أرشيف الصحافة الوطنية يزخر بالكتابات التي تستحق العودة إليها وإخراجها إلى النور
* لم أكن وأنا في مُقتبل العمر سوى قارئة لصالح زايد عبر النصر
في هذا الحوار، تتحدث الكاتبة والقاصة نسيمة بن عبد الله، عن كتابها الجديد، الصادر عن دار خيال للنشر والترجمة، الموسوم بــ"الإعلام الثقافي: إِضاءات في كتابات الإعلامي صالح زايد"، والّذي اِستعادت فيه بن عبد الله، سيرة ومسيرة صالح زايد الإعلامية والأدبية، من خلال جمع وقراءة وتحليل إنتاج صالح زايد من مقالات ودراسات وتحقيقات ونصوص أدبية. الكِتاب يُعد جهداً توثيقيًا بذلته المؤلفة، وعملاً تحليليًا قدمته على مدار 414 صفحة للاحتفاء بالراحل وأثره من جهة، ومن جهة أخرى لإنارة حقبة من الصحافة الجزائرية والكتابة والنقد والفكر بشكلٍ عام، وهو عمل فيه إضافات من معلومات وتعاليق وملاحق.
* حاورتها/ نوّارة لحرش
للإشارة، نسيمة بن عبد الله، كاتبة وأستاذة وناشطة ثقافية، صدرت لها العديد من العناوين الأدبية، من بينها مجموعات قصصية، هي على التوالي: «كلمات تحت الشمس»، «حب في الكف»، «أحيا»، «في الجيد لهب». «قطرة حب»، و»تغاريد». ولها مجموعة أخرى من المخطوطات الأدبية والتوثيقية.
صالح زايد كان وفيًا للقضايا الثقافية ومؤمنًا بالدور الفعّال للثقافة
كتابك الأخير الصادر عن دار خيال للنشر والترجمة، حول الكاتب والصحفي الراحل صالح زايد. لماذا اِستحضار زايد بالذات. ولماذا هذا الوفاء والاِحتفاء بسيرته ومسيرته. بعد سنوات من رحيله؟
نسيمة بن عبد الله: لم أكن وأنا في مُقتبل العمر سوى قارئة لصالح زايد عبر جريدة النصر، وأجمل ما في جيلنا رغم شح سُبل المعرفة أنّ وسائل الإعلام (جريدة، إذاعة، تلفزيون) كانت تؤدي دوراً إعلاميًا ودوراً سياسيًا، ودوراً ثقافيًا واجتماعيًا، فلم يكن من السهل على بلادنا (شعبًا ودولةً) تخطي عتبة الجهل التي فرضها الاِستعمار الفرنسي على هذا الوطن أكثر من قرن وثلاثين سنة لولا تضافر جهود المدرسة مع الإعلام بأنواعه مع المسجد، مع الحركة الجمعوية بمختلف أطيافها فكان المجتمع يضجُّ حركةً وكانت الأحلام تملأُ الرؤوس، وتغمرُ القلوب، فالمجتمع المُتحرِّر من ربقة الاِستعمار كانت عيونه مفتوحة على الأُفق البعيد، وكان فكره يتطلع لبناء دولة لا تزول بزوال الرجال، دولة يكون لها الشأنُ العظيم كما تمناه وكما سعى إليه الشهداء وهم يُضمخون تراب هذه الأرض الطاهرة بدمائهم الزكية.
قد يستغرب القارئ الشاب اليوم في ظل اِنتشار وسائل التواصل الاِجتماعي وتوفر سُبل المعرفة –إلاّ على من أبى– أنّنا كُنا وحتّى التسعينيات من القرن الماضي نصنع «طوابير» من أجل الظفر بعدد من جريدة النصر أو الشعب أو المجاهد الأسبوعي أو الجمهورية، وكُنا ننتقل من مكتبة إلى مكتبة لعلنا نظفر بعدد من مجلة الثقافة أو آمال أو الجزائرية أو الوحدة، أو مجلة رياض للأطفال. لقد صنعت كلّ هذه العناوين وغيرها نهضة إعلامية وحركية ثقافية كبيرة على الرغم من وجودها تحت قبة الحزب الواحد كما بثت الوعي عند الطالب والعامل والفلاح والمرأة الماكثة في البيت...
لقد كانت يومها الساحة الثقافية الجزائرية تعجُّ بالحراك الثقافي المحمود حيث الكلمة المبدأ، والحوار البناء والرؤيا الموقف، وكانت جريدة (النصر) ملتقى الكُتّاب والمفكرين والشعراء والمتهمين بالقضايا الفكرية والوطنية من كلّ ربوع الوطن فكنا نتسارع لاقتنائها، وفي أحيان كثيرة نحتفظ بأعداد أو صفحات منها.
وعبر جريدة النصر، تعرفتُ على كتابات صالح زايد من خلال عموده «قضية وموقف» بصفحة «فنون وثقافة»، وكذا بعض التغطيات الإعلامية التي كان يقوم بها للجريدة، كنتُ مواظبة على متابعة ذلك العمود إلى جانب ما كان ينشر في صفحة «ثقافة وفنون» وكانت أختي (سعاد) تبكِّر حتّى تقتني لي عددا لأنّ الطوابير كانت كبيرة أمام كشك بيع الجرائد، قد يبدو هذا المشهد اليوم غريبًا لكنّه الحقيقة التي اِلتهمتها الشبكة العنكبوتية ولامبالاة تعدَّدت أسبابها.
في عموده «قضية وموقف» صنع صالح زايد التفرد والتميز من خلال المواضيع التي كان يطرقها والتي تتواءم وعنوانه القار، حيث ظل وفيًا للقضايا الثقافية كما في بداياته الأولى في جريدة المجاهد الأسبوعي، مؤمنًا بالدور الفعّال للثقافة في التغيير المنشود للمجتمع نحو الأفضل وإخراجه النهائي من ربقة التخلف الّذي فرضه عليه الاِستعمار الفرنسي طيلة قرن وثلث قرن من الزمن.
تكمن أهمية كتابات زايد صالح في اِرتباطها الوثيق بالتطلعات الثقافية الوطنية
كيف يمكن أن تكون العودة لكاتب وإعلامي، ظلّ غائبًا عن المشهد الأدبي والإعلامي منذ رحيله؟
نسيمة بن عبد الله: السؤال الّذي راودني فعلاً: كيف يمكن أن تكون العودة لكاتب وإعلامي دون دليل عن أسباب ودوافع عودته؛ فقمت بعملية بحث -لم تكن سهلة- في مسيرته وخط سيره والتعرف على الشخصيات الثقافية التي كانت تربطه به صداقات أو يعرفونه عن قرب والذين يمكنهم أن يشاركوا في الملتقى، وكان لابدّ من مضاعفة البحث أكثر عن أعماله ومقالاته والمشاركة بها في الملتقى الأوّل حول الراحل، والّذي تحوَّل إلى يوم دراسي اِحتضنته دار الثقافة بسكيكدة في 24 مارس 2016. كما أنّ كتابات صالح زايد التي جمعتها أعددتُ بها مع ابنتي أخ صالح زايد (سعيدة وحنان) وعمال دار الثقافة معرضا لها على هامش اليوم الدراسي.
بعد اليوم الدراسي واصلتُ البحث عن كتاباته وجمعتُ ما أمكنني جمعه ولأهمية هذه الكتابات وارتباطها الوثيق بالتطلعات الثقافية الوطنية، والتي تُشكل جزءا مهمًا من ذاكرة الوطن، وبصمةً في الإعلام الثقافي الجزائري وحتّى لا يضيع ذلك الجهد الّذي بذلته في جمعها سدىً، وبدعم كبير من الأساتذة: سليم قلالة، السعيد بوطاجين، الإعلامي علي سالم وسارة بلعالية، والأديب السيناريست كمال لعرابي الّذي أمدني بعديد المراجع، رأت فكرة هذا الكِتاب النّور. تُضيء كتابات الإعلامي صالح زايد الّذي أفنى أيّامه لحظة، لحظة في خدمة الإعلام الثقافي في الجزائر وخدمة الثقافة الجزائرية، والدفاع عن المواقف الحرَّة مهما كان الثمن غاليًا حيث قمت بقراءة مبسطة، في كتاباته مع إضاءة جوانب خفية فيها، وتحيينها. وقد حاولتُ في ذلك ما استطعت وكنتُ كلّ مرّة ألجأ إلى المزيد والمزيد متمثلة مقولة القاضي الفاضل: عبد الرحيم البيساني -والتي تنسب لأبي الفرج الأصفهاني- الّذي يقول «إني رأيتُ أنّه لا يكتب أحد كتابًا في يومه إلاّ قال في غده لو غيَّر هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدر هذا لكان أجمل، وهذا من أجل العبر وهو دليل على اِستيلاء النقص على جملة البشر» وهذا ما جعلني أؤجل إصدار هذا الكتاب إلى الآن.
قسمتِ الكتاب إلى أحد عشر فصلاً، إضافةً إلى التقديم، لكنك اِحتفظت في أغلب عناوين الفصول بالعناوين التي وظفها صالح زايد في كتاباته. لماذا هذا التوظيف لعناوين سبق للكاتب أن وظفها في كتاباته ومقالاته؟
نسيمة بن عبد الله: هذا صحيح. لقد اِحتفظتُ في أغلب عناوين الفصول بالعناوين التي وظفها صالح زايد في كتاباته. فضلاً عن الهوامش أدرجتُ لكلّ فصل إحالات، تُحيلنا على الكثير من الشروحات اِستقيتها من مراجع مختلفة وكذا مواقع إلكترونية. كما ضمنتُ الكِتاب ملاحق مقالات صالح زايد في مختلف أبواب كتاباته وصوراً لبعضها من الجرائد الوطنية التي كَتَبَ فيها، على غرار: (المجاهد الأسبوعي، النصر، الشعب) حتّى تكون بين يدي القرّاء لبنة أولى في البحث فيما كتبه، وما كتبه غيره من إعلاميينا من الأجيال السابقة.
آمل أن يكون هذا الكِتاب حافزاً للباحثين وللطلبة لأن ينفضوا الغُبار عن أرشيفنا الإعلامي الضخم
كتابك جاء ليؤكد أهمية أرشيف الصحافة بكلّ تخصصاتها، ومنها أرشيف الصحافة الثقافية.
نسيمة بن عبد الله: هذا صحيح. إنّ أرشيف الصحافة الوطنية زاخر بالكتابات -الثقافية والسياسية- التي تستحق العودة إليها وإخراجها إلى النّور، وآمل أن يكون هذا الكِتاب حافزا للباحثين وللطلبة لأن ينفضوا الغُبار عن أرشيفنا الإعلامي الضخم فكثير من كُتّابنا وإعلاميينا من جيل السبعينات والثمانينات والأجيال التي سبقتهم، ظلت كتاباتهم حبيسة الأدراج، أو اِحتوتها صفحات الجرائد والمجلات ولم تر النّور كُتبًا، ولا قراءات فيها... هذه الكتابات جزء ثري من تاريخنا الثقافي والسياسي، علينا أن نعمل كأفراد ومؤسسات للعودة إليها، ونزع ثوب النسيان والتناسي عنها، فهي ذاكرتنا الغائبة التي لابدّ أن تعود، وفي عودتها عودة الوعي بتاريخنا، فلا مستقبل لنا دون قراءة تاريخنا. يبقى التأكيد أنّه مع تطور وسائل الإعلام، وتغلغلها في حياة المتلقين، واتجاهها نحو التخصص بات الإعلام الثقافي حتمية.
كانت الجرائد لجيلنا بمثابة نافذة نطل من خلالها على العالم
من خلال بعض ما جاء في الكتاب. نكتشف مدى اِهتمام وشغف جيلكم بالجرائد الوطنية. وكأنّها نافذة أو ملاذ؟
نسيمة بن عبد الله: كانت تلك الجرائد رفيقة قهوة الصباح والمساء حتّى بداية التسعينيات أين اِنتشرت فكرة التكفير، والتقتيل للأقلام التي ظلت ملتصقة بهذا الشعب فقُتِل الكثيرون، وكثيرون مِمَن نجـوا اِختاروا الهجرة حفاظًا على أرواحهم، وحُوصرت عديد العناوين وضُيِّق عليها الخناق فانزاحت عن الساحة الإعلامية أو أُزيحت، ولم يبق من الرعيل الأوّل لتلك العناوين الماجدة ينافح سوى يوميات (النصر، الشعب، الجمهورية)، وقد كانت –حقًا- هذه العناوين لجيلنا نافذة نطل من خلالها على العالم، وكانت لنا نحن هواة الأدب المساحة المفتوحة أمامنا، التي عرفتنا بكُتّابنا على مساحة الوطن والذين زينوا الساحة الأدبية الجزائرية آنذاك فكانوا إضافةً جميلة للرعيل الأوّل من الكُتّاب والشعراء الجزائريين، كما عرفتنا بتلك الأسماء العربية التي ساهمت مساهمةً فعّالة في الحركة الثقافية في الجزائر كالكاتب والناقد حسن فتح الباب، والشاعر عز الدين المناصرة، وابن الشاطئ، والكاتب السوري أحمد دوغان. حسين أبو النجا وغيرهم.