لم يعرف المجتمع العربي عموماً القراءة الجماهيرية، أو القراءة كفِعل جماهيري. إذ ظلت في العموم مرتبطة كفِعل فقط بالنخبة. وكان فِعل القراءة دومًا نشاطًا/فِعلاً نخبويًا. وفي الآونة الأخيرة برزت العديد من النشاطات والفعاليات التي حاولت تقريب الجمهور من فِعل ونشاط القراءة بهدف التغريب فيها وفي عوالمها وزرع الحس القرائي لديهم، وهذا من خلال نوادي القراءة الاِفتراضية ومنصات و ورشات حول القراءة وتقنيات وطُرق القراءة. والسؤال هنا: هل بإمكان نوادي القراءة الاِفتراضية ومنصات، أو ورشات القراءة (التي تمّ تنشيطها وإقامتها في الآونة الأخيرة) أن تُساهم في صنع وخلق جمهور القُراء، أو في جعل القراءة فعلاً جماهيريًا.. هل بإمكانها حقا أن تجعل من القراءة نشاطا أو فِعلاً جماهيريًا، يعتنقه النّاس ومن مختلف شرائح المجتمع؟ أم أنّها ستبقى في دائرةٍ ضيقة؟
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
عبد الحميد هيمة أستاذ وناقد وباحث أكاديمي –جامعة ورقلة
التكنولوجيا تحوّل القراءة من فعل نخبوي إلى فعل جماهيري
مِمَا لا شكّ فيه أنّ للقراءة أهمية كبيرة في بناء الأُمم والحضارات وسبب أكبر لتقدمها. وليس عبثاً أن كانت "اِقْرَأْ" أوّلُ كلمةٍ أُنزلتْ من القرآن. فحَددَّت بذلك نقطة الاِنطلاق، ورَسمتْ خارطة الطريق، وكشفت سِرَّ الخلاص والسمو والتحرّر، على المستويين الفردي والجمعي ولذلك فالدول المُتقدمة والمُتحضرة تتميّز شعوبها بحب الاِطلاع والقراءة والفضول العلمي والبحث عن المعرفة من المهد إلى اللحد بعكس الدول التي يُسيطر عليها الجهل والتخلف والفقر، فإنّ فِعل القراءة فيها محدود جداً، وربّما نجده مقصوراً على النخبة المُثقفة، خاصةً الباحثين وطلبة الجامعة، أمّا القراءة الجماهيرية، فهي قليلة جداً، بل تكاد تكون منعدمة، وعندنا في الجزائر نلحظ تراجعًا كبيراً وتخلفًا واضحًا في مجال القراءة الجماهيرية، وقد تحوّل الأمر إلى أزمة تتطلب الوقوف عندها، لدراستها والبحث في أسبابها، وربّما اِقتراح سُبُل علاجها، فقد تراجعت نِسب القراءة عندنا، وأصبحت "أمة اِقرأ لا تقرأ"، خاصةً في فئة الشباب، التي أصبحت تنفر من القراءة، وتحوّلت علاقتها بالكِتاب إلى علاقة عداء، بعد أن كان الكِتاب خير جليس. وللخروج من هذه الأزمة لا بدّ أن نضع الخُطط الإستراتيجية من أجل إعادة غرس عادة القراءة في نفوس الناشئة، واتباع البرامج التعليمية التي من شأنها أن تُشجع التلاميذ والطُلاب على القراءة، وذلك للتغلب على هذه الأزمة التي تُهدد وطننا ثقافياً وحضارياً وعلمياً، كما يجب أن نُواكب هذا العصر الّذي شهد الكثير من المفاجآت في مجال اِتساع ثورة المعلومات والنشر الاِلكتروني، التي قلبت أوضاعنا رأسًا على عقب، وأحدثت تغييرات واسعة النطاق في المنظومات الثقافية، وشبكة العلاقات الإنسانية بمختلف مستوياتها، بل إنّها أدت إلى تشكيل عصر جديد، وأنماط ثقافية كونية خاصة، يحتل فيها الحاسوب مركز الصدارة، فكيف نستطيع في ظل هذه التحوّلات أن نُعيد للكِتاب بريقه وجاذبيته، وهل بقي للكِتاب حضوره السابق في حياتنا، لماذا أصبح الشباب لا يقبل على القراءة، ونحن دائمًا نلوم الشباب الجزائري، ونقول بأنّه أصبح لا يقرأ، ولا يهتم بالكِتاب، ولكنّنا لم نسأل أنفسنا يومًا، لماذا يعزف الشباب عن القراءة..؟ ألا يمكن أن تكون المشكلة في الكِتاب الّذي نُقدمه لهذا الشاب؟؟ وليس في الشاب في حد ذاته، الّذي نتوّهم أنّه لا يقبل على القراءة جملةً وتفصيلا، ألا ترون أنّ المشكلة أعمق بكثير، فكيف يا تُرى نستطيع أن نجعل شبابنا في هذا العصر يُقبل على الكِتاب؟؟ الحق أنّ الّذي يتعمّق في هذه المسألة، يلحظ أنّ عصرنا الحالي يشهد تشكل فلسفة جديدة عند الشباب في القراءة، ينبغي علينا فهمها واستيعابها، وسننطلق في مقاربة هذه الإشكالية من كِتاب الكاتب والصحفي السعودي فهد عامر الأحمدي، "نظرية الفستق"، هذا الكِتاب الّذي جاء في عنوانه، أنّه كِتاب سيُغيّر طريقة تفكيرك وحكمك على الأشياء، وهو يُعَدُ من أكثر الكُتب مبيعًا في العالم العربي في السنوات الأخيرة. والسؤال الّذي يُطرح هنا، لماذا حقّق هذا الكِتاب كلّ هذه الشهرة، وسجل هذا الحد العالي من المقروئية، التي شملت كلّ الشرائح وخاصةً الشباب؟؟، والجواب أنّ هذا الكِتاب يقوم على فلسفة جديدة عند الشباب في القراءة، يمكن اِختصارها في جملة من النقاط، أهمها أنّ شباب اليوم أصبح لا يُقْبِل على قراءة المُجلدات، والكُتب الضخمة، وإنّما يُقْبِل على قراءة الكُتب الصغيرة الحجم، ذات اللّغة البسيطة، والأسلوب الحكائي، وأيضًا الّذي يُقدِم التجارب الشخصية، وقضايا المعيشة، وخاصةً كُتب تنمية الذات. تلك الكُتب التي تُشْعِر القارئ بأنّه قريبٌ من قارئه، ومُعايشًا لمشكلاته، وأحسبُ أنّ هذا النوع من الكُتب هو الّذي سيُغيّر تفكير شباب اليوم، وتجعله ينتقل من (فِعل القراءة) إلى (القراءة الفِعل)، القراءة التي تُغير السلوك، وتصنع رجل المُستقبل..
ولعلّ هذا الّذي يدعونا اليوم إلى أن نُعيد النظر فيما نكتبه ونُقدمه للشباب، فلا نسلك المسلك الأكاديمي الّذي يعيش أصحابه في أبراجهم العاجية، ولا نغرق أيضا في النظرة السوداوية العدمية، ويبقى الشباب حائرا بين من يثبطه، ومن يترفع عنه، ويتعالى عليه، الغرب اليوم لديهم توجهات لإعادة صياغة كُتبهم الكلاسيكية، بأسلوب جديد وبطريقة مختصرة، فلماذا لا نحذو حذوهم، ونُعيد نحن أيضا كتابة التراث بأسلوب جديد، ولغة جديدة حتّى نجذب اِهتمام القارئ.. إنّ قارئ اليوم يحتاج إلى أن نعرف اِهتماماته، ونحن بحاجة إلى توجيه الإعلام الجديد لخدمة الكِتاب، تشجيع القراءة، وأن يصبح الإنترنت، وشبكات التواصل الاِجتماعي عاملاً لنشر القراءة، من خلال تشجيع نشر الكُتب الإلكترونية، التي تنشر الثقافة وتنمي الوعي، بدلاً مِمَا نراه من تفاهة وانتشار لثقافة التتفيه، يجب أن نستفيد مِمَا تتيحهُ تكنولوجيا الاِتصال الحديثة، بالتحكم أكثر في التقنية، وخلق القارئ الرقمي، وتشجيع النشر الإلكتروني، لأنّنا شئنا أم أبينا لا نستطيع إيقاف هذا التيار الهادر، ولذلك علينا أن ننخرط في هذه الثقافة الجديدة، وهي ثقافة الإنترنت، وأن نسهم فيها وإلاّ اِزداد تخلفنا، وتعمقت تبعيتنا للآخر المتحكم في التكنولوجيا، لأنّ الكِتاب الورقي، لم يعد في حياتنا المعاصرة، يُشكل المصدر الوحيد للثقافة والمعرفة، بسبب منافسة الوسائل الاِلكترونية الحديثة للكِتاب، وفي مقدمتها الحاسوب والانترنيت، وأجهزة الآيباد، والهواتف المحمولة بكلّ تطبيقاتها، ونحو ذلك.
وبهذا فقط تُصبح القراءة فِعلاً جماهيريًا، ولا تبقى فِعلاً نخبويًا محدودا كما هي الآن. ومع اِعترافنا بأنّنا مازلنا بعيدين عن ما هو مأمول فإنّنا يجب ألا ننظر للواقع نظرة سوداوية، كما يجب ألا ننكر وجود جهود طيبة تُبذل هنا وهناك، في مجال الاِستفادة من الإنترنت، وتشجيع الكِتاب الإلكتروني، سواء على صعيد الدراسات المُقدمة في هذا المجال، أو من خلال المواقع العربية التي تُعنى بنشر الكِتاب، ونحن لا نعدم وجود مبادرات طيبة. المهم هو أن نُواصل الجهد بإرادة وعزم، وإستراتيجيات بعيدة المدى، والبداية تكون من الأسرة التي تتحمل الجزء الكبير من المسؤولية في تربية الأبناء وغرس حب القراءة، وتوجيههم إلى الاِهتمام بالكِتاب، ثم المدرسة، وأخيرا المؤسسات العلمية والأكاديمية التي ننتظر منها الكثير من الجهد. نحن نطمح، وهو طموحٌ مشروع أن تكون الإنترنت نافذة يطل أبناؤنا من خلالها على آفاق معرفية وتربوية رحبة تُساعد على نموهم نمواً نفسيًا، وعقليًا سليمًا، وتُشبع ما لديهم من حاجات، وتُهيؤهم ليكونوا عنصراً إيجابيًا في المجتمع، نحن ندرك اليوم أنّ هذه الشبكة العنكبوتية العملاقة (سلاحٌ ذو حدين) وهو ما يدفعنا إلى ترشيد اِستعمالها، بِمَا يتناسب والقيم الإنسانية النبيلة، وما يخدم أطفالنا، ويُنمي مهاراتهم ومواهبهم، فالوقت الّذي يقضيه الأطفال مُبحرين في الشبكة العنكبوتية، أكثر من الوقت الّذي يقضونه في المدرسة، مِمَا جعلها ساحة خطيرة لنقل ثقافة القراءة والمطالعة.
لونيس بن علي كاتب وناقد وأكاديمي –جامعة بجاية
ربط القراءة بالجماهير سيؤدي إلى تحوّل في وظيفتها
لا يُمكن تصوّر القراءةَ إلاّ في شكل فعل فردي، إنّما تتخذ شكلها الجماهيري عندما تتحوّل إلى فعل تشاركي وتواصلي، وهنا يظهر دور الفضاءات الثقافية مثل المكتبات ودور الثقافة ونوادي القراءة، وكذا الفضاءات الاِفتراضية اليوم التي شكّلت تحوّلا مُهمًا في طبيعة فِعل القراءة كفعل جماهيري بالدرجة الأولى.
لا يُمكن قراءة كِتاب على نحو جماعي، ذلك أنّ القراءة تقتضي العزلة –ولو كانت مُؤقتة– كما تقتضي التأمل الّذي يحتاج إلى تلك العزلة حتّى يتمكن القارئ من التوغل في النص. صورة القارئ إذاً لا تخرج عن هذا الطابع الاِنفرادي، سواء تعلق الأمر بخياراته في قراءة ما يرغب في قراءته، أو في طريقة تفسيره ثم فهمه لما قرأه.
طبعًا سيقول قائل أنّ حرية اِختيار ما سيقرأه القارئ نسبية، وهذا صحيح. فالقراءة مثل أي مُمارسة أخرى تخضع لإكراهات خارجية، فكلنا تعلمنا القراءة في المدرسة، وكلنا قرأنا كُتبنا الأولى، وهي كُتب لم يكن لنا دخلٌ في اِختيارها. فتعلم القراءة يحدث ضِمن هذا المناخ المليء بالإكراهات الكثيرة، ومع ذلك، فكلّ هذه الإكراهات لا تصنع قارئا، وإلاّ كان جميع أفراد المجتمع من المتعلمين قُراء، وللأسف القُراء هم أقل عدداً بكثير من عدد الأفراد المُتعلمين والذين تحصلوا على شهادات تعليمية. في هذا السياق، نُدرك بأنّ هوية القارئ تكتمل منذ اللحظة التي يكتشف بمفرده تلك النصوص التي يرغب في قراءتها.
في تصوري هذه هي طبيعة القراءة، أن يكون القارئ في عزلة تامة، في مكتبه أو في قاعة مطالعة، أو في مقهى، أو داخل حافلة... وعلى الرغم من أنّه قد يتواجد في فضاءات مأهولة، لكنّه يظل معزولاً تمامًا عن الآخرين، كما لو أنّ القراءة تُشيّدُ حوله أسواراً من الزجاج الثقيل.
إنّ هذا الموقف الّذي أتبناه يميلُ أكثر إلى أطروحة ميشال بيكار الّذي كان له الفضل في رد الاِعتبار للقارئ الحقيقي، وتحريره من الصورة الاِفتراضية والنموذجية التي طورتها نظريات القراءة. من هنا، تأتي صعوبة دراسة القارئ الحقيقي، لأنّه مُتغير، وغير محدود الهوية. من السهل أن نقول بأنّ القارئ يفعل هذا ولا يفعل ذاك، لكن هل اِستندنا في تحليلاتنا وأحكامنا إلى معطيات ملموسة، للقارئ الحقيقي الّذي سنعرّفه بكلّ بساطة أنّه ذلك الشخص الّذي يُمسك كتابًا بيديه؟ يبدو أنّ أي حديثٍ عن القراءة دون معرفة الصورة الحقيقية للقارئ الّذي نتحدث عنه هو مجرّد شعوذة نظرية، لأنّنا في تصوري لا نعرف هوية القارئ الحقيقي بالمفرد، وما بالك أن نتحدث عن القارئ بالجمع (جمهور القُراء).
لكن، تبقى القراءة، رغم طابعها الفردي، هي تواصل لأنّنا في آخر المطاف لا نقرأ لأجل أنفسنا فقط، بل نقرأ لأجل الآخرين. هناك من ينتظر منا فكرة ما قد خلصنا إليها بعد قراءتنا لهذا الكم الهائل من الكُتب. سيحتاجُ القارئ إذاً إلى أن يخرج من عزلته، ليعود إلى الواقع مرّةً أخرى، فثمّة أشياء كثيرة يرغب في قولها، حول الكُتب التي قرأها، أو حول الأفكار التي أثارتها فيه الكُتب التي قرأها. من هنا تنبثق الطبيعة الاِجتماعية للقراءة، بوصفها تواصلاً وتشاركًا أيضا حول وليمة أدبية أو معرفية أو علمية. سيتحوّل هذا القارئ إلى وسيط بين الكتاب والجمهور.
دعونا نتوقف الآن عند مفهوم الجمهور. لا تبدو اللفظة تحمل أي تجانس واضح حول طبيعة الجمهور الّذي نتحدث عنه. هل هناك جمهور بالمُطلق؟ وهل يمكن للقراءة أن تُخاطب هذا الجمهور بالمُطلق؟
لقد ظهرت لفظة الجمهور لأجل كسر اِحتكار النُّخب لرأس المال الثقافي، طالما أنّ القراءة مُرتبطة بالكتابة، والكتابة قد ظلت في المخيالات الاِجتماعية مرتبطة بالنُّخب المُتعلمة، في حين ينتمي الجمهور إلى ثقافة ما قبل الكتابة، لأنّه مرتبط بمفهوم الجموع أيضا. وحديثًا اِقترن مصطلح الجمهور بالثقافة الاِستهلاكية.
إنّ ربط القراءة بالجماهير سيؤدي إلى تحوّل في وظيفة القراءة في كونها ليست حكراً على النُّخب، لكنّها أيضا أصبحت قناةً لتثقيف الجماهير. غير أنّ التحوّل طال كذلك طبيعة المقروء نفسه، سواء في صعيد المقروء الأدبي أو المعرفي أو الثقافي بشكلٍ عام.
وهذا ما صارت تُؤكده يومًا بعد يوم نوادي القراءة الاِفتراضية على سبيل المثال، التي أصبحت تفرض ذوقها ومعاييرها حول النصوص الأكثر مقروئية، وليس غريبًا أن تُحظى نصوصًا ضحلة بشعبية أكبر بين القُراء في حين نقرأ نفوراً من نصوص تُعد عيون الأدب في العالم. ما الّذي حدث؟ إنّه تأثير الجماهير على معايير التقييم الأدبي، وبذلك تأثيرها على جوهر القراءة نفسها.
محمّد بن ساعو أستاذ وباحث أكاديمي –جامعة سطيف2
معدلات القراءة متدنية والمؤسسات الثقافية لا تُساهم في تشجيعها
السؤال عن آليات نقل القراءة من الفضاء النخبوي كفِعل اِرتبط بجماعة مُحدّدة ودائرة ضيقة إلى عامة الجماهير بتنوع اِهتماماتها وتباين مستوياتها الثقافية والتعليمية، هو سؤالٌ مُركب ومُربكٌ ويُحيلُ إلى الكثير من التحليلات، ويدفع إلى البحث في عديد التجارب التي نجحت إلى حدٍ ما في هذا التحدي. في تشخيصه لمشكلة القراءة في الجزائر، يذهبُ الدكتور المرحوم بشير ربوح -خلال ندوة نظمتها دار الوطن اليوم بمدينة رأس الوادي صائفة2019-، إلى أنّ أزمة المقروئية في الجزائر لها شقٌ سياسي، شقٌ حضاري، وشقٌ مُتعلق بالفاعل الاِجتماعي (الجمعيات، دور النشر، المثقف، ومُختلف القِوى الاِجتماعية..)، وبناءً على هذا التصنيف، يكون من الضروري حين التفكير في بلورة مشروع حقيقي للقراءة أخذ هذه الثلاثية بعين الاِعتبار، خاصة وأنّها تعكس بأنّ مشكل القراءة مركب وتتدخل فيه عِدة معطيات وأطراف.
فِعل القراءة داخل المؤسسات التربوية شهد تراجعًا كبيراً، فمع ضغط البرامج التربوية وغياب رؤية مؤسسة نحو القراءة والأنشطة المرتبطة بها، يجد التلميذ نفسه دون سند يدفعه لاِعتناقها، والأخطر من ذلك أنّ المشهد لا يكاد يختلف في الجامعة، حيث معدلات القراءة متدنية، والحس القرائي لدى الطالب مرتبط بواجباته وبحوثه، أمّا المؤسسات الثقافية كالمكتبات العمومية والبلدية ودور الثقافة فهي غالبًا منغلقة داخل هياكلها الإسمنتية، ولا تُساهم في تشجيع نشاط القراءة خارج المناسباتية.
إنّ أي سبيل للتصالح مع الكِتاب لا بدّ أن يمر عبر الأُسرة، بوصفها فضاء التنشئة الأوّل، فداخلها ينبغي أن يتلقى الطفل القراءة من خلال السماع بدايةً، والأكيد أنّ دور الأسرة لا يمكن أن يكون معزولاً عن المؤسسات الاِجتماعية الأخرى التي عليها أن تنخرط ضمن مسعى وطني في جعل القراءة متعةً لا واجبًا أو عقوبة، لأنّ التحديات المُتعلقة بثقافة القراءة تزداد يومًا بعد الآخر، خاصةً مع اِجتياح التكنولوجيا لعالم الطفولة وهيمنتها على حياتهم النفسية والاِجتماعية.
الحق في القراءة بصوت عال، هو ليس فقط كما يقصده دانيال بناك في "متعة القراءة"، بل إنّه الحق في القراءة في الأماكن العمومية، الحافلات، المقاهي، المنتزهات... تكاد هذه الأماكن تخلو من مشهد للقراءة، لتفسح المجال لكلّ شيء غير المطالعة.
من تحت هذا الركام والدمار الثقافي الّذي نعيشه، يبزغ شُعاعٌ خافت من الأمل، ينبعث من محاولات شبابية لزعزعة بعض زوايا الفضاء العام، من خلال مبادرات "مكتبات في مقاهي" والمقاهي الأدبية، ومع شجاعة هذه الخطوات وأهميتها فإنّ التفكير في ربط القراءة بالناشئة هو التحدي الأكبر.
حمزة قريرة كاتب وباحث أكاديمي -جامعة قاصدي مرباح- ورقلة
الفِعل القرائي الرقمي هو مُستقبل القراءة
اِنتقل الإنسان من المشافهة إلى الكتابة بعد مراحل كثيرة، وعرف هذا التحوّل في وسيط نقل المعرفة تغييراً وتحويراً في عملية التواصل، فالخطاب الشفهي على سبيل المثال ذو طبيعة صوتية ويكون عادةً قصيراً ولا ينقل الكثير من الأفكار، في حين نجد الخطاب المكتوب ذا طبيعة مُغايرة وهو أكثر تشعّبًا وحمْلاً للأفكار. ومن خلال تطوّر فِعل القراءة والكتابة وعلاقتهما بنقل المعرفة والتطوّر الثقافي الحضاري، أصبح الاِهتمام بهما مُهمًا سواء على مستوى المؤسسة الرسمية أو على مستوى المفكرين. لكن مع دخول القرن الحادي والعشرين وتطوّر وسائل التواصل وتشعّبها بِمَا تحمل من وسائط رقمية جرفَتْ معها كلّ مُتعلّقات القراءة والكتابة تغيّرت المعادلة في عملية التلقي برمّته، وهو ما نتج عنه عزوف عن فِعل القراءة الورقية أمام ثقافة الصورة، لتصبح القراءة نخبوية أكثر من كونها جماهيرية، وهو أمر طبيعي أمام التطوّر الهائل لثقافة الصورة من خلال الوسائط التكنولوجية، وسهولة الوصول إلى المعرفة بواسطتها، لهذا تراجعت المقروئية بشكلٍ مُلاحظ جماهيريًا رغم سعي المؤسسات على اِختلافها لتدارك الوضع بإطلاق الكثير من المبادرات الداعمة للقراءة كالمسابقات وغيرها. لكن رغم ذلك أرى أنّ الأمر واقعيًا محسوم للرقمية خصوصًا مع طغيانها وسيطرتها على فكْر الناشئة، والسؤال الّذي أراه مُناسبًا هو: كيف يُمكننا نقل فِعل القراءة إلى الرقمية؟ بعيداً عن تساؤل إنقاذ القراءة الورقية، لأنّ تتبع الورقي في زمن مُتسارع يتعارض مع طبيعة المُتلقي ذو الثقافة الصورية، ولكن هذا لا ينفي دعم مبادرات القراءة، لكن يجب دفعها إلى الرقمية بحيث نُحَوِّل فِعل القراءة إلى الجهاز لنكون أكثر واقعية ونتخذ لأنفسنا مَقعداً في عالم الرقميات قبل أن يُدخلوننا فيها قسراً ونحن لا نملك المُؤهلات لذلك. وعليه أرى أنّ دعم فِعل القراءة الجماهيري أمر مهم لكن بدفعه نحو تغيير الوسيط ليكون المتلقي العربي أكثر اِستعداداً لاِستقبال العالم القرائي الجديد الّذي لا يرضى بالتباطؤ.
كما أُشير إلى أنّه يجب علينا تجاوز إشكالية الصراع بين الورقي والرقمي وأيّهما أفضل، وأنّ الرقمي يُشوّه جمالية النصوص وغيرها من التساؤلات التي لن تُثمر مهما حاولنا، فالرقمية واقع، والمُتلقي العربي صاحب ثقافة الصورة أصبح أيضا واقعًا والعزوف عن التلقي الورقي أصبح قائمًا، لهذا التفكير الحقيقي كيف نصنع مقعدا في الواقع الجديد وتحويل القراءة إلى الرقمي وتوجيهها وتفعيلها بشكل يضمن فِعلاً قرائيًا جماهيريًا حقيقيًا. وعن تجربة شخصية من خلال مدونتي والإحصاءات القرائية الرقمية ومدة جلسات القراءة المسجّلة، أرى أنّ الفِعل القرائي الرقمي هو مُستقبل القراءة عربيًا وعالميًا لهذا أدعو الكُتّاب والنُقاد إلى ضرورة الاِنخراط السريع في هذا المجال ليصبح فِعل القراءة جماهيريًا بشكل فعلي وبعيد عن الإطار النخبوي الضيق، ويمكن من خلاله إيصال أية رسالة بسرعة، ولأكبر عدد مُمكن، كما أنّ سهولة الفِعل القرائي الرقمي يجعل إقامة دورات وأيّام للقراءة أمراً يسيراً فلا يتطلب الاِنتقال أو فرض نمط معيّن على المشاركين.
ومن أجل تفعيل الفِعل القرائي والإبداعي عند الطفل -مثلاً- قمتُ قبل فترة بطلب من وزارة الثقافة تقديم مسابقة "المبدع التفاعلي الصغير"، حيث تمنح المنصة فضاءً حراً للأطفال للقراءة والتفاعل والإبداع سواء على مستوى القصة أو المسرح أو الرسم.
أتمنى في الأخير أن يتم تفعيل المنصات الرقمية وأن تتبنى وزارة الثقافة بالاِشتراك مع وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي مشروع القراءة للجميع من خلال منصة جامعة تُقدَم من خلالها مشاريع قرائية تصل إلى الجميع على اِختلاف جنسهم وسنهم ومستواهم ويكون التفاعل الإيجابي بين الجميع على مستوى المنصة، فمن خلالها يمكن قياس المدى الحقيقي للمقروئية كما يمكن الوصول إلى الجميع رغم بُعد المسافة.
بوداود عميّر كاتب ومترجم
القراءة في خطر وإنقاذها يستدعي تضافر جهود الجميع
القراءة في وقتنا الراهن، لم تعد عملية سهلة وبسيطة كما قد يتصوّر البعض، لاسيما في ظل الظروف المناوئة المحيطة بها، والتي تُساهم في الحدّ من فعاليّتها وعرقلة تواصلها وانتشارها الأفقي. ذلك أنّ القراءة لم تعد كما كانت من قبل، الوسيلة الوحيدة لتحقيق المُتعة والتسلية والفائدة؛ تلك أشياء باتت تُحققها وسائل التواصل المعاصرة بتنوّع صيغها واختلافها، بجاذبية وسهولة وإغراء شديد وبأقل تكلفة، من بين العوامل التي ساهمت في تفشي ظاهرة ما يُعرف بعسر القراءة. الأمر الّذي دفع بالمُهتمين والباحثين إلى محاولة التصدي للظاهرة من خلال إنجازهم دراسات علمية وبيداغوجية جادة وعميقة، بغية البحث عن الطُرق الكفيلة بإمساك لحظة القراءة عند المُبتدئين؛ من خلال محاولة الإجابة عن سؤال ماذا نقرأ وكيف نقرأ؟ ذلك لأنّه من أسباب العزوف عن القراءة، سوء اِختيار الكِتاب المُناسب للقارئ المُناسب؛ سينصرف عن القراءة -أحيانا إلى غير رجعة- من ستتصادف قراءته الأولى مع كِتاب صعب ومعقد، إذ يبدو من غير المناسب بيداغوجيًا مثلاً، اِقتراح قراءة أعمال كافكا أو ألبير كامو أو سارتر، لتلاميذ الطور الاِبتدائي وحتّى المتوسط؛ أعمال تتطلب اِستعداداً فكريًا لتقبّل مفاهيم مبهمة كالعبثية مثلاً؛ مادة الفلسفة نفسها مؤجلة التدريس إلى غاية نهاية الطور الثانوي؛ بينما هناك أعمال أدبية مشوّقة وخفيفة، تتناسب مع صغر سنّهم وتُراعي قدراتهم الاِستيعابية؛ ذلك أنّ القراءة مستويات، تستدعي التدرّج في تحصيلها.
من هنا تأتي أهمية نوادي المطالعة، ومبادرة إنشاء المكتبات في المقاهي والمطاعم والأماكن العمومية. كما يجدر التنويه بمبادرة مشروع الدليل الوطني للقراءة، الّذي أطلقته السنة الماضية دار "الوطن اليوم" للنشر، والّذي يهدف إلى مساعدة التلاميذ وأوليائهم، والقادمين الجُدد لعالم القراءة، أمام الكمّ الهائل من الكُتب التي أنتجتها المطابع في العالم عبر التاريخ، إلى تبديد حيرتهم في الاِختيار؛ بحيث يقطع عليهم جهدا كبيرا كانوا سيبذلونه في البحث عن الكُتب القيّمة والمناسبة لهم. وهي خطوة فعّالة في الولوج إلى عالم القراءة الرحب، ومساهمة حقيقية في الاِحتفاء بالكِتاب، من خلال اِقتراح مائة كِتاب في الثقافة الجزائرية والعربية والإنسانية، في مختلف مجالات الفكر والأدب، اِختار عناوينهم بدقة وعناية أكثر من مائة كاتب ومثقف جزائري، يقترحونها ككُتب تُناسب الفئة العمرية المُحددة تعليميًا من الاِبتدائي إلى الثانوي، وهي فترة حساسة جدا للقراءة، ذلك أنّه سيصبح من الصعوبة بمكان، الإمساك بلحظة القراءة، إذا ما تخطينا أو أهملنا هذه الفئة العمرية الهامة والأساسية، "فإذا نجحنا في تحفيز التلاميذ لقراءة القصص الخيالية المبسّطة والأشعار العذبة، فإنّ المرحلة الثانية ستكون أسهل" كما يوضح المشروع. ذلك أنّه سيصبح من الصعوبة بمكان، الإمساك بخيط القراءة، بتخطي أو إهمال هذه الفئة العمرية الهامة والأساسية.
لقد أصبح القارئ الجيّد عُملة نادرة، كما يُؤكد بورخيس: "أن تجد قارئًا جيّداً أصعب من أن تجد كاتبًا جيّدا"؛ من هنا تأتي أهمية مساهمة الكُتّاب والشعراء والمعنيين بشأن الكِتاب، بمختلف توجهاتهم وأطيافهم، في العمل على تثمين كلّ مبادرة من شأنها تشجيع القراءة ودعمها وتحبيبها إلى النّاس، وفي اِقتراح السُبُل الكفيلة بإيجاد الحلول المُلائمة لمعالجة ظاهرة العزوف عن القراءة. في الطريق إلى بلوغ نوعية من القراءة تبلغ مرحلة التعلّق بالكِتاب؛ كغواية وشغف، وليس كعامل مُساعد فحسب، أو أداة لتحقيق مبتغى محدّد، أو كهدف تعليمي معيّن، تنتهي مهمته باِنتهاء إنجازه، كما يحدث في تعاملنا مع الأشياء المادية، وكما يحدث في المؤسسات التربوية، وخاصة الجامعة؛ إذ لا يكفي معرفة القراءة والكتابة للتمكّن من القراءة بهذا المعنى. يوجد متعلمون وأصحاب شهادات جامعية، لا صلة لهم بالقراءة، أو أنّ قراءاتهم اِنتقائية في المُجمل، تنحصر ضمن حدود ما تتطلبه وظيفتهم من اِلتزامات؛ هكذا اِتخذ العزوف عن القراءة منحى تصاعديًا مُثيرا للقلق، بلغ درجة اِختفى فيه أو يكاد مثلاً قارئ الشِّعر ومتذوّقه، خارج الاِشتغال به، صار القارئ شاعرا أو مُهتمًا بالشِّعر هو أيضا.