هل أثرت مواقع التواصل الاِجتماعي في ثقافة القيم؟ وهل اِنعكست سلبًا على القيم الثقافية المجتمعية/الاِجتماعية التي تربت عليها أجيال وأجيال مُتتالية؟ وهل نحن أمام أزمة قيم حقًا؟ ولماذا هذه الأزمة في وقت اِنفتح فيه العالم على قيم كونية/إنسانية راقية.
أيضًا ما مدى تأثير العولمة على القيم الاِجتماعية الجزائرية؟، وهل من الطبيعي أن تتأثر القيم الاِجتماعية بالفضاءات الإلكترونية؟ أيضا ما مدى تغير أو ثبات القيم في المجتمع الجزائري، وكيف يمكن للتربية أن تؤدي دوراً تجديديًا لقيم هذا المجتمع، أيضًا كيف يمكن معالجة أزمة القيم وأزمة ثقافة القيم التي يُعاني منها الإنسان الجزائري والتي نجدها أكثر حدة عند جيل الشباب الّذي يعاني غموضاً في الهوية وضياعاً في الأهداف.
حول هذا الشأن "القيم الاِجتماعية وتأثيرات وانعكاسات الفضاءات الاِلكترونية". كان ملف هذا العدد من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الأكاديميين الذين تناولوا الموضوع كلٌ من زاويته وحسب وجهات نظر مختلفة لكنّها تلتقي في ذات المعطى والسياق.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
زهية دباب: أستاذة وباحثة أكاديمية –جامعة محمّد خيضر، بسكرة
المُؤثرات الوافــدة نسفـت جــدران البيــوت
لقد أصبحت الأُسرة الجزائرية تعيش بين تجاذبات وتناقضات عديدة تُهدّد كيانها وترابطها وتقاليدها وهذا بسبب الثقافة الغربية التي زحفت على المجتمع الجزائري، وأدت إلى تفكك العديد من الأُسر وفقدانها لمرجعيتها الثقافية والدينية والأخلاقية، حيث أنّ الأُسرة الجزائرية مقطوعة الأوصال وحاضنة لأغلب الآفات الاِجتماعية التي تعرفها الأُسر العالمية، أهمها اِرتفاع نسبة الخلع، الطلاق، الاِنحراف، ومُختلف أشكال الشذوذ، نتيجة الشقاق الّذي ضرب الأُسرة الجزائرية، في ظل البيئة الرقمية من شبكات التواصل الاِجتماعي وخاصة الفايسبوك والإنترنت اللذين يعتبران من الأسباب المُباشرة لتأثر الأُسر والأفراد بالثقافة الغربية التي تدخل عبرهما والتي لا تُشجع على الإطلاق على الترابط الأسري وتُساعد على نشر ظواهر سلبية في المجتمع الجزائري.
هذا ما جعل الأهل يعيشون تحت ضغط اِجتماعي كبير، ومخاوف من "اللا أمن" الّذي يستشعرونه في كلّ مرّة يُغادر فيها الأبناء البيت، لماذا؟ لأنّ الأسرة على خلاف ما كانت عليه من قبل من أمن اِجتماعي يُحظى به الآباء في خلال ممارساتهم المختلفة في إطار عملية التنشئة الاِجتماعية للأبناء في غياب مؤسسات التأثير المُعاصرة كالهواتف الذكية، شبكات التواصل الاِجتماعي، صالات الإنترنيت المفتوحة على مصراعيها …أصبح الأهل يجدون أنفسهم اليوم في حالة لا أمان من تأثير هذه المؤثرات الخارجية وما تقدمه من إغراءات مختلفة تصيب الفكر والوجدان.
كما أنّ حدود التأثير أصبحت مفتوحة للغاية إلى درجة أنّ "البيت" كمجال سكني لم يعد قادراً على التصدي لهذه المُؤثرات لأنّه أصبح هو نفسه وكراً لها بفعل ما تتناقله وسائل الإعلام والاِتصال، فالبُعد الفيزيقي إذن لم يعد يُشكل حائلاً دون التعرض إلى نماذج الحياة المعولمة. فالصورة أصبحت أهم شريك يومي للبشر، فقد ساهم التلفزيون باِستدخال قيم وسلوكات اِستهلاكية غالبًا مُضرة أو مُخالفة للنموذج الجزائري، وتحضرنا هنا أطروحة "هربر ماركيوز" عن "إنسان البُعد الواحد" حيث يرى أنّ المجتمع الصناعي في ظل الرأسمالية المتقدمة قد خلق فيضًا من الحاجات الكاذبة أو الأحلام، مِمَّا اِستوجب على الأُسرة الجزائرية أن تقف حصنًا منيعًا وتتخذ مجموعة من الآليات لحماية أبنائها وللمحافظة على مبادئ هويّتها من خلال وضع جملة من الإستراتيجيّات منها التوعية والتحسيس حول متطلبات نقل القيم في زمن العولمة وما أفرزته من تعقيد للواقع المُعاش يفرض على الأسرة إيجاد صيغ جديدة تستحضر من خلالها الخلفيات والمرجعيات الثقافية والدينية والتاريخية والسياسية والتربوية للمجتمع تُؤهلها إلى بناء هوية متكاملة تُساير العصر ولا تفرط في الأصل، فإدارة التحديث ولو كانت قسرية لا يمكن أن تجعل مجتمعا غير غربي يصير غربيًا، يبقى أنّ الحداثة طرقها مُتعدّدة فهي ليست مُطابقة بل معاصرة، إذ نحن أنجحناها ستكون مُتميزة عن الغرب لكن مُكافئة له ومعاصرة له لكنّها ستجعلنا أيضًا متميزين عن الأسلاف.
وعليه فإنّ تثبيت الهوية والحفاظ عليها مسؤولية الأُسرة التي تلزم بتلقين الأبناء أول مبادئ الهوية الحقة، بعدها يأتي دور مؤسسات التنشئة الأخرى التي يكون دورها مُكملاً، لكن للأسف نُلاحظ أنّ دور الأسرة أصبح ضعيفًا في تكوين ملامح الهوية، نظراً للتحوّلات التي يعيشها المجتمع، لذلك تتطلب حماية الهوية توعية الأسرة في حد ذاتها.
وكذا مُرافقة الأبناء من خلال تبني أساليب تتماشى وخطورة الرهان الّذي تفرضه العولمة، من خلال تعزيز الاِعتزاز بالذات لديهم، وزرع الشعور بالمسؤولية والإخلاص في نفوس الأبناء، وكذا مساعدتهم على التكيف مع مقتضيات التغير الحاصل في جميع مجالات الحياة الاِجتماعية، دون المساس بأصل الهوية. وكذا من خلال تفعيل دورها وضرورة إحداث تكامل بين مختلف مؤسسات التنشئة الاِجتماعية.
كما يمكن تعزيز الهوية بأقوى عناصرها، وهي العودة إلى مبادئ الإسلام. بالإضافة إلى توسيع أساليب الرقابة الأسرية من خلال إيجاد أساليب ضبط تتناسب والموقف المُمارس من طرف أفراد الأسرة، دون مُمارسة التسلط الأسري في كلّ موقف من المواقف، بل التنويع بين الترغيب والتهذيب والقسوة التي تهدف إلى العدول عن المواقف السلبية المترتبة عن مخلفات العولمة والتكنولوجيا، وذلك بمحاولة إكسابهم لمعارف تتماشى ومتطلبات الاِندماج في الحياة العصرية مع موازنتها بِمَا يتفق وهويتنا المجتمعية.
عبد السلام فيلالي: كاتب وأستاذ وباحث في عِلم الاِجتماع -جامعة عنابة
لا توجــد أزمـــة قيـــم لكننا نعيش فتـرة تاريخية مُتميزة
لكلّ مجتمع عناصره الثقافية التي تُميزه، أو ما نصطلح عليه أنساق القيم. البحث فيها أمرٌ مُعقد سواء من حيث البنية أو الوظائف. ننطلق في أي مقاربة لها على أساس النسبية والأنساق الفرعية ضمنها. وتعريفها مرتبط بتعريف الثقافة من حيث أنّها كلّ ما يتضمنه المجتمع من رموز اِجتماعية، عادات، تقاليد، عقائد، وتفضيلات. ثمّ أنّه يجب أن نُقاربها من حيث السياق العام الّذي يُوجد فيه المجتمع وما يُوجده من مُحددات سياسية واقتصادية، أي الوضع التاريخي وما ينشأ فيه ومنه من تغيرات.
إنّنا نعيش في فترة تاريخية مُتميزة، تستدعي إعادة تعريف مفهوم التفاعل الاِجتماعي. وهذا في ظل وجود وسائل التواصل الاِجتماعي التي غيرت بشكلٍ جذري في طبيعة العلاقات الإنسانية والتأثير. وأوّل ما نُلاحظه هو تبني مفهوم القرية العالمية (المصطلح الّذي وضعه مارشال ماكلوهن في عام 1959) بسبب ثورة المعلومات، كدلالة على أنّ العالم أصبح أكثر اِتصالاً وتَرابطًا. فما كان يحدث من عملية تواصل على مستوى جد محدود من ناحية المكان وعدد الأفراد، يمكن اليوم أن يكون ظاهرة عالمية. فالتأثير فيما يخص مواقع التواصل لا يختلف عنه في السابق إلاّ من ناحية المدى والحجم.
التأثير إذن موجود ولم تتغير ماهيته، ولكن أصبح أكثر أهميةً ونفاذاً اليوم. بِمَا يجعل عملية التغير الاِجتماعي سريعًا سواء على مستوى البُنى الذهنية (كفرد) أو المجتمع.
الحديث عن أنساق القيم من منظور عِلم الاِجتماع يتجهُ نحو تحليل ليس من ناحية السلب والإيجاب، إنّما من ناحية التغيرات التي تحصل وما ينتج كإعادة تعريف لها ضمن الإطار العام. ولذلك نتجنب مفاهيم الأزمة أو السلبية، بل هي مظاهر مُستجدة تستدعي طرح أدوات جديدة للتعامل خاصةً من ناحية القوانين. الجزائريون ليسوا في جزيرة منعزلة، هم جزء من تيار العولمة الجارف. التعامل معه هو دور مؤسسات الدولة من حيث إيجاد ضوابط وتقنيات للتعامل وتطوير عمل اِتصالي سريع وفعّال لمواجهة التدفق الهائل للمعلومات وتبادلها وانتشارها.
إنّ الجواب على سؤال مضمون التغير ومداه في هذه الأنساق، يحتاج إلى دراسات من ذوي الاِختصاص (عِلم الاِجتماع، عِلم الاِتصال، عِلم النفس...) التي بوسعها تقديم خُلاصات حوله ومن ثم كيفية التعامل. وإنّ أهم ما ينبغي أن نتعامل به هو الاِنفتاح على القيم الجديدة. لقد صارت ذاتية الفرد أكثر قراءةً عبر وسائل التواصل، من خلال ما يمكن جمعه من بيانات عنها سواء من تفضيلاته أو ما يعرضه عن نفسه. فمثلاً صرنا نعرف أشياء كثيرة عن أفراد يقومون بمشاركة جزء من حياتهم الخاصة على منصّات التواصل الاِجتماعي (فيسبوك، أنستغرام، تيك توك...). أيضًا وجود هامش كبير للاِستقلالية عن مؤسسات الرقابة الاِجتماعية التي لم يعد بوسعها التحكم أو ضبط ما يرد بين جماعات صغيرة أو كبيرة العدد.
الخلاصة: لا توجد أزمة قيم. ما يحصل حاليًا هو توسع أُطر وأُفق التفضيلات وما ينتج عنها على صعيد التفاعلات الاِجتماعية، والشيء الّذي يجب أن نقوله إنّه في مجتمعنا يوجد تباين كبير حول تطلعات الأفراد وما يظل معروفًا للمؤسسات الاِجتماعية. لقد تجاوز الفرد المؤسسة حريةً وفِعلاً، وهنا يبرز سؤال الوضعيات الجديدة التي تُلبي الحاجات الجديدة. والأمثلة كثيرة، فيما يخص الشباب والمرأة والسياسة والاِجتماع.
عبد الرزاق بلعقروز: أستاذ وباحث أكاديمي متخصص في فلسفة القيم
نعيش ما يشبه تعطيل للقيّم
حول هذا الموضوع المهم واللاَّفت، (أزمة القيم)، لابدّ لنا أن نفرق تفريقًا جليًا بين معنى أزمة القيم في الدوائر الثقافية المُتعدّدة، فأزمة القيم في الغرب تعني أنّ الإنسان لم يعد يعرف ما الّذي يعنيه بكلمة القيم، خاصةً بعد سيادة ثقافة النّهايات، نهاية الإلزام الديني ثم نهاية الإلزام العقلي، فأزمة القيم هنا تعني أنّ الغرب يعيش زمن تلاشي المرجعيات وسيولة المعايير، أزمة القيم في صميمها تعني الفراغ الأخلاقي وفقدان الأُسس، وفي هذا السياق يقول ميشيل ميتايير أحد فلاسفة الأخلاق المعاصرين "نحن نَعيش في حقبة، باتت فيها القيم الأخلاقية تُثير أسئلة صعبة، ونشهد أيضا تحولات اِجتماعية وثقافية كبيرة، تُغرقنا في اللاّيقين، يجب علينا رفع هذه التحدّيات ومواجهة المشكلات الخفية، ومع هذا كلّه، فإنّه لا يلوح لنا من أجل تحقيق ذلك (أي رفع التحديات ومواجهة المشكلات) أنّ بحوزتنا نظامًا في القيم الأخلاقية صَلبًا ومُتناسقًا". ومؤدى هذا الإقرار فيما يخص أزمة القيم، فقدان القيم العُليا قيمتها، والإقبال على الثقافة المتعية والنَّرجسية وإدمان اللّذات وفقدان القدرة على التحرر منها. أمّا أزمة القيم في سياقنا الثقافي، فهي تعني تمزق العلاقة بين القيم والواقع، فيما يمكن القول أنّه أشبه بتعطيل القيم، التي لازالت ساكنة في عِلم المعنى ولم تنتقل إلى عالم الواقع، إنّ الأزمة لم تُلامس القيم باِعتبارها قيمًا هادية وسامية، وإنّما تتمظهر في الاِنفصال بين القيمة والواقع، لأنّنا كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي في تشخيصه للأزمة، إنَّ أزمتنا ليست جوهرية، أي تلامس روح الثقافة وقيمة القيم العُليا، وإنّما أسبابها ظرفية ترجع إلى التاريخ، أمّا الغرب فأسبابه جوهرية وليست تاريخية. هذا هو معنى أزمة القيم: فقدان القيم قيمتها في السياق الغربي، وانفصال القيم عن حركة الواقع والتاريخ في السياق الثقافي العربي الإسلامي.
وإذ تقرر هذا، فإنّه يجدر بنا صرف السعي إلى القول بأنّ أزمة القيم كما يعيشها الغرب قد اِنعكست علينا، وباتت ثقافتنا تعيش لحظة "الاِمتصاص الثقافي"، أي رغبة قطاع من قطاعات المجتمع في أن يكون مثل الشباب الغربي في زيه ونحلته وسائر عوائده، وعلّة هذه الرغبة، نلحظها في ثورة الإعلام والاِتصال، التي حوَّلت الإنسان الغربي إلى إنسان رحَّال أو إلى مثال خلقي ونموذج ذهني، إنّ أزمة القيم كما يعرفها الغرب تتسلل إلى ثقافتنا، وتزحفُ كي تُدمر القيم العُليا التي هي عنوان الإنسانية الحقيقي، إنّ علاج أزمة القيم عندما يكون مُتعدّداً ومُتراتبًا: القيمة مثل البذرة تغرس في تربة الوجدان من الطفولة، ويجب أن تُتَعَهَّد بالإنماء والتقوية، ولكلّ مرحلة عمرية منظومة قيم خاصة بها، لأنّ الإنسان إذا أهمل في بداياته، فمن الصَّعب أن يتحقَّق بالقيم في مراحله العمرية مستقبلاً، إنّ القيم الأخلاقية تنمو وتقوى وتثبت وترسخ بالعمل والفعل، وليس بالقول والكلام الّذي لا ينتج أثراً، الغرب يعمل بالقيم المنفعية التي هي عماد فلسفته في الحياة، يعمل بها لأنّها ضرورية وعماد نجاحه. أمّا نحن فنعيش أزمة حادة بين قولنا وفعلنا، بينما الحقيقة هي أنّ الفعل ولو كان قليلاً فإنّه أجمل بكثير من أي مشروع نظري بقي في دائرة الإمكان، لقد غلبت الأهواء النفسانية على قلوبنا، فبتنا غير قادرين على الفِعل والحركة والنُّهوض، الفِعل هو مُنطلق الحضارة، وإذا اِرتقى الفِعل إلى مستوى أن يكون قيميًا، فهو قد دخل المعنى الكمالي للإنسان، نحن لا نفعل أو لا نعمل بالقيم، لاِعتقادنا بأنّها غير مُمكنة التحقّق، ولا نريد أن نُكابد ونبذل الجهد لأجل ذلك، ومن يعتقد أنّه يأتي يوم تصبح فيه القيم شيئًا يسيراً فِعله من غير جهد أو إرادة، فإنّ ذلك النَّوع من الفِعل لم يظهر في التَّاريخ ولم يخلقه الله أبداً، الوجود تنافس إمّا في طريق الخير، وإمّا في طريق الشر، ونحن ننتمي إلى ثقافة تجعل من قطبها البحث عن الحقيقة وإرادة الخير. وبالتالي، فالأجدر بنا دومًا بذل الجهد ونفي الفشل وإثبات الإرادة. ويجدر القول بعد هذا، إلى أزمة القيم كما باتت تظهر في وسائل التواصل الاِجتماعي، اِفتقدنا أخلاقيات التواصل والتعامل والتعارف عبر الإنترنيت، باتت وسائل التواصل الاِجتماعي تبثُ العنف وتُشجع على الكراهية وتخلق التكتلات الثقافية التي لا نجني منها شيئًا، فقد تعود بنا إلى نقاط الصفر التي لا تُثمر شيئًا. وأمام هذا، فإنّه جدير بنا تعليم القيم، ليس القيم بعامة وإنّما قيم التواصل الاِجتماعي بأن نعيد العلاقة المُمزقة بين القيمة والكلام، فالكلمة مُقدسة وحاملة لمضامين روحية ترتفع بالإنسان، وليست الكلمة مجرّد ألفاظ أو مجرد كلام خال من معنى المعنى وخال من المعاني الروحية الجليلة مثل: المحبة والتعارف والإحسان والرحمة وغيرها. وأن نعيد أيضا في سياق إصلاح أعطاب هذه الحداثة الفائقة، نعيد لكلمة الحقيقة قيمتها، لأنّ السائد هو الاِصطناع والخداع والزيف، فاستحال الواقع إلى إرادة قِوى لا تبتغي الحقيقة، بل تبتغي القوّة والهيمنة.
خالد عبد السلام: أستاذ وباحث أكاديمي -قسم عِلم النفس وعلوم التربية والآرطفونيا -جامعة سطيف2
العولمة الثقافية والإعلامية أحدثت خللاً كبيراً في منظومة قيّمنا
مواقع التواصل الاِجتماعي هي فضاءات للتواصل بين النّاس وتبادل المعلومات والخبرات والتجارب. المشكلة لا تكمن فيها بحد ذاتها بقدر ما تكمن في كيفية توظيفها في الحياة اليومية. حيث هناك من يستعملها في التواصل مع أهله وأقربائه، ومنهم من يستعملها في التواصل مع طلبته وجامعته أو مؤسساته وإدارته للتفاعل بشكلٍ أسرع وفعّال مع كلّ المُستجدات والطوارئ، أو للاِستجابة لاِنشغالات واهتمامات المتعلمين والطلبة الذين يُشرف عليهم ويتابعهم أو يدرسهم.
لكن في المُقابل هناك من يراها فرصة لإظهار كلّ مكبوتاته وعُقده باِستعمال هويّات مُستعارة حتّى لا يُعرف ولا يُكشف ويجد الحرية في التعبير بدون أي ضوابط ولا قيم ولا أخلاق. فيسب النّاس ويتهمهم أو يتعرض لأعراضهم وخصوصيّاتهم للتشفي بهم أو للانتقام منهم. وهنا نُلاحظ الفرق بين التوظيف الإيجابي والتوظيف السلبي. فالقيم تتواجد بين هاتين الوضعيتين، وتتحكم فيها ضمائر النّاس، مستوى وعيهم ودرجة مسؤولياتهم وأخلاقهم الاِجتماعية، وأهداف اِستعمالهم لتلك الشبكات. فمرضى النفوس والمُعقدون والجُبناء موجودون في كلّ زمان ومكان وفي كلّ المجتمعات، كثيراً ما يجدون مُتنفسهم في مواقع التواصل الاِجتماعي لإشباع نزواتهم السادية بإيذاء الآخرين والتشهير بهم.
فمن الطبيعي أن تتأثر القيم الاِجتماعية بمثل هذه الفضاءات الاِلكترونية المفتوحة سلبًا وإيجابًا. بِمَا أنّها تُوفر فُرص التفاعل بين النّاس. حيث قد تُعزز قيم التعاون والتضامن بين مكونات المُجتمع الواحد خلال المحن والظروف الصعبة عبر نداءات اِستغاثة وعبر آليات وتطبيقات عملية تسريع الإجراءات والاستجابات محليًا وطنيًا ودوليًا. كما تُساهم في تعزيز قيم المحبة والأخوة والاِحترام بين مكونات الشعب الواحد وبين كلّ شعوب العالم من خلال نشر قيم التعايش، ونبذ العنف، التعصب والتطرف والكراهية وتكريس قيم التسامح والحوار وقبلاً الاِختلاف والتنوع. كما يمكن لنفس المواقع أن تُغذي قيمًا سلبية سواء بطريقة مُباشرة من خلال التحريض على العنف، الكراهية، التعصب والعدوان والتخريب، فتنجر عنها فتن داخلية وخارجية أو دمار وخراب للعمران والإنسان كما حدث في الكثير من دول العالم وفي الدول العربية وبعض الدول الإفريقية.
وحتّى نكون موضوعيين يمكن القول إنّ تلك الوسائط التكنولوجية أثرت سلبًا في جوانب وإيجابًا في جوانب أخرى. فالجانب السلبي قد يطغى أحيانًا نتيجة الثقافة الاِستهلاكية لدى مجتمعاتنا التي لا تنتجها ولم تتربَ على كيفية اِستعمال هذه التكنولوجيات. حيثُ نجد الكثير من الشباب يستبدلون جلساتهم في المقاهي بدردشات طائشة في شبكات التواصل الاِجتماعي باِعتبارها بعيدة عن الأنظار وتضمن سرية وخصوصية التصرف. فكثيراً ما اُستعملت للإساءة، التشهير، الاِنتقام السب والشتم والدعايات والإشاعات لإحداث الأضرار بين النّاس. كفبركة المعلومات والأخبار والصور والفيديوهات لإحداث الشكوك وبهذا تُساهم في تفكيك النسيج الأسري والاِجتماعي. كنشر صور أو فيديوهات لعائلات خلال الأعراس، والأفراح أو خارج البيت دون إذنهم بغرض الإساءة لها وتشويه صورتهم والمس بكرامتهم.
العولمة الثقافية والإعلامية أحدثت خللاً كبيراً في منظومة القيم للمجتمع الجزائري، لاسيما وأنّها قائمة على منطق الهيمنة والسيطرة، ومنطق السيد والعبيد. فالإنسان في مجتمعاتنا يعيش بعقدة النقص تجاه كلّ ما هو أجنبي، لذلك يتهيّأ نفسيًا لتقبل كلّ ما هو وافد من قيم وسلوكات باِعتبارها المُثُل العليا له وفق مقولة اِبن خلدون "المغلوب مولع بتقليد الغالب" أو مقولة مالك بن نبي "القابلية للاِستعمار". حيث أصبح الكثير من الجزائريين ميّالين إلى القيم المادية التي تغذيها الأفلام، ومضات الإشهار، ومختلف المشاهد والصور والمواقف المبنية على فلسفة الميكيافيلية "الغاية تُبرر الوسيلة". كما ساهمت في تغذية قيم سلبية كالأنانية، التحايل والخداع، التزوير، الغش، ثقافة الاِنتقام والتعصب، السرقة....
يبقى أنّ القيم في كلّ المجتمعات وعبر كلّ مراحل التاريخ تخضع لقانون الديناميكية النفسية، والاِجتماعية. فمنها ما يبقى (ثابت) نسبيًا ومنها ما يخضع للتغيير وبعضها يخضع للتطور حسب الظروف التي يمر بها المجتمع وهي كالكائنات الحية. لذلك نجد أنّ الكثير من القيم الدينية والإنسانية كقيم الأخوة التضامن، التعاون، التآزر أوقات المحن والشدائد، ونبذ التفرقة بين الجزائريين مازالت راسخة كقيمة في سلوك الجزائريين منذ قرون رغم كلّ سياسات التفرقة الاِستعمارية المتتالية منذ عهد البيزنطيين، الرومان الوندال، الفينيقيين العثمانيين، وخاصةً الفرنسيين الذين يعتبرون أسوأ وأحقد اِستعمار في الكرة الأرضية. كما أنّ نبذ العنف، التطرف، ثقافة الحوار وقبول الاِختلاف والتنوع تأثرت سلبًا نتيجة الحروب النفسية وعمليات غسل الدماغ التي مُورست ومازالت تُمارس ضدّ شعوبنا بكلّ الوسائل الإعلامية كالدعاية، الإشاعة، التلفيق، الفبركة، الكذب وغيرها من أجل تفريغها من كلّ قيم الرحمة والشفقة والتسامح الفكري، الديني، الثقافي واللغوي، السياسي والإيديولوجي.
لكن يمكن للتربية أن تؤدي دوراً تجديديًا لقيم هذا المجتمع: الدينية والتاريخية والاِجتماعية. إنّ التربية هي الوسيلة الإستراتيجية التي تعتمدها كلّ دول العالم للنهوض بمجتمعاتها والرقي بها إلى مستوى التحضر. فبالتربية تُعالج كلّ عُقد وأمراض الإنسان النفسية، العقلية، الاِجتماعية والتاريخية. وبواسطتها نبني الإنسان من جميع الجوانب الجسمية، العقلية، النفسية الروحية والاِجتماعية ليكون صالحًا وفعّالاً في المجتمع، من خلال تطوير تفكيره، ذكائه. وبواسطتها نستطيع تطوير تفكيره النقدي الّذي يُعتبر صمّام أمان أي إنسان من كلّ الأفكار والقيم الوافدة والهدّامة من خلال تنمية القدرة على الغربلة، المُناقشة، التصنيف، والاِختيار للأحسن والأفضل منها، وعن طريقها يرقى تفكيره الاِبتكاري والإبداعي الّذي يسمح له بالتجديد التطوير وإيجاد البدائل والحلول لمشكلاته في كلّ مراحل ومجالات حياته. فالتربية هي التي تُحوِّل الإنسان من كائن بيولوجي إلى كائن اِجتماعي. وهي التي تُعيد للإنسان كرامته وآدميته وتُخرِجه من الوحشية والهمجية (فلولا التربية لأصبح النّاس كالبهائم كما قال أبو حامد الغزالي). وهي التي تجعله يُدرك معنى حياته. وبالتربية تتعلم الأجيال حسن توظيف واستعمال هذه التكنولوجيات المُعاصرة كوسائط للتعلم والمعرفة وتطوير الذات واختصار الجهد والمال في كلّ العمليات التي يتطلبها العصر.
كما يُمكن أن نعالج أزمة القيم لدى الإنسان الجزائري، عن طريق تحريره من عُقدة الخوف، وعُقدة النقص والاِنهزامية أمام الآخر الوافد، وبتعزيز ثقته بنفسه وقدراته وإمكاناته ليتعامل مع الآخرين والمحيط الّذي يعيش فيه بالندية (هم رجال ونحن رجال). مع تحريره من الجهل، الخرافات والتفكير النمطي السجالي الّذي يجعله يُسلِم بكلّ ما يسمع ويرى ولا يُناقشها. ويتم أيضا بتنمية التفكير النقدي لديه بِمَا يسمح له بالمناقشة والتمحيص للأفكار والمواقف والوضعيات.