إن «التراث والتجديد» حسب حسن حنفي هو تعبير عن أزمة الدراسات الإسلامية في الجامعات والمعاهد العليا، وهذه الأزمة في الحقيقة أزمة البحث العلمي، وترجع أساسا إلى انفصال في شخصية الباحث بين دينه والبحث، فهو من ناحية مسلم بمعنى أنه مستسلم للواقع الذي يعيش فيه، وهو باحث من ناحية أخرى يدرس التراث بنظرة محايدة، وكأنه يدرس ظواهر تاريخية لا شأن له بها، وهذا مناقض لما عرف به حسن حنفي التراث، حيث أكد أنه قضية شخصية للباحث لأنه ينتمي إليه فكرا وحضارة ولغة ومصدرا ومصيرا.
ويرجع حسن حنفي هذا الانفصال الحاصل في شخصية الباحث بين المسلم والبحث لعدة أسباب منها تصور الإسلام على أنه مجموعة من العقائد لا شأن لها بالباحث العلمي، مما يجعله يتبنى أي منهج من الخارج، والركود الذي أصاب التصور الإسلامي للحياة، والدراسات التي لم تستطع أن تقدم مقابلا للمناهج الغربية، بالإضافة إلى الانفصال عن تراثنا القديم وتبعيتنا للتراث الغربي مما يؤدي إلى حالة من التغرب وتقليد مناهج الغرب العلمية التي تنشأ كرد فعل على معطاها الديني الخالص وهو المسيحية (التراث والتجديد ص69-70)
لذا فإن مناهج العلوم الإنسانية في صورتها الحالية هي بحق إنتاج غربي مرتبط أشد الارتباط بالتاريخ الثقافي للغرب يعبر عن خصوصياته ومشكلاته الفكرية، وقد كان تسرب هذه المناهج إلى جامعات ومراكز البحث العلمي في العالم الإسلامي، أمرا تفرضه الحاجة نتيجة الفراغ العلمي مع شدة الحاجة إلى التجديد، فكان لا بد من استيراد العلوم الغربية أو استيراد مناهجها الجاهزة بدون تعديل أو تغيير.
من هنا يؤكد حسن حنفي أن أزمة الدراسات الإسلامية، والأحكام التي تصدر عنها تكشف عن أزمة في مناهج الدراسة، وهي عدم تطابق المنهج مع موضوع الدراسة نفسه، وهذه المناهج إن لم تكن مضادة لطبيعة الموضوع المدروس، فإنها لا تتفق على الأقل معه، وهي ليست مطبقة عن وعي كامل، مما أدى إلى فقدان البحث العلمي مصداقيته كعلم أساسي، لذا يرى حسن حنفي أن إحياء الدراسات الإسلامية لن يكون إلا من خلال إعادة طرح مسألة التفكير المنهجي المتعلق بها، وبالتالي تجنب الأحكام الخاطئة الشائعة وربطها بحياة الدارسين القدماء والجدد، ومن هنا تحيا في أذهان الباحثين وتتحرك قضية الموروث، وكل ذلك بالبدء في التفكير المنهجي وترجع أزمة المناهج إلى خطأين هما:
النعرة العلمية التي تسود معظم دراسات المستشرقين، والنزعة الخطابية التي تسود معظم دراسات المسلمين.
-النعرة العلمية: وتنشأ أساسا كما يؤكد حسن حنفي من استعمال منهج أو طريقة أو عادة تخالف تماما موضوع البحث، لأنها تعني دراسة الظاهرة الفكرية كظاهرة مادية خالصة وكتاريخ خالص مكون من شخصيات، أو أنظمة اجتماعية، وحوادث تاريخية محضة، يمكن فهمها بتحليلها إلى عوامل مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية تحدد نشأتها وطبيعتها وتحاول ابتداء من هذه العوامل المتفرقة تركيب الظاهرة بدعوى تفسيرها، وهكذا تنقطع الظاهرة عن أصلها في الوحي وعن أساسها في الفكر والواقع، وتصبح ظاهرة مادية خالصة لها أصلها في التاريخ الذي أعطاها طبيعتها.
ويرجع حسن حنفي هذا الخطأ نسبيا إلى أن جميع المستشرقين من أهل الكتاب ينكرون الوحي الإسلامي، ومن المستحيل بالنسبة إليهم إرجاع الظواهر الفكرية التي يدرسونها إلى أصولها في الكتاب والسنة عن اعتقاد أو عن تعود، بل يرون أن الوحي ذاته نتاج التاريخ واتصال المبلغ بالبيئات اليهودية والنصرانية المعاصرة له.
بالإضافة إلى ذلك فإن العلماء الأوربيون عندما بدءوا منذ القرن التاسع عشر، يأخذون على عاتقهم المسؤولية العلمية للنصوص القديمة للفكر الإسلامي، فإنهم لم يفعلوا شيئا إلا أنهم نقلوا بعض المناهج الثقافية المنبثقة عن التجربة الإغريقية، اللاتينية والمسيحية من إطارها الخاص إلى ثقافة أخرى غير معروفة تقريبا بالنسبة لهم حتى ذلك الوقت.
لذا اعتبر حسن حنفي دراسات المستشرقين لا يمكن استخدامها كمصادر علمية أو كبراهين يمكن الاستدلال بها والاعتماد عليها قبل تمحيصها أولا، والتحقق من صدقها، وبيان ما يرجع منها للباحث المستشرق بتكوينه وثقافته ومزاجه، وما يرجع منها إلى الظاهرة نفسها.
ويرى حسن حنفي أنه يمكننا أن نكشف عن النعرة العلمية في مناهج أربعة يستعملها المستشرقون إما منفردة أو مجتمعة، وهي إما شعورية يعيها المستشرقون أولا شعورية كامنة وراء عمل المستشرق وتحدد اتجاهاته أمام الظاهرة وهذه المناهج هي:
المنهج التاريخي، المنهج التحليلي، المنهج الإسقاطي، منهج الأثر والتأثر.
النزعة الخطابية: تعني النزعة ميل الإنسان ورغبته في تحقيق غاية أو هدف ما.
والنزعة أنواع منها الخطابية التي تسود معظم دراسات الباحثين الذين ينتمون إلى حضارة واحدة، وهي تعطي الأولوية للوحي على التاريخ، إلا أنها تتسم بنوع من عدم الجدية في الطرح، وتسودها العاطفة والانفعال فهي تعبر عن أزمة في الفكر تدفع بالباحثين إلى الدفاع عن تراثهم والتحيز والتقريظ له دون أي أساس نظري أوفهم أوبرهنة أورد على الحجة بالحجة وقد لخصها حنفي في:
التكرار أو تحصيل الحاصل، التقريظ أو الدفاع، الجدل والمهاترات، الحدس قصير المدى.
هذا بإيجاز نقد حسن حنفي للدراسات المنجزة حول التراث سواء من المستشرقين أو المسلمين مفضلا القراءة الفينومينولوجية للتراث الديني.
وتسعى قراءة حسن حنفي للترات على حد قوله إلى إبداع الأنا في مقابل تقليد الآخر سواء الغرب أم السلف وإمكانية تحويل الآخر إلى موضوع للعلم بدلا من أن يكون مصدرا للعلم، وهذا ما يكشف عن الطموح الذي تجاوز التكرار والإتباع إلى الخلق والإبداع.
لقد حاول حسن حنفي طرح رؤية جديدة لما ينبغي أن تكون عليه المناهج الجديدة وأهدافها الوطنية والأممية (منطق التجديد اللغوي، منهج تحليل المضمون، تغيير البيئة الثقافية) وخلاصة أهدافها هي النهوض بحال المجتمعات ومقاومة الاستبداد والتصدي للاستعمار والصهيونية والرأسمالية من الخارج، وذلك عن طريق إعادة بناء العلوم الإسلامية دون تقليد أعمى، ودون تصفية التراث الديني، ضمانا لوحدة المجتمع وشحذا لطاقاته الثورية.
كما حرص حسن حنفي من خلال مشروعه الفكري إلى التجديد المنطلق من داخل الثرات ذاته، لتحويله إلى ثورة تحقق أهداف الأمة المتفق عليها ومن ثم وجب نقل الصراع إلى أرضية الفكر العربي القديم للوقوف مع تيارات المعارضة واليسار، كما يتوجب إرساء تحليل للشعور الديني وفقا لمناهج التأويل الحديث مع علم الظاهرات (الفينومينولوجيا) وعلم النفس الاجتماعي.