؟
ـ أنا دائما أعود لما اختاره لي والدي، وهو أراد لي لسانا عربيا التزمت به ولا أزال كذلك، كان بإمكاني أن أكتب بالفرنسية أو الإسبانية التي أحبها و كنت أحب أن أتخصص فيها، لكنني أحب العربية لحبي لوالدي، فهي جزء مما ورثته عنه، العربية لغة مرتبة تحمل صورا وروعة مثلها مثل اللغة الإسبانية، لذا أريد أن أعيد لها ألقها وأضعها في موقع التقدير.
ـ هل أنت ممن يحبون حصد الجوائز الأدبية؟
ـ بالنسبة إلي الجوائز مفيدة في شقها المادي لا غير، الجوائز العربية على سبيل المثال، لا تروج لشيء، لذلك فإن قيمتها الأكبر تكمن في تلك الأريحية المادية البسيطة التي يحظى بها الكاتب بفضلها، و التي تمكنه من مواصلة الإبداع و التحرر من البؤس، فالكتاب والأدباء عموما، لا يعيشون من كتاباتهم، بل يشتغلون في وظائف أخرى، « مالارمي كان أستاذ إنجيلية و كافكا كذلك كان رجل قانون وحقوقيا».
الجوائز ليست شهادة تفوق ولا صك ضمانة، فهناك كتاب كبار لم يأخذوا جوائز نوبل أو فيمينا أو غونكور، منهم خورخي لويس بورخيس مثلا، لذا فأهم جانب لهذه الجوائز، يبقى التقدير الذي يحظى به الكاتب بعد افتكاكها، لأن رمزيتها تساهم في التسويق له و مضاعفة مبيعاته، لكن نحن نعيش في مجتمعات لا تقرأ لذلك لا أرى الفائدة منها هنا.
ـ لماذا لم تعانق الرواية الجزائرية الدراما العربية بعد «ذاكرة الجسد»؟
ـ روايتي الذروة، كانت ستتحول إلى عمل سينمائي عربي، وقد تواصلت معي جهات سورية سنة 2010، و كنت قد سافرت إلى دمشق و ضبطنا الخطة الأولى للعمل، و ناقشنا تفاصيل السيناريو مع الكاتبة اقتدار إسماعيل، لكن المشروع توقف بسبب انفجار الوضع الأمني و اندلاع ما عرف لاحقا بثورات الربيع العربي.
أحيطكم علما أيضا، بأن نص «عازب حي المرجان»، سيمسرح قريبا هو كذلك.
ـ كيف مرت عليك سنة الجائحة وهل ستكتبين عنها قريبا؟
ـ كانت سنة استثنائية لا شك، أما عن الكتابة، فأنا لا أقوم بها بطريقة آلية، ربما قد أفعل ذلك في وقت لاحق، وقد لا أفعل أبدا، وقد يأتي الموضوع بشكل طبيعي بعد أن يهضمه المخ بشكل طيع ويجعله مستساغا، علما أنه سبق لي أن طرحت قضية الخطر المحدق بالإنسانية في روايتي الحديثة « قلقامش والراقصة»، أين تناولت حديث العام و الأخطار التي تحدق بالإنسانية، كالإقصاء والكراهية والمناخ و كل ما نعيشه .